شهد الاقتصاد المصري العديد من الإصلاحات الهيكلية، المالية والنقدية، وعلى مستوى القطاعات الاقتصادية المختلفة، مما انعكس تأثيرها على مؤشرات أداء الاقتصاد المصري وتوقعات نموه خلال السنوات القادمة. وقد أكد ذلك ما جاء في توقعات التقارير الصادرة عن العديد من المؤسسات الدولية، والتي أشارت إلى استمرار ارتفاع معدل النمو الاقتصادي بعد تحرير الاقتصاد المصري من أشكال التشديد، بما يمهد الطريق لبيئة ملائمة للنمو الاقتصادي. وقد بدأت خطة الإصلاح في نوفمبر 2016 من خلال برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي نفذته مصر بالتعاون مع صندوق النقد الدولي والذي تبنى سياسات للإصلاح الشامل بهدف تصحيح الاختلالات المالية والاختلالات في ميزان المدفوعات، ودفع معدلات النمو الاقتصادي والتشغيل، وتوفير الحماية الاجتماعية. وهدفت تلك الإصلاحات الهيكلية إلى تحقيق النمو الشامل الاحتوائي بما يُعزز خلق فرص عمل جديدة، وزيادة وتنويع الصادرات، وتحسين مناخ الاستثمار، وتطوير إدارة المالية العامة. وقد ترتّب على تلك الإصلاحات ليس فقط تحسن مؤشرات الاقتصاد الكلي خلال عام 2018-2019، وإنما تحسُّن توقعات مؤشرات الأداء الاقتصادي خلال السنوات القادمة، وكذلك استعادة الثقة المحلية والدولية في الاقتصاد المصري.
ويتناول هذا المقال أهم الإصلاحات الهيكلية التي تبنتها مصر على صعيد السياسات النقدية والمالية وانعكاساتها على مؤشرات النمو والبطالة كأهداف نهائية للسياسات الاقتصادية.
تطور أداء السياسة النقدية في ظل الإصلاح الاقتصادي
تضمّن برنامج الإصلاح الاقتصادي تطبيق نظام سعر الصرف الحر لإدارة سوق الصرف الأجنبي بهدف القضاء على السوق السوداء وإعادة بناء الاحتياطي النقدي. ومع تحرير سعر الصرف وما صاحبه من ارتفاع معدلات التضخم، تم اتّباع سياسة نقدية انكماشية من خلال رفع أسعار الفائدة للسيطرة على معدلات التضخم. وقد نجحت هذه السياسة في تحسن أداء الجنيه المصري أمام الدولار، وتخفيض معدلات التضخم، وزيادة الاحتياطيات الدولية. أما بالنسبة لأداء الجنيه المصري فقد شهد عام 2019 ارتفاع قيمة الجنيه المصري أمام الدولار بنحو 1.87 جنيه، حيث سجل متوسط سعر الدولار 17.87 جنيهًا للشراء ومستوى 17.96 جنيهًا للبيع عند مطلع عام 2019، بينما سجل 15.99 جنيهًا للشراء و16.09 جنيهًا للبيع بنهاية تعاملات ديسمبر 2019. واستمر تحسن الجنيه المصري حتى الآن ليسجل 15.74 للشراء، و15.84 للبيع بنهاية يناير 2020. وقد سجل أدنى معدل له منذ التعويم في 20 ديسمبر 2016، حيث بلغ سعر الدولار 19.13 للشراء و19.51 للبيع، وفقًا لبيانات البنك المركزي المصري. واستمر الجنيه المصري كثاني أفضل العملات أداءً أمام الدولار على مستوى العالم في عام 2019 وفقًا لبيانات وكالة “بلومبيرج” في ديسمبر 2019. وتم اعتباره أقوى العملات أداءً أمام الدولار في الأسواق الناشئة وفقًا لمؤسسة “مورجان ستانلي”.
