أنتجت شبكة Netflix مؤخراً مسلسلاً درامياً وثائقياً عن صعود الدولة العثمانية، وتحديداً معركة فتح القسطنطينية عام 1543م. بانتصار محمد الفاتح في هذه المعركة تم القضاء على الإمبراطورية البيزنطية التي استمرت أكثر من ألف عام وكانت مركز العالم الغربي والديانة المسيحية في القرون الوسطى بعد سقوط روما. فماذا تعرف أيضاً عن هذه الإمبراطورية الشاسعة؟ في هذا التقرير من موقع History ستتعرف أكثر عليها.
جذور الإمبراطورية البيزنطية الواسعة
كانت الإمبراطورية البيزنطية تمثِّل حضارةً شاسعةً وقوية ذات أصول يرجع تاريخها إلى عام 330م، عندما نقل الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول مقر الإمبراطورية إلى موقع مستعمرة بيزنطة اليونانية القديمة، وأطلق عليها «روما الجديدة».
بدأت القصة مع توسُّع الإمبراطورية الرومانية من الغرب إلى الشرق، ومع ترامي أطراف الإمبراطورية أصبح هناك أكثر من قائد عسكري يحكمون الإمبراطورية، وفي لحظةٍ ما، عيَّن الجيش قسطنطين العظيم إمبراطوراً، فخاض حروباً أهلية مع منافسيه وانتصر في النهاية عليهم، داخلاً روما إمبراطوراً عام 312م، لكنه قرر أن يبني مدينةً خاصةً به في الشرق عام 330، سماها «روما خاصتي» بديلاً عن روما الأخرى في الغرب، وبمرور الوقت سُمِّيت تلك العاصمة باسمه فأصبحت «القسطنطينية».
وقد جعل قسطنطين الديانة المسيحية ديناً رسمياً لروما والإمبراطورية كلها. لذلك فقد عُرِفَ مواطنو القسطنطينية وبقية الإمبراطورية الرومانية الشرقية باسم الرومان والمسيحيين في الوقت نفسه.
مع مرور الزمن، وبعد وفاة قسطنطين العظيم -كما يطلق عليه- انهار النصف الغربي من الإمبراطورية الرومانية وسقط عام 476، وبقي النصف الشرقي صامداً بعدها ألف عام، لتنتج تراثاً غنياً بالفن والأدب كما أصبحت حاجزاً عسكرياً بين أوروبا وآسيا. لكنها سقطت في النهاية عام 1453، على يد محمد الفاتح، وكان آخر أباطرتها على اسم مؤسسها: قسطنطين الحادي عشر.
بيزنطة.. المستعمرة اليونانية التي غلبت روما الكبرى
مصطلح «البيزنطية» مشتقٌ من بيزنطة، وهي مستعمرة يونانية قديمة أسسها رجل يدعى بيزاس. وبيزنطة على الجانب الأوروبي من مضيق البوسفور -المضيق الذي يربط البحر الأسود بالبحر الأبيض المتوسط- لذلك كانت بيزنطة تتمتَّع بموقعٍ مثالي، لتمثل نقطة عبور وتجارة بين أوروبا وآسيا.
ورغم أن قسطنطين حكم إمبراطوريةً رومانيةً موحَّدة، فقد أصبحت هذه الوحدة وهماً بعد وفاته عام 337. ففي عام 364، قسَّم الإمبراطور فالنتينيان الأول الإمبراطورية إلى قسمين غربي وشرقي، ونصَّب نفسه على رأس السلطة بالغرب وشقيقه فالينس في الشرق.
وتباين مصير المنطقتين بشكلٍ كبير على مدى القرون التالية. في الغرب، أدَّت الهجمات المستمرة من الغزاة الألمان والقوط الغربيين إلى تفتيت الإمبراطورية وتمزيقها إلى ممالك صغيرة حتى أصبحت إيطاليا فقط هي المنطقة الوحيدة الخاضعة للسيطرة الرومانية. وفي عام 476، أطاح أول ملوك البرابرة، أودواكر، بالإمبراطور الروماني الأخير، رومولوس أوغستولوس، وسقطت روما.
