كان النظام الأمريكي منذ نشأته نموذجاً للديمقراطية وسيادة المؤسسات المنتخبة شعبياً واستقلاليتها كتعبير عن إرادة الشعب وحكمه، لكنّ السنوات العشرين الأخيرة شهدت أكثر من رئيس ينتخبه عدد أقل من الشعب لكنه يفوز، ومع وصول دونالد ترامب للرئاسة بات الأمر أكثر إلحاحاً، هل حان الوقت للشعور بالقلق؟
شبكة سي إن إن الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: «هل حان الوقت للقلق بشأن أمريكا؟ ما بعد المحاكمة البرلمانية»، أعده زخاري وولف، كاتب أول لدى الشبكة، تناول مسيرة النظام الديمقراطي في الولايات المتحدة والتناقضات التي أصبحت تسيطر عليها.
ماذا حدث في محاكمة عزل ترامب؟
ستحين لحظة في الأسابيع أو الأشهر القليلة المقبلة -إن لم تكن قد حانت بعد بالفعل- يتساءل المرء فيها إذا ما كان هذا الشيء الذي يُسمَّى أمريكا برُمّته على حافة انهيارٍ بصورةٍ ما.
لقد حاكمنا الآن برلمانياً ثالث رؤسائنا، بعد تحقيقٍ استثنائي وسريع على نحوٍ استثنائي أيضاً في إساءة استغلاله للسلطة قبيل انتخابات 2020، وهي التحقيقات التي برزت فيها شكوى أحد المخبرين، وتهديدات الرئيس بحق موظفة عامة كبيرة حرفياً أثناء إدلائها بشهادتها، وشبه الانشقاق لمستشار الأمن القومي السابق، فضلاً عن بعض المظاهر اللامنطقية المثيرة للذهول حقاً من بعض الشخصيات العامة.
جاء كل ذلك عقب تحقيقٍ منفصل تماماً لم يخلص -بصرف النظر عما يدَّعيه الرئيس- إلى تبرئة القائد العام للجيش الأمريكي بصورة تامة في ما يتعلَّق بتعاملاته مع طرف فاعل أجنبي خلال انتخابات 2016، وهو التحقيق نفسه الذي أفضى إلى الإدانة الجنائية، أو الاعتراف بالذنب، لعديد من كبار المسؤولين، بمن فيهم مستشار سابق آخر للأمن القومي بالبيت الأبيض.
وإن كنتم نشأتم على الثقة في ديمومة التجربة الأمريكية في الحكم، واقتنعتم بمقولة أنَّ النسخة الأمريكية من الديمقراطية هي «منارة العالم»، فإنَّ الوقت حان كي تشعروا بالقلق.
ماذا بعد؟
ليس الأمر أنَّ رئيساً، حُوكِم برلمانياً لأنَّه استدعى نفوذاً أجنبياً للتدخُّل في الانتخابات الأمريكية، لديه فرصة كبيرة جداً للفوز بإعادة الانتخاب. ففي حين أنَّ هناك الكثير من أعضاء الكونغرس الجمهوريين الذين قد يعترفون سراً بأنَّ استخدام أموال دافعي الضرائب للضغط على حكومة أجنبية لتقديم صنيعٍ سياسي هو أمر خاطئ، يبدو أنَّ هؤلاء غير مستعدين أو غير قادرين على استدعاء ترامب للمساءلة علانيةً، وتنازلوا بدلاً من ذلك عن سلطتهم، ما تسبب في تقويض نظام الضوابط والتوازنات بين السلطات الذي حافظ على استمراريتنا.
ويمكنكم الاطلاع هنا على خبايا الكيفية التي جرت بها الأمور، الجمعة 31 يناير/كانون الثاني، بما أدَّى إلى تصويت مجلس الشيوخ على المضي قدماً في المحاكمة دون استدعاء الشهود، كما أوردها الصحفي بشبكة CNN الأمريكية كيفن ليبتاك.
جرى تذكيرنا يوم الجمعة الماضي، مجدداً، بأنَّنا سنبقى نكتشف تفاصيل بشأن قرار حجب 400 مليون دولار من المساعدات عن أوكرانيا، وذلك بفضل بيانات قضائية أكَّدت فيها وزارة العدل الأمريكية حجبها 24 رسالة بريد إلكتروني تتعلَّق بدور ترامب. وكانت محاولات ترامب للضغط على أوكرانيا من أجل التحقيق في أعمال هانتر بايدن وجو بايدن، منافسه السياسي المحتمل، في القلب من المحاكمة البرلمانية للرئيس. وأصدر ترامب مراراً ادعاءاتٍ خاطئة ولا أساس لها للزعم بأنَّ آل بايدن ارتكبوا أخطاء في أوكرانيا.