وقد ترتب على ذلك زيادة ثقة المؤسسات الدولية والمستثمرين الأجانب في الأوراق المالية الصادرة بالعملة المحلية، وهو ما ساهم في جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية. وفي هذا الإطار، أكد البنك الدولي أن مصر ستشهد استمرارًا في التدفقات الأجنبية، وشراء الأوراق المالية الحكومية. كما أشار صندوق النقد الدولي إلى أن مصر تُعتبر بيئة جاذبة للتدفقات الأجنبية في المحافظ الاستثمارية المصرية، الأمر الذي عزز من قيمة الجنيه المصري واستمرار تحسن أدائه أمام الدولار.
وبالنسبة لمعدل التضخم الأساسي، فقد انخفض من 8.5% في يناير 2019 إلى 2.37% في ديسمبر 2019. بعد أن كان قد وصل إلى أعلى معدل له في يوليو 2017، حيث سجل 35.2%. ويعني تراجع معدل التضخم انخفاض نسب ومعدلات زيادة الأسعار وليس انخفاض الأسعار. ومع اتجاه معدل التضخم للانخفاض تم تثبيت ثم تخفيض أسعار الفائدة لدفع الاستثمارات ورفع معدلات النمو الاقتصادي.
وعلى مستوى صافي الاحتياطيات من النقد الأجنبي، فقد سجلت أعلى قيمة على الإطلاق، حيث زاد صافي الاحتياطات بنسبة 6.7%، لتصل إلى 45.42 مليار دولار في نهاية ديسمبر 2019، مقارنة بـ42.55 مليار دولار بنهاية ديسمبر عام 2018، بما يُغطي احتياجات مصر الاستيرادية لفترة تتجاوز 8 أشهر، بعد أن كانت قد سجلت 16.8 مليار دولار في أغسطس 2014. وترجع تلك الزيادة إلى حصول مصر على عدد من القروض والمنح وتجديد الودائع (أبرزها الودائع السعودية بقيمة 8 مليارات جنيه التي حصلت عليها مصر خلال الفترة من مايو 2012 إلى يونيو 2017)، وزيادة الثقة في الاقتصاد المصري، بالإضافة إلى التحسن في موارد النقد الأجنبي، وأبرزها الإيرادات السياحية التي انتعشت بشكل ملحوظ.
مؤشرات أداء السياسة المالية في ظل الإصلاح الاقتصادي
شمل برنامج الإصلاح الاقتصادي العديد من الإصلاحات المالية التي شملت إجراءات الضبط المالي لضمان استدامة الدين العام على المدى المتوسط، وتطوير إدارة المالية العامة، ورفع كفاءه الإدارة الضريبية، وتطبيق قانون ضريبة القيمة المضافة، ووضع نظام ضريبي للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، وترشيد دعم الطاقة تدريجيًّا حتى تحريره، بالإضافة لتقوية شبكة الحماية الاجتماعية، وزيادة الإنفاق العام على قطاعات التعليم والصحة، وتطوير البنية التحتية وتحسين الخدمات العامة، وإصلاح منظومة الدعم لصالح الفئات الأَوْلى بالرعاية. كما تم بدء التنفيذ الإلكتروني للموازنة العامة للدولة، والذي تمّ لأول مرة بنهاية يونيو ٢٠١٩، لتعمل الموازنة الجديدة من اليوم الأول للسنة المالية الجديدة في أول يوليو ٢٠١٩؛ مما أدى إلى تحقيق الانضباط المالي وجودة الأداء، حيث تمكّنت الجهات الممولة من الموازنة من الوفاء بمتطلبات أنشطتها وخططها المعتمدة وفقًا للمخصصات المالية المحددة.
وقد ترتّب على تلك الإصلاحات تحقيق فائض أوّلي للعام الثاني على التوالي بنسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2018/2019، بعد أن كانت الموازنة العامة تُحقق عجزًا أوّليًّا وصل أقصاه إلى 5% عام 2012/2013. ومن المتوقّع ارتفاع تلك النسبة إلى 2.1% عام 2020، و2.2% عام 2021. وترتّب على تحقيق هذا الفائض الأوّلي انخفاض العجز الكلي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 8.4% خلال 2018/2019، مقارنة بـ13% عام 2012/2013، ويستهدف البرنامج وصول العجز الكلي إلى 3.9% في عام 2020/2021.