ازدهار الإمبراطورية البيزنطية
كان النصف الشرقي من الإمبراطورية الرومانية أقل عرضةً للهجمات الخارجية، ويرجع ذلك جزئياً إلى موقعه الجغرافي. مع وجود القسطنطينية على مضيق البوسفور، كان من الصعب للغاية اختراق دفاعات العاصمة، وبالإضافة إلى ذلك كان للإمبراطورية الشرقية حدودٌ مشتركة أصغر بكثير مع أوروبا.
استفادت الإمبراطورية البيزنطية أيضاً بشكل كبير من المركز الإداري القوي والاستقرار السياسي الداخلي، فضلاً عن ثروتها الكبيرة مقارنة بالدول الأخرى في فترة العصور الوسطى المبكرة. كان الأباطرة الشرقيون قادرين على ممارسة مزيد من السيطرة على الموارد الاقتصادية للإمبراطورية، وحشد القوى البشرية الكافية لمكافحة الغزو على نحوٍ أكثر فاعلية.
كما أن قوة تحصين العاصمة -القسطنطينية- جعلتها أكثر قدرةً وقوة في مواجهة الأعداء، إذ إنها محصنة بطريقة فعالة جعلت كل المحاصرين تقريباً يقفون تحت أسوارها مشدوهين منهزمين، وقد وضَّح المسلسل طريقة التحصين تلك بالتفصيل.
نتيجة لهذه المزايا، تمكنت الإمبراطورية الرومانية الشرقية، المعروفة باسم الإمبراطورية البيزنطية أو بيزنطة، من البقاء عدة قرون صامدةً قوية بعد سقوط روما.
ورغم أن بيزنطة كانت محكومة بالقانون الروماني والمؤسسات السياسية الرومانية، ولغتها الرسمية هي اللاتينية، فإن اللغة اليونانية كانت تُستخدَم على نطاقٍ واسع، وتلقَى الطلاب تعليماً في التاريخ والأدب والثقافة اليونانية.
أعظم الأباطرة.. جستنيان الأول
تولى الإمبراطور جستنيان الأول السلطة عام 527 وحكم حتى وفاته عام 565، أي نحو 48 عاماً من الحكم. يعتبر أول حاكم عظيم للإمبراطورية البيزنطية بعد قسطنطين. خلال سنوات حكمه، شملت الإمبراطورية معظم الأراضي المحيطة بالبحر المتوسط، فقد احتلت جيوشه جزءاً من الإمبراطورية الرومانية الغربية السابقة، من ضمنها شمال إفريقيا.
وتحت حكم جستنيان، بُنيت عديد من الآثار العظيمة للإمبراطورية، من ضمنها كنيسة «الحكمة المقدسة» ذات القُبَّة المذهلة، والتي تسمى آيا صوفيا. قام جستنيان أيضاً بإصلاح القانون الروماني وتدوينه، فقد أنشأ مدونة قانونية بيزنطية دامت قروناً، وساعدت في تشكيل المفهوم الحديث للدولة.
في أثناء وفاته كانت الإمبراطورية البيزنطية قد وصلت إلى ذروتها كأكبر وأقوى دولة في أوروبا. لكن الديون المترتبة بسبب الحرب تركت الإمبراطورية في ضائقةٍ ماليةٍ شديدة، فاضطر خلفاء جستنيان إلى فرض ضرائب باهظة على المواطنين البيزنطيين؛ من أجل إبقاء الإمبراطورية واقفةً على قدميها.
بالإضافة إلى ذلك، كان الجيش الإمبراطوري ممتداً للغاية، وكان يكافح دون جدوى للحفاظ على الأراضي التي جرى احتلالها خلال حكم جستنيان. خلال القرنين السابع والثامن، أدَّت هجمات الإمبراطورية الفارسية من ناحية والصقالبة من ناحيةٍ أخرى، بالإضافة إلى عدم الاستقرار السياسي الداخلي والانحدار الاقتصادي، إلى تهديد تلك الإمبراطورية الواسعة.
وظهر تهديدٌ جديد أخطر يتمثل في الجيوش الإسلامية. فقد بدأت تلك الجيوش هجومها على الإمبراطورية البيزنطية بغزو سوريا في عام 634. وبحلول نهاية القرن، كانت بيزنطة قد فقدت سوريا وفلسطين ومصر وشمال إفريقيا على أيدي الجيوش الإسلامية.
لكن عكس الإمبراطورية الساسانية الفارسية التي أسقطها المسلمون كاملةً، بقيت الإمبراطورية الرومانية واثقة الخطى رغم هزائمها المتكررة أمام الجيوش الإسلامية.
وظل يتعاقب على الإمبراطورية البيزنطية كثير من الأباطرة وحتى الأسر الحاكمة المسيحية، باعتبار أن القسطنطينية أصبحت مركز الديانة المسيحية بالمشرق كما كانت روما عاصمة المسيحية في الغرب الأوروبي لاحقاً.
خلال أواخر القرن العاشر وأوائل القرن الحادي عشر الميلادي، وفي ظل حكم الأسرة المقدونية التي أسسها الإمبراطور باسل، خليفة مايكل الثالث، تمتعت الإمبراطورية البيزنطية بعصرٍ ذهبي.
ورغم أن الإمبراطورية كانت تمتدُّ على مساحةٍ أقل، فإن بيزنطة كانت تتمتَّع بقدرٍ أكبر من السيطرة على التجارة، ومزيد من الثروة والهيبة الدولية أكثر مما كانت عليه في عهد جستنيان الأول نفسه.
وقد رعت الحكومة الإمبراطورية القوية الفن البيزنطي، وضمن ذلك الفسيفساء البيزنطية المشتهرة حتى الآن. وبدأ الحكام ترميم الكنائس والقصور والمؤسسات الثقافية الأخرى، وتعزيز دراسة التاريخ والأدب اليوناني القديم.
أصبحت اليونانية اللغة الرسمية للدولة، وتركزت الثقافة الرهبانية المزدهرة على جبل آثوس في شمال شرقي اليونان. أدار الرهبان عديداً من المؤسسات مثل دور الأيتام والمدارس والمستشفيات، ونجح المبشرون البيزنطيون في تحويل كثيرين إلى المسيحية بين شعوب الصقالبة بوسط وشرق البلقان (وضمن ذلك بلغاريا وصربيا) وروسيا.
الحروب الصليبية.. لم تكن في مصلحة القسطنطينية فيما يبدو
شهدت نهاية القرن الحادي عشر بداية الحروب الصليبية، وهي سلسلة من «الحروب المقدسة» التي شنها المسيحيون الأوروبيون على المسلمين في المشرق الإسلامي من عام 1095 إلى عام 1291.
كانت بدايات تلك الحروب الصليبية مع ضغط دولة السلاجقة التركية في آسيا الوسطى على القسطنطينية، فقد لجأ الإمبراطور أليكسيوس الأول إلى أوروبا طلباً للمساعدة؛ وهو ما أدى إلى إعلان «الحرب المقدسة» من جانب البابا أوربان الثاني في كليرمونت بفرنسا، وبدأت الحملة الصليبية الأولى بعد ذلك.
لكن الأسباب الأخرى للحروب الصليبية كانت اقتصادية وسياسية في المقام الأول، وربما لم تكن دعوة الإمبراطور البيزنطي لأوروبا إلى إنقاذه سوى السبب الظاهر لهذه الحروب.
ومع تدفق الجيوش من فرنسا وألمانيا وإيطاليا على بيزنطة، حاول أليكسيوس إجبار قادتها على أداء قسم الولاء له؛ من أجل ضمان استعادة الأرض التي سيستردُّونها من الأتراك إلى إمبراطوريته. وبعد أن استولت القوات الأوروبية والبيزنطية على نيقية في آسيا الصغرى من السلاجقة الأتراك، انسحب أليكسيوس وجيشه، وهو ما أثار اتهاماتٍ لهم بالخيانة من ِقبل الصليبيين.
وخلال الحروب الصليبية اللاحقة، استمر العداء في النمو بين بيزنطة من ناحية وأوروبا من ناحيةٍ أخرى، وبلغت ذروة هذا العداء في أثناء غزو القسطنطينية ونهبها خلال الحملة الصليبية الرابعة عام 1204، التي بدل أن تتجه إلى الشام وبيت المقدس أو مصر كبقية الحملات، اتجهت إلى القسطنطينية ونهبتها واستولت عليها.
كان النظام اللاتيني المؤسَّس حديثاً في القسطنطينية قائماً على أرضٍ مهزوزة، بسبب العداوة المفتوحة لسكان المدينة ونقص الأموال بعد نهبها. نتيجة لذلك، هرب عديد من اللاجئين من القسطنطينية إلى نيقية، وهو موقع الحكومة البيزنطية في المنفى والتي استعادت العاصمة وأطاحت بالحكم الأوروبي في عام 1261، بعد نصف قرن من منفاها.
سقوط القسطنطينية الأخير
بعد استرداد القسطنطينية وبدءاً من الإمبراطور مايكل الثامن الذي حكم عام 1261، تعرَّض اقتصاد الدولة البيزنطية، الذي كان في يومٍ من الأيام قوياً، للانهيار ولم يستعد مكانته السابقة.
وفي عام 1369، سعى الإمبراطور جون الخامس دون جدوى إلى الحصول على مساعدةٍ مالية من أوروبا؛ لمواجهة التهديد التركي المتزايد، لكن أُلقِيَ القبض عليه كمقترضٍ لم يسدد ديونه في مدينة البندقية. بعد أربع سنوات، أُرغِمَ، مثل الأمراء الصرب وحاكم بلغاريا، على أن يصبح تابعاً للأتراك الأقوياء.
باعتبارها دولة تابعة، أشادت بيزنطة بالسلطان وقدمت له الدعم العسكري حين الحاجة. وفي بعض اللحظات التاريخية التي شُغل بها العثمانيون حصلت الإمبراطورية على ارتياحٍ متقطع، لكن ظهور مراد الثاني (أبو محمد الفاتح) سلطاناً في عام 1421، كان يمثل نهاية فترة الراحة الأخيرة.
ألغى «مراد» جميع الامتيازات الممنوحة للبيزنطيين وفرض حصاراً على القسطنطينية؛ ولم يرفعه إلا بعدما هددته ثورة في بلاد البلقان. لكن خليفته السلطان محمد الثاني (الفاتح) أكمل ما بدأه أبوه عندما شن الهجوم النهائي على المدينة.
وفي 29 مايو/أيار 1453، بعد اقتحام الجيش العثماني للقسطنطينية، دخل محمد الثاني منتصراً كنيسة آيا صوفيا، التي أصبحت فيما بعدُ مسجد المدينة الرئيسي. وقد أصبح سقوط القسطنطينية نهاية حقبة مجيدة للإمبراطورية البيزنطية. قُتل الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر بالمعركة في ذلك اليوم، وانهارت الإمبراطورية البيزنطية المتداعية، وبدأ عهد الإمبراطورية العثمانية الطويل الذي أقلق الممالك الأوروبية.
تراث الإمبراطورية البيزنطية
في القرون التي سبقت الفتح العثماني الأخير في عام 1453، ازدهرت ثقافة الإمبراطورية البيزنطية، وضمن ذلك الأدبُ والفن والعمارة والقانون واللاهوت، حتى مع تعثُّر الإمبراطورية السياسي والعسكري.
كان للثقافة البيزنطية تأثيرٌ كبير على التراث الفكري الغربي، فقد سعى علماء عصر النهضة الإيطالية إلى الحصول على مساعدة من علماء بيزنطة في ترجمة الكتابات الوثنية والمسيحية اليونانية؛ بل ستستمر هذه العملية بعد عام 1453، عندما انتقل عديد من هؤلاء العلماء من القسطنطينية إلى إيطاليا.
بعد فترةٍ طويلة من نهايتها، استمرت الثقافة والحضارة البيزنطيتان في التأثير على البلدان التي كانت تتبع دينها الأرثوذكسي الشرقي، وضمن ذلك روسيا ورومانيا وبلغاريا وصربيا واليونان، ودول أخرى كثيرة.