ولا يزال البعض يحدوهم الأمل في أن يغير الجمهوريون رأيهم ويُصوِّتوا لعزل ترامب يوم الأربعاء المقبل 5 فبراير/شباط. وهذا منطقي تماماً بقدر منطقية السيناريوهات السابقة التي تكهَّنت باستبعاد ترامب بطريقةٍ ما من سباق الحصول على ترشيح الحزب الجمهوري في انتخابات الرئاسة خلال المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري عام 2016، أو سيناريوهات هزيمته بفعل أصوات الناخبين الناكثين، أو سيناريوهات منعه بطريقةٍ ما من أداء اليمين رئيساً، وتتحدد وِجهة أمريكا بكاملها الآن في انتخابات 2020.
الشعب ليس له القول الفصل في الانتخابات
لكن، وبالمعنى الدقيق للكلمة، لن يكون «الشعب» هو بالضرورة مَن يختار الرئيس المقبل، بل سيكون المجمع الانتخابي، وهي طبقة وضعها المؤسسون بين الشعب والرئاسة، والتي تطورت لتمنح بعض الأمريكيين صوتاً أقوى من الآخرين.
ومن المحتمل جداً ألا يصبح الشخص الذي يحصل على أكثر الأصوات في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل هو الرئيس، وهو بالضبط ما حدث في 2016، هذه السمة الغريبة في جمهورية مثل الولايات المتحدة حدثت مرتين خلال السنوات العشرين الماضية. ويمكن أن تحدث مجدداً بكل سهولة، بالنظر إلى مدى ضعف شعبية ترامب في مراكز سكانية كبرى ومدى قوة الدعم له في الريف الأمريكي، حيث يتمتع المصوتون بسلطة أكبر مما ينبغي، وهناك حفنة من الولايات التنافسية، وأيَّاً كان مَن يفوز، سيكون نصف الشعب محبطاً.
أين صمام الأمان؟
والوضع مشابه في مجلس الشيوخ، حيث تتمزَّق عُرى النظام الذي كان الهدف منه ربط الجمهورية ببعضها البعض، إذ تحصل ولاية كاليفورنيا، التي تميل بقوة للديمقراطيين وتمثل خامس أكبر اقتصاد في العالم وبها 40 مليون نسمة، داخل مجلس الشيوخ على نفس عدد الأصوات الذي تملكه ولاية وايومينغ التي تميل للجمهوريين، والتي تضم عدد سكان أكبر بقليل من مدينة فرينسو (سادس أكبر مدينة بولاية كاليفورنيا).
وعدد سكان فرينسو ووايومينغ معاً لا يقترب أبداً من عدد سكان بورتوريكو، وهي جزيرة مليئة بالأمريكيين الذين لا يمكنهم حتى التصويت لاختيار الرئيس إلا إذا انتقلوا إلى ولاية أمريكية.
لقد تطورت البلاد بطريقة ستستمر فيها الانقسامات العرقية والاجتماعية-الاقتصادية في التدهور نحو الأسوأ، ولا يوجد صمام أمان للمكونات الواقعة تحت الضغط في قمة الحكومة الأمريكية، والمتمركزة في مجلس الشيوخ.
التراجع إلى الزوايا
كتب المحلل السياسي الكبير لدى شبكة CNN رونالد برونستاين هذا الأسبوع عن كيف تتصارع أمريكا الحمراء (الجمهورية) والزرقاء (الديمقراطية)، مُمثَّلةً بمجموعتين من الولايات، في مجلس الشيوخ بدلاً من البحث عن أرضية مشتركة، ويمكنكم قراءة كامل المقال من هنا.
وكتب: «اليوم، يُنتَخب معظم أعضاء مجلس الشيوخ المنتمين لحزب الرئيس في نفس الولايات التي صوَّتت له كذلك –ما يزيد الضغط عليهم للوقوف معه- في حين أنَّ كل أعضاء المجلس من الحزب الآخر تقريباً جاؤوا من ولايات صوَّتت ضد الرئيس، ما يزيد الضغط عليهم لمعارضته. ومن بين أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين الـ53 الذين يشاركون في تولي محاكمة ترامب، انتُخِب 51 في ولايات دعمت الرئيس في انتخابات 2016».