وقد انخفض الدين العام بفضل إجراءات الضبط المالي، إذ انخفض الدين الحكومي كنسبة من الناتج المحلي ليصل إلى 90.5% في عام 2018/2019، مقارنةً بـ97.3% في عام 2017/2018. ومن المتوقع انخفاضه إلى نحو 80% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020/2021. وقد أشار صندوق النقد الدولي إلى مساهمة برنامج الإصلاح الاقتصادي في تقليص العجز المالي وخفض الدين العام. ومع تحسن مؤشرات المالية العامة في مصر استطاعت مصر أن تكون ثاني دولة بالشرق الأوسط وإفريقيا تطرح سندات بأجل يبلغ ٤٠ عامًا، بقيمة ٢ مليار دولار، بما يعكس ثقة المستثمرين في أداء الاقتصاد المصري. وقد اختارت مؤسسة «جلوبال ماركت» المسجّلة بصندوق النقد والبنك الدوليين وحدة «الدين العام» بمصر لجائزة أفضل وحدة للدين العام بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا لعام ٢٠١٩.
في إطار الإصلاحات المالية التي قامت بها الدولة، تم إعادة توجيه الإنفاق العام لصالح الفئات الأَوْلى بالرعاية في إطار برامج الحماية الاجتماعية، وإصلاح منظومة الدعم بزيادة قيمة دعم السلع التموينية، وزيادة أعداد المستهدفين من برنامج تكافل وكرامة، بالإضافة إلى برامج معاش الضمان الاجتماعي ومعاش الطفل والإسكان الاجتماعي.
انعكاسات الإصلاحات الهيكلية على معدل النمو الاقتصادي وتوقعات نموّه
بدأ البرنامج الوطني للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي بإجراءات الإصلاح الهيكلي للسياسات الكلية إدراكًا لدورها في تحريك قطاعات الاقتصاد المختلفة، ومن ثم دفع معدلات النمو الاقتصادي. كما تميز بتوجيه الاهتمام إلى الحماية الاجتماعية لتخفيف آثار إجراءات الإصلاح على الفئات الأقل دخلًا، كما أنه عمل على دفع النمو من خلال زيادة الاستثمارات وصافي الصادرات بدلًا من الاستهلاك.
وقد حقق معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي ارتفاعًا ملحوظًا؛ إذ وصل إلى 5.6% عام 2018/2019 مقارنة بـ 4% في عام 2016/2017. وكان أبرز القطاعات الدافعة للنمو قطاع الاتصالات الذي شهد نموًّا بنسبة 16.7%، وقطاع الاستخراجات بنسبة 9.8%، وقطاع التشييد والبناء بنسبة 8.8%، وقطاع خدمات التعليم والصحة بنسبة 3.8%، وقطاع الزراعة بنسبة 3.3%، وقطاع الصناعة بنسبة 2.8%. وقد ارتفع معدل النمو مدفوعًا بزيادة معدل الاستثمار وإيرادات السياحة وارتفاع الصادرات.
أما بالنسبة لمعدل الاستثمار، فقد ارتفعت نسبة الاستثمارات العامة والخاصة بنسبة 27.9%، لتصل إلى 922.5 مليار جنيه في عام 2018/2019، مقارنة بـ721.1 مليار جنيه عام 2017/2018. وترتب على ذلك تحسن ترتيب مصر في مؤشر ممارسة الأعمال عام 2019، إذ قفزت مصر 8 مراكز نتيجة تحسين مناخ الاستثمار. واحتلت مصر صدارة الدول الإفريقية الجاذبة للاستثمار الأجنبي المباشر خلال النصف الأول من عام 2019، وفقًا لتقرير أونكتاد (مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية). وتستهدف الخطة الاستثمارية للدولة زيادة الاستثمارات الكلية إلى 1.366 تريليون جنيه في عام 2020/2021، مقارنة بـ1.1 تريليون جنيه مستهدف خلال العام المالي الحالي 2019/2020. وتتوقع المجموعة المالیة “هیرمس” أن يرتفع حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة بمصر لتصل إلى 6.3 مليارات دولار في عام 2020 و7.3 مليارات دولار في 2021.
