بعد مرور شهر على بدء تفشي فيروس كورونا الذي اجتاح الصين، ما تزال تفاصيل الرد السياسي والإداري للحكومة الصينية شديدة الغموض.
وانتشرت تقارير حول قمع المعلومات وسوء الإدارة العامة لسلطات مدينة ووهان على شبكة الإنترنت الصينية لأكثر من أسبوع حتى هذه المرحلة، إلا أن الحقائق الملموسة التي يمكن تأكيدها قليلة نسبياً.
لكن الشيء الواضح الذي لا لبس فيه هو حجم وشدة القلق على وسائل التواصل الاجتماعي، الذي تُرجم الكثير منه إلى تشكيك صريح في النشاط الحكومي، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
لحظة حرية نادرة بفضل الفيروس
بمجرد إلقاء نظرة خاطفة على موقع Weibo ستكشف عن قدر هائل من الانتقادات، سواء المبطنة أو المباشرة، للرد الرسمي.
ومقارنة بالتحديات السياسية الأخرى التي أثارت قدراً كبيراً من الانتقاد الدولي على مدار العامين الماضيين، بدءاً من التعديلات الدستورية لعام 2018 إلى أزمتي الإيغور وهونغ كونغ، يشكل الوضع الحالي تهديداً أخطر للشرعية المحلية للدولة التي يحكمها حزب واحد.
وفي حين أن الاستجابة المحلية لهذه الأزمات الأخرى كانت في كثير من الأحيان هادئة بسبب الرقابة واللامبالاة، أو الموالاة الحقيقية للحكومة، بدا واضحاً أن تفشي فيروس كورونا قد أثر على الجمهور بشكل أكبر بكثير، وهذا أدى إلى انتشار التعليقات التي تعبر عن الغضب والإحباط على نطاق واسع نادراً ما يراه المرء هذه الأيام في ظل الرقابة الصينية على حرية التعبير على الإنترنت.
والحكومة تتساهل بشكل لافت للنظر بل إن أبواقها تشارك في النقد
ويبدو أن الحكومة تدرك خطورة التحدي، إذ تساهلت قليلاً في إدارتها للآراء على الشبكات الاجتماعية.
ورغم أن رقابة الإنترنت عادة ما تسارع بحذف أي انتقاد حاد للهيئات الحكومية، سمحت ببقاء حجم كبير من الانتقاد الحاد غير المعتاد، سواء على وسائل التواصل الاجتماعي أو في الصحافة. وفي الواقع، انضمت أكثر من بضعة جهات إعلامية حكومية إلى جوقة الانتقادات: على سبيل المثال، كتب هو شيجين، محرر صحيفة Global Times الخاضعة لسيطرة الحكومة، والتي عادةً ما يُنظر عليها على أنها صوت الحكومة الأمين في الخطاب الاجتماعي السياسي، مقال رأي انتقد فيه مباشرة كل من حكومة مدينة ووهان وسلطات التنظيم الطبي المركزية على تحركاتهما الأولية ووصفها بأنها غير كافية.
هل يخشون ثورة الشعب؟.. الخبر السعيد في الانتقادات بالنسبة للحكومة
ويبدو أن هناك إدراكاً عاماً في أجهزة الدولة بأن القمع العدواني لانتقادات الشعب سيؤدي إلى رد فعل عنيف لا يمكن السيطرة عليه؛ بمعنى آخر، وصلت تعاسة الشعب إلى هذه الدرجة الخطيرة، وأصبحت الاستجابة الوحيدة القابلة للتطبيق بالفعل هي استرضائه.
يتمثل الجانب المشرق بالنسبة للقيادة الحزبية في هذا السيناريو شديد الخطورة في ما يبدو أنه تمحوُر الغضب الشعبي في المقام الأول حول النشاط الحكومي المحلي، وليس المركزي، والطبي.
وما يمكن أن نقوله إن عامة الناس استجابوا بشكل إيجابي نسبياً للخطوات الواضحة التي اتخذتها الحكومة المركزية منذ انتشار الفيروس، مثل الحجر الصحي لمدن متعددة في مقاطعة خوبى، وتوجيه الموارد الطبية في جميع أنحاء البلاد إلى منطقة ووهان، وتشكيل مجموعة عمل خاصة داخل قيادة الحزب للتصدي للوباء، وتعيين الخبير في التعامل مع تفشي متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد (سارس) تشونغ نانشان لقيادة فرقة الخبراء، وهلم جراً.
المسؤولون أصبحوا هدفا للسخرية
إلا أن حكومة مدينة ووهان وسلطات مقاطعة خوبي كانت هدفاً للسخرية على نطاق واسع.
فعندما ثبت زيف الشائعات حول إقالة العديد من المسؤولين على مستوى المدينة، بمن فيهم رئيس بلدية ووهان، وخضوعهم للتحقيق بسبب سوء إدارتهم، ظهر تعليق على موقع Douban يقول بسخرية مريرة: «الشائعات كانت لا تمثل سوى الآمال والأحلام الجميلة للناس». (وُحذف هذا التعليق من حينها، بعد أن ظل منشوراً لمدة أسبوع تقريباً). وبالمثل، حين ظهرت تقارير عن ندرة المعدات والأماكن في نظام ووهان الطبي، بدا من المرجح أن تلقي تعليقات وسائل التواصل الاجتماعي باللوم على انعدام كفاءة الحكومة المحلية، وليس فشل السلطات المركزية في حشد الموارد الوطنية.
هذا على عكس وسائل الإعلام الأجنبية التي ألقت باللوم على السلطات المركزية أو النظام البيروقراطي الصيني ككل.
هل سبق أن تساهلت الدولة مع مثل هذه الانتقادات الموجهة للحكام الإقليمين؟
وثمة ثلاث طرق مختلفة على الأقل لتفسير هذا الاختلاف في رد الفعل الشعبي. الأول، الذي من المرجح أن يميل إليه منتقدو الحزب الحاكم في الصين، هو أن انتقاد السلطات المركزية، وخاصة قيادة الحزب، على وسائل التواصل الاجتماعي الصينية أمر شديد الخطورة، في حين أن عواقب انتقاد السلطات المحلية عموماً أقل خطورة بكثير.
قد يكون هذا صحيحاً كلياً في هذه الحالة بالذات، لكنه ليس صحيحاً بشكل عام: فغالباً ما ترد السلطات الإقليمية والمحلية بالقدر نفسه من العدوانية مثل العديد من فروع الحكومة المركزية، إن لم يكن أكثر، وخاصة الفروع الأكثر تكنوقراطية، وعادة ما يسر السلطات المركزية تسهيل ذلك.
إلا أنه، في هذه الحالة، ثمة تقارير وفيرة عن محاولة السلطات المحلية قمع التقارير المبكرة عن تفشي فيروس كورونا، لتوبخها وتنتقدها لاحقاً السلطات المركزية ووسائل الإعلام الحكومية.
في الواقع، لم تتسامح السلطات المركزية مع هذه الانتقادات واسعة النطاق للسلطات المحلية فحسب، بل وبدأت في تشجيعها.
إذ نشر مجلس الدولة، يوم الجمعة الماضي، دعوة وطنية إلى الإبلاغ عن سوء إدارة السلطات المحلية وقمع المعلومات. والسؤال إذن هو لماذا اتخذت الحكومة المركزية، في ظل هذه الظروف، مثل هذا الموقف العدواني في مواجهة مرؤوسيها في المقاطعات والمدن. وهذا يتطلب شرحاً أعمق إلى حد ما.
هل المسؤولون المحليون هم سبب تفشي الفيروس حقا؟
وأما التفسير الثاني فهو، من الناحية الموضوعية، أن السلطات المحلية هي المسؤولة في المقام الأول عن هذا الوضع المزري وتناميه، وبالتالي يجب أن تتحمل نصيب الأسد من اللوم.
ومن شبه المؤكد أن هذا ما تود السلطات المركزية الصينية أن يؤمن به الشعب، لكن هذا التفسير مشكوك في صحته قليلاً أيضاً، رغم أنه يحمل مسحة من الحقيقة.
فرغم أنه من الجائز أن بعض المحاولات بُذلت لقمع المعلومات في وقت مبكر على المستوى المحلي، فبدءاً من 31 ديسمبر/كانون الأول وبعده، فور أن أرسلت لجنة الصحة الوطنية فريقاً من الخبراء لتقييم الوضع في ووهان، أدت السلطات المركزية دوراً واضحاً- وحاسماً على الأرجح- في جميع الإجراءات الإدارية والسياسية الرئيسية.
وفضلاً عن ذلك، إذا رغب أحدهم في إلقاء اللوم على السلطات المحلية في تصرفها بشكل غير حاسم، أو لمحاولتها المصطنعة للتظاهر بالهدوء، فيجب عليه أيضاً إلقاء اللوم على النظام المركزي للمراجعة والترقية والعقاب الذي يحفزها على فعل ذلك.
وجرت العادة على ألا يكون هناك تمييز واضح بين الحكومة المحلية والمركزية عند إلقاء اللوم وتحميل المسؤولية عن الوضع الحالي.
على عكس دول العالم .. الصينيون يميلون الإشادة بالحكام المركزيين وليس الإقليميين
وأما التفسير الثالث فيقدم طريقة لتجاوز هذه الصعوبات التجريبية والتحليلية: فهو يرى أن الديناميات المركزية والمحلية الحالية هي نتاج وتعزيز لكل «السمات الخاصة» المتجذرة للشرعية الاجتماعية والسياسية الصينية.
ومثلما توصل عدد من الدراسات، لدى الرأي العام الصيني منذ وقت طويل نظرة إيجابية عن الحكومة المركزية أكثر من تلك التي لديه عن حكومة المقاطعة أو الإقليم. إلا أن الأسباب الدقيقة لهذه الظاهرة غير واضحة، فالوضع كان عكس ذلك إلى حد كبير في العصر الجمهوري، ومن المرجح أن هذا التغيير كان مرتبطاً بمركزية السلطة والشرعية السياسية في عهد ماو تسي تونغ، لكنه واحد من أكثر الأمور الصادمة وغير العادية في السياسة الصينية المعاصرة.
إذ تميل معظم الحكومات في مختلف أنحاء العالم إلى وضع ثقة أكبر في المسؤولين الأقرب إلى حياتهم اليومية. لأنه من الأسهل مراقبتهم ومتابعتهم، وهم أكثر عرضة لضغوط المجتمع المحلي، وبالتالي يُنظر إليهم على أنهم أكثر عرضة للمساءلة.
أما السلطات المركزية فهي على النقيض من ذلك، بعيدة، وغامضة، وأقل جدارة بالثقة. إلا أن السياسة الصينية تبنت السيناريو العكسي لفترة طويلة: فيُعامل المسؤولون المحليون على أنهم فاسدون وغير أكفاء، في حين يُفترض أن المسؤولين في بكين أكثر احترافية وانضباطاً. ومن هذا المنظور، يعد تركيز لوم الشعب على السلطات المحلية خلال تفشي فيروس كورونا ببساطة أحدث تجسيد لنمط اجتماعي سياسي شديد القوة والرسوخ.
ومن المرجح جداً أن تاريخ هذا النمط يسبق نظام الدولة التي يحكمها حزب واحد الذي أعقب حقبة ماو، لكن قوتها ونفوذها المستمر هما أيضاً شيء زرعته السلطات المركزية، على أغلب الظن، وعززته على مر السنين.
وغالباً ما يصور الإعلام الرسمي الفساد على أنه مشكلة محلية بالدرجة الأولى، حتى أنه يميل إلى التسامح مع الرقابة اليومية على النقد الموجه ضد الحكومات المحلية أو حتى تسهيلها.
وفي أعقاب الكوارث الطبيعية الكبرى، مثل زلزال ونتشوان عام 2008، كانت وسائل الإعلام تميل بالمثل إلى تصوير السلطات المركزية في ضوء أكثر إيجابية من نظيرتها المحلية، رغم أن المسؤولين المحليين كانوا يتمتعون عموماً بزيادة هامشية أقوى في شعبيتهم من أي حديث إيجابي عنهم في وسائل الإعلام.
وهكذا يمنعون تحدي شرعية الحزب الشيوعي
وثمة أسباب قوية لفعل ذلك: إذ تستفيد الحكومة المركزية من القدرة على تحويل اللوم إلى مرؤوسيها المحليين في أوقات الأزمات الخطيرة.
ويساعد هذا في منع الإحباط المجتمعي إزاء حوادث معينة من أن يتنامى ليصبح تحدٍ أكبر للشرعية السياسية لدولة الحزب الواحد في وقت يمكنها فيه تهدئة الغضب العام بطرق أقل تكلفة، أي عن طريق إلقاء اللوم على المسؤولين المحليين وإقالتهم.
ويبدو أن التعامل مع تفشي فيروس كورونا الحالي قد اتبع إلى حد كبير هذه القواعد: إذ تزامن تولي الحكومة المركزية مسؤولية تدابير مكافحة الفيروسات، كما ذكر أعلاه، مع دعوة عامة شديدة الوضوح للإبلاغ عن سوء تصرف المسؤولين المحليين وسوء معاملتهم، في حين فتح مراقبو الإنترنت خلال الأسبوعين أو الثلاثة أسابيع الماضية، الباب أمام الانتقادات الشعبية للسلطات المحلية.
ومن منظور أكثر عمومية، كانت الإستراتيجية السياسية للرئيس شي جين بينغ على مدار السنوات الخمس الماضية المتمثلة في الجمع بين تدابير مكافحة الفساد القوية والإصلاحات المؤيدة للشرعية وبين المركزية الإدارية العدوانية، إلى حد ما على الأقل، محاولة واعية لتسخير ثقة الجمهور العالية في السلطة المركزية لتحقيق مكاسب سياسية.
إلا أنه كلما أكثر من فعل ذلك، زادت الفجوة في الثقة بين السلطات المركزية والسلطات المحلية.
هل تنهار البلاد خلال الأزمات بسبب هذا الأسلوب الإداري؟
بيد أن هذه الأنواع من التكتيكات لا تأتي دون ثمن ويمكن استخدامها باعتدال فحسب. فحتى خلال الأزمات الكبرى، لا يمكن للحكومة المركزية أن تسمح لثقة الشعب بالسلطات المحلية أن تنهار بشدة، خشية أن تتدهور قدرتها على إدارة الحكم والإدارة اليومية إلى درجة لا يمكن إصلاحها. وهذا توازن شديد الضعف يمكن القول إنه يتعارض مع المصالح السياسية قصيرة الأجل للحكام المركزيين. إذ تميل المركزية السياسية إلى حد كبير إلى تعزيز نفسها: فكلما زادت الحكومة من مركزيتها في ظل الظروف الاجتماعية في دولة مثل الصين، قوضت ثقة الجمهور في القدرة الإدارية للمسؤولين المحليين، وهذا يزيد من تعزيز الفوائد السياسية قصيرة المدى للسلطات المركزية.
وإذا استسلمت السلطات المركزية لهذه الإغراءات قصيرة الأجل، فقد تغرق بسهولة في حلقة مفرغة من تحمل كميات متزايدة من المسؤولية الاجتماعية والسياسية.
وفي بلد بحجم الصين، من شبه المؤكد أن هذا لن يصمد على المدى الطويل. ومع ذلك، يتطلب التغلب على ميل السلطات المركزية لتعزيز مكانتها القدرة على تقدير النتائج طويلة الأجل والإرادة السياسية للتضحية ببعض المكاسب قصيرة الأجل من أجل سلامة طويلة الأجل لهيكلها. ويظل من الضروري معرفة ما إذا كانت قيادة الحزب الصيني تمتلك ما يكفي من هذين الأمرين، لكن بالنظر إلى التكاليف البشرية الكارثية المحتملة للفشل، لا يسع المرء إلا أن يأمل في أن تتمكن في النهاية من التوصل إلى التوازن الصحيح.