وأضاف: «أسهمت هذه الضغوط الانتخابية في إعادة تشكيل مجلس الشيوخ ليصبح مؤسسة صراعية جامدة على مرأى من الجميع، مؤسسة تمارس فيها القيادة سيطرة أكبر مما كان في الأجيال السابقة، ويُنتَظَر من الأعضاء الأفراد إظهار مستوى من الولاء لنهج الحزب يُذكِّرنا بالنظم البرلمانية في أوروبا، ولا يوجد مجال كبير لإبرام الصفقات بين الحزبين، وهي السمة التي كانت مميِّزة للسيناتورات الكبار بدءاً من السيناتور هنري كلاي عن ولاية كنتاكي في القرن التاسع عشر، ووصولاً إلى السيناتور بوب دول عن ولاية كانساس، وإدوارد كينيدي عن ولاية ماساتشوستس في أواخر القرن العشرين.
لا مجال للمعارضة
رأينا بعض الأسباب التي تفسر لماذا تغيَّر هذا عقب تصويت مجلس الشيوخ يوم الجمعة ضد استدعاء الشهود في محاكمة ترامب البرلمانية. فـ «لم يُدعَ» ميت رومني، السيناتور عن ولاية يوتا والمنتقد أحياناً لترامب والذي كان أحد جمهوريين اثنين صوَّتا لصالح سماع الشهادات في محاكمة ترامب، إلى «مؤتمر العمل السياسي المحافظ»، وهو المؤتمر السنوي للمحافظين، بعد خروجه عن خط الحزب الجمهوري.
وجب الاعتراف بأنَّ رومني حاول بالفعل تخريب حملة ترامب الانتخابية في 2016، وحاول الحفاظ على بعض الاستقلالية في عمله كسيناتور. وأُجبِر منتقدون آخرون –السيناتور جيف فليك وبوب كوركر– على مغادرة مناصبهم. وأُجبِر النائب عن ولاية ميشيغان بمجلس النواب، جاستن أماش، على مغادرة الحزب قبل أن يصوت لصالح محاكمة ترامب برلمانياً في مجلس النواب.
التحول من النقيض إلى النقيض
ينبغي أن يكون من المقلق عدم التسامح مع المعارضين الصادقين، الذين يتعرَّضون للترهيب أو التنمُّر أو يسعون ببساطة للحفاظ على أنفسهم كسياسيين. وقد غيَّر آخرون مواقفهم، أحياناً على نحوٍ محير. إذ اعتاد السيناتور ليندسي غراهام على أن يكون أفضل صديق لجون ماكين، وكان معارضاً لرئاسة ترامب تماماً كما كان رومني في 2016. وقارن الرجل تولي ترامب الرئاسة بأنَّه موت. لكن الآن، حوَّل نفسه إلى محارب داعم لترامب في مجلس الشيوخ. لم يتغير ترامب، لكنَّ غراهام تغيَّر.
والقِلّة من المشرعين الجمهوريين -الذين انتقدوا في النهاية سلوك ترامب تجاه أوكرانيا- قالت، أثناء محاكمته البرلمانية وتبريراً لعزمهم تبرئته، إنَّ الشعب يجب أن يحصل على الحق في انتخاب رئيسه.
فقال السيناتور لامار ألكسندر، الجمهوريّ المُمثِّل عن ولاية تينيسي ويعتزم التقاعد، في بيانٍ مدروس ومُصاغ بعناية بشأن تصويته: «أعتقد أنَّ الدستور ينص على أنَّه يجب على الشعب اتخاذ هذا القرار في الانتخابات الرئاسية التي تبدأ في ولاية أيوا الإثنين المقبل».
في يوم السبت، 1 فبراير/شباط، بثت شبكة NBC مقطعاً من مقابلة «تعرف على الصحافة» بدا فيه أن ألكساندر كان يتحرك صوب هذا الاتجاه هو الآخر. إذ يقول: «لا أعتقد أنه كان ينبغي له أن يفعل ذلك. أعتقد أن ذلك كان خطأ منه. كنت لأقول إنها طريقة غير مناسبة، لا تليق، وفيها تجاوز لكل الخطوط».
رؤساء المستقبل بصدد استخدام السلطة التي استولى عليها ترامب
يتحول الأساس الديمقراطي إلى استفتاء حول السؤال الأساسي: هل يجب على اليسار تقليد أسلوب اليمين، أم أن هناك حلاً وسيطاً بعد الآن؟
قالت السيناتورة إليزابيث وارن إنها ستتخلص من المماطلة السياسية في مجلس الشيوخ لتشريع سياساتها، ومؤخراً قال السيناتور بيرني ساندرز إنه سيستخدم السلطة التنفيذية، حاله كحال ترامب، لإنهاء التحايل على الكونغرس الأمريكي. فوفقاً لتقرير نشرته صحيفة The Washington Post، أعلن ساندرز أنه يبحث في إعلان تغير المناخ باعتباره حالة طوارئ وطنية، مما قد يسمح للولايات المتحدة باستيراد أدوية طبية موصوفة أرخص من كندا كما يمكن أن يأمر وزارة العدل بإضفاء الشرعية على الماريغوانا بشكل فعال.
قد توافق على أي أو كل من سياسات واررين أو ساندرز، أو حتى سياسات ترامب، ولكن جوهر النظام بالكامل هو التسويات. صحيح أن لا أحد ينال كل ما يبغاه، إلا أن لا أحد يُحرم من كل ما يريده كذلك، ولكن الأمور الآن أصبحت لا هوادة فيها طوال الوقت، لدرجة أن عليك التأكد من هزيمة خصمك كلما استطعت.
ليس من المفترض أن تكون التسويات نوعاً من الشلل المعنوي، لكن الشلل المعنوي هو الشيء الوحيد الذي يبدو أن المشرعين قادرون على ممارسته.
بعد أن أقر الديمقراطيون قانون الرعاية الصحية لعام 2009، لم يتمكنوا من صقله، لأن الجمهوريين كانوا مصممين على نقضه، والآن نحن أمام نظام يترنح، كأنه مسخ يحاول الرئيس أن يتحكم به دون تقديم بديل.
تسبب قانون الضرائب لعام 2017 في إخراج الدين الأمريكي عن نطاق السيطرة، لكن من غير المرجح أن يتخذ الجمهوريون، الذين اشتكوا ذات يوم من العجز المرتفع، أي خطوة حيال ذلك بينما ترامب لا يزال هو المتحكم في السلطة. سيتوصَّلون إلى وصفة الميزانيات المتوازنة في الثانية التي يقدم فيها رئيس ديمقراطي اقتراحاً ببرنامج اجتماعي، سواء كان ذلك برنامج «الرعاية الطبية للجميع» أو اتفاقية «الصفقة الجديدة الخضراء» أو شيء ا أكثر محدودية.
تعتبر صلابة النظام وصعوبة تغييره ميزة تهدف إلى الحفاظ على انتشارية السلطة. لكن شلل الكونغرس مكن ترامب من انتزاع مزيد من السلطة ليحوزها البيت الأبيض. إذ مُنح تفويضاً مطلقاً لتجاهل الكونغرس، لبناء الجدار العازل وتعليق أمر تلقي المساعدات الخارجية، من قبل مجلس الشيوخ الذي تخشى أغلبيته الجمهورية من انتقاده.
ليس هناك من إجابات جيدة
قد يستغرق أمر تعديل الدستور، الذي عُدّل آخر مرة منذ عشرين عاماً، وقتاً طويلاً ويتطلب مستوى من الاتفاق لا يتناوله أحد بالحديث بجدية. اقترح الديمقراطيون القيام بإصلاحات انتخابية بعد أن خسر مرشحوهم البيت الأبيض بمزيد من الأصوات. لكن الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ لن تسلم السلطة عن طيب خاطر.
من المفترض أن يكون مجلس النواب أقرب شق حكومي للناخبين، ولكن عدد المشرعين، المحدد والثابت، قد توسع إلى أكثر من 700 ألف مشرّع لكل عضو في الكونغرس في معظم الولايات. كما تحظى العديد من الدول الأخرى بعدد أكبر بكثير من المشرعين يمثل كل منهم عدداً أقل بكثير من الناس.
بدلاً من إضافة المزيد من المشرعين لدولة متنامية، تحدَد حجم الكونغرس منذ عام 1929، والآن تجوب الولايات المقاطعات لمساعدة الحزب الذي يتولى السلطة، وهكذا ترسِّخ للتحيز الحزبي. بدورها، باركت المحكمة العليا هذه الممارسة هذا العام.
صحيح أن مقترحات لتغيير الأوضاع تتنامى إلى الأسماع، سواء بفصل ولاية كاليفورنيا عن الولايات المتحدة أو تقسيم ولاية تكساس، لكن تلك المقترحات لا تجد طريقها لأرض الواقع. في السنوات الأخيرة، اقترح البعض عقد مؤتمر دستوري جديد، ولكن هذا الأمر يبدو ضرباً من الخيال كذلك.
أما بالنسبة للحكومة، فلن تفعل شيئاً حيال هذه المشكلات، لأنها عالقة في وضع الهجوم ودائماً ما تكون موجهة صوب الانتخابات القادمة، والتي ستبدأ في ولاية أيوا، الإثنين المقبل 3 فبراير/شباط.