أما بالنسبة لقطاع السياحة، فقد استعاد دوره في دفع النمو الاقتصادي، حيث ارتفعت الإيرادات السياحية بنسبة 28.6%، لتصل إلى 12.6 مليار دولار عام 2018/2019، مقارنة بـ9.8 مليارات دولار عام 2017/2018. وقد توقّعت المجموعة المالية “هیرمس” أن تسجل إيرادات السياحة رقمًا قیاسیًّا جديدًا خلال عام 2020 لتصل إلى 15.1 مليار دولار، ثم إلى 17.3 مليار دولار خلال عام .2021
وكان من المؤشرات الإيجابية لبرنامج الإصلاح انخفاض العجز في الميزان التجاري من 29 مليار دولار عام 2017/2018، إلى 28.9 مليار دولار عام 2018/2019. وقد حقق الميزان التجاري البترولي فائضًا لأول مرة منذ العام المالي 2012/2013 بلغ 8.1 ملايين دولار، مقابل عجز بلغ 3.7 مليارات دولار خلال عام 2017/2018، نتيجة للقفزة التي شهدتها الاستثمارات في قطاع البترول والغاز.
وقد جاءت توقعات نمو الاقتصاد المصري خلال العام المالي الحالي 2019/2020 نحو 5.8%، و6% عام 2020/2021 وفقًا لتوقعات البنك الدولي. كما أكد تقرير مؤسسة «هارفارد للتنمية الدولية» توقع نمو الاقتصاد المصري سنويًّا بمتوسط 6.8٪ حتى عام 2027؛ ليصبح ضمن أسرع الاقتصادات نموًّا في العالم. وتوقع تقرير إدارة الأمم المتحدة للشئون الاقتصادية والاجتماعية لآفاق تطور الاقتصاد العالمي لعام 2020، أن تسجل مصر نموًّا اقتصاديًّا قويًّا نسبيًّا بنسبة 5.5% خلال عام 2019، و5.8% في عام 2020، بفضل التعافي القوي للطلب المحلي وتخفيف القيود على ميزان المدفوعات. وتتفق تلك التوقعات مع معدل النمو المستهدف وفقًا للخطة الاستثمارية للدولة للعام المالي 2020/2021 بنسبة 6%، إذ من المستهدف الوصول بحجم إجمالي الناتج المحلي إلى 6.6 تريليونات جنيه، مقابل 5.9 تريليونات جنيه في عام 2019/2020. ومع ارتفاع معدل النمو المدفوع بزيادة الإنتاج والاستثمار، من المتوقّع انخفاض معدل البطالة إلى 6.7% عام 2020/2021.
وهكذا، فقد اعتمدت خطة الإصلاح الاقتصادي على تحفيز الاستثمار المحلي والأجنبي والصادرات والسياحة لدفع معدلات النمو الاقتصادي ورفع نسبة التشغيل، كبديل لقوى الاستهلاك الممولة بالاستدانة كمحرك للنمو. كما ركزت على إعادة ترتيب أولويات الإنفاق العام في اتجاه قطاعات التعليم والصحة وتطوير البنية التحية، بما يصب في مصلحة الفئات الأَوْلى بالرعاية، ويدعم التنمية البشرية ويحسن الخدمة العامة للمواطنين. وتؤكد المؤشرات نجاح جهود التنمية التي اتخذتها الدولة منذ أواخر عام 2016، وقد أكد ذلك العديد من المؤسسات الدولية التي أشادت بنتائج جهود التنمية، وطرحت توقعات إيجابية لأداء الاقتصاد المصري خلال الأعوام القادمة. وعلى الدولة السعي لاستكمال العمل ومضاعفته، والبناء على ما تحقق من خطوات ومؤشرات إيجابية، من خلال استمرار تنفيذ المحاور المختلفة لرؤية مصر 2030، وتنفيذ مستهدفات ومشروعات برنامج العمل الشامل للحكومة (2022-2018).
المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية