كنت كتبت في مقالتي السابقة “لماذا يصعب على الديموقراطيين عزل الرئيس ترمب؟” قد توقعت صعوبة عزله لعدة أسباب منها أن قاعدته الجماهيرية لا زالت تؤمن به، وعليه فإن الجمهوريين لن يتخلوا عنه طالما أن من يصوتون لهم يدعمون ترمب. وأوضحت أن ترمب لا يمثل شخصه، بل مشروعاً يمثل تحالفات للنخب المالكة للشركات الوطنية في مواجهة الشركات الأمريكية العالمية، وذلك وفقاً لنظرية “هيمنة الشركات” لعالم الاقتصاد السياسي الأمريكي دومهوف. تسعى هذه المقالة إلى تحليل السيناريوهات المتوقعة للمواجهة بين تحالف نخبة الشركات الوطنية ونخبة الشركات الأمريكية العالمية، من أجل الظفر في الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة. ويستند التحليل في هذه المقالة إلى المحتويات المنشورة لمراكز رسم السياسات التي تمثل كل من التحالفين، بالإضافة إلى المواقع الإعلامية لليمين الشعبوي الأمريكي.
مراكز رسم السياسات الأمريكية
ربما يظن البعض أن المستودعات الفكرية الأمريكية ومراكز رسم السياسات كلها على قلب رجل واحد، لكنها، في الحقيقة، مختلفة أيديولوجياً باختلاف مموليها وبالتالي المفكرين العاملين فيها. فمثلاً، مؤسسة الإرث (Heritage Foundation) من أكثر المستودعات توجهاً نحو اليمين، ومن أشد الداعمين للرئيس ترمب، ومن أشد المهاجمين لخصومه. أما طاولة الأعمال المستديرة (The Business Round Table) ومجلس العلاقات الخارجية (Council for Foreign Relations) فيعتبران من أشد خصوم الرئيس ترمب. وهنا فإن تحليل محتويات المنشورات والدراسات التي تصدر عن تلك المؤسسات يعطي، إلى حد بعيد، تصوراً حول السيناريوهات المستقبلية للسياسة الأمريكية سيما وأن فيها مشروعان نخبويان متنافسان، فما هما هذان المشروعان؟
المشروع النيوليبرالي العالمي
من أهم إنجازات الرئيس ترمب التي يتفاخر بها أنه نهض بالاقتصاد الأمريكي، ووفر فرص العمل، وحمى المنتجات الوطنية من المنافسة العالمية في السوق الأمريكية. وهذا كله ينظر إليه بإيجابية كبيرة لدى مؤيديه
تسيدت النيوليبرالية العالمية السياسة الأمريكية منذ ثمانينيات القرن المنصرم، وتعتبر العولمة من أهم منطلقاتها، لأنها تسعى إلى فتح الحدود وانسياب البضائع ورؤوس الأموال المالية والبشرية بين الدول دون عوائق. وترى النيوليبرالية العالمية دوراً هاماً لتفوق أمريكا العسكري والانتشار العالمي للجيش الأمريكي لضمان بقائها مهيمنة على الاقتصاد العالمي. ولا يرى النيوليبراليون الأمريكيون في الصين تهديداً حقيقياً طالما أنها تضخ ملياراتها الناتجة من تعاملاتها في النظام المالي العالمي الذي تسيطر عليه سوق “وول ستريت”، وطالما أنها تتعامل بالدولار الأمريكي في تجارتها. وعليه، فإن البنك الاتحادي الفيدرالي الأمريكي وبنوك ومؤسسات وول ستريت المالية هم أشد الداعمين للنيوليبرالية العالمية.
المشروع الوطني الذي يركب موجة الشعبوية
هناك كلام كثير في الوسائل الإعلامية يوصف فيه الرئيس ترمب على أنه شعبوي. في الحقيقة، هذا الوصف غير دقيق. فالرئيس ترمب يمثل مشروعا نخوبياً دفاعياً مضاداً للشعبوية، وراكباً موجتها في نفس الوقت. لقد علمت الشركات الوطنية الأمريكية أن الفكر الشعبوي يهدد مصالحها الاقتصادية ويسقط هيمنة الشركات على مناحي الحياة السياسية والاقتصادية. فأنتجت مشروعاً ذكياً للغاية، يمثله الرئيس ترمب، يعمل على ركوب موجة الشعبوية واليمين المتطرف وتلبية تطلعاتهم في بعض الأمور مثل محاصرة المهاجرين، ودعم “إسرائيل” مع ضمان أن مطالب الشعبوية لا تتعدى لتصل إلى اليسار الاقتصادي الذي يطالب بتفكيك الشركات وإعادة سيطرة الدولة على مقدراتها التي تمت خصخصتها، وعدم العودة إلى تدخل الدولة قانونياً وتنظيمياً في الأسواق لضمان بقائها “حرة” تحت سيطرة الشركات.
الاستراتيجية العامة المشتركة بين المشروعين المتصارعين، وترشيح بيرني ساندرز
يعتبر تحرير القيود على الأسواق، وعدم تدخل الدولة تنظيمياً وقانونياً، واستمرار الخصخصة، وكف يد الدولة على الرفاه الاجتماعي من أهم القواسم المشتركة بين المشروعين النخبويين الأمريكيين. وعليه، فإن أي مساس بتلك الأمور سيوحد كل النخب الأمريكية المتصارعة في وجهه. وهنا يمكننا التنبؤ أن مرور بيرني ساندرز، المحسوب على اليسار الاقتصادي، مرشحا للرئاسة الأمريكي من خلال الحزب الديموقراطي أمراً غاية في الصعوبة. وفي حالة مروره من الحزب الديموقراطي، فإن حملته للرئاسة ستواجه مصاعب جمة، ولن تكون رؤيته في البيت الأبيض أمراً مرجحاً. ومما يدلل على ذلك أن الرئيس ترمب لم يهاجمه حتى الآن، بل ركز على جو بايدن المنافس المحتمل لترمب لعلم الأخير أنه هو المرشح المحتمل عن الحزب الديموقراطي.
سيناريو اللعب على مؤشرات الاقتصاد الأمريكي، لتقويض ترمب
من أهم إنجازات الرئيس ترمب التي يتفاخر بها أنه نهض بالاقتصاد الأمريكي، ووفر فرص العمل، وحمى المنتجات الوطنية من المنافسة العالمية في السوق الأمريكية. وهذا كله ينظر إليه بإيجابية كبيرة لدى مؤيديه. في بداية هذا الأسبوع تداولت مواقع التواصل الاجتماعي فيديو للقاء مع السيد طلال أبو غزالة على قناة روسيا اليوم. وتوقع أبو غزالة أنه في نهاية العام الحالي سيتم الكشف عن المؤشرات السلبية للاقتصاد الأمريكي، مما يؤثر على إعادة انتخاب الرئيس ترمب. وتوقع أبو غزالة أن ترمب سيعلن الحرب على الصين لتدارك فشله الاقتصادي قبل شهر من الانتخابات، ما يعني أنه سيكون القائد الأعلى للقوات المسلحة والذي يصعب منافسته أو إزاحته في حالة الحرب.
في الحقيقة، يعتبر اللعب بمؤشرات الاقتصاد الأمريكي أمراً وارداً سيما وأن الموضوع مرتبط بمؤسسات وول ستريت المالية والفيدرالي الأمريكي وهما ممن يهمهم سقوط ترمب. ولكن ليس الأمر بتلك السهولة، كما توقع السيد أبو غزالة، ولذلك لعدة أسباب. أولها، أن العبث بمؤشرات الاقتصاد سيقابله ترمب بتحريض مؤيديه للنزول للشارع، وقد هدد بهذه الورقة عدة مرات. وهذا السيناريو تخشاه النخب الأمريكية كثيراً، لأنه قد يؤدي إلى انفلات عقال الشعبوية واليمين المتطرف. وثانيها، أن العبث بمؤشرات الاقتصاد الأمريكي لا يعد شأناً أمريكياً بحتاً نظراً للارتباط الكبير بين الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد العالمي. وثالثها، أن أمريكا دولة مؤسسات ولا يمكن العبث بمؤشراتها الاقتصادية بسهولة. أما إن كان السيد أبو غزالة لديه معلومات حقيقية عن مؤشرات سلبية للاقتصاد الأمريكي ستظهر في الربع الأخير من هذا العام، فهذا أمر مختلف.
سيناريو إعلان الحرب على الصين، لتعزيز موقف ترمب
في ضوء المعطيات الحالية، والتاريخية، فإنه من المستبعد جداً أن يدخل الجيش الأمريكي في حرب مع دولة عظمى مثل الصين. لأن ذلك يعني حرباً عالمية، وليست مجرد حرب بين دولتين. ولو أن الرئيس ترمب سيحتاج لسيناريو حرب للبقاء في البيت الأبيض، فإن الخصم ربما سيكون إيران وليس الصين، وستكون الحرب بالوكالة، وليست مباشرة. وسيكون هناك تميد لها كما تم التمهيد لغزو العرق بأكذوبة أسلحة الدمار الشامل.
سيناريو إسقاط ترمب بفضائح أخلاقية
اجتاز الرئيس ترمب منذ اليوم الأول في البيت الأبيض كل الاختبارات التي كانت تهدف إلى النيل منه اعتبارياً وتحطيمه في أعين قاعدته الجماهيرية. فلا الفضائح النسائية أجدت نفعاً، ولا التهرب الضريبي، ولا تحقيق مولر. ومن أهم الأسباب المفضية إلى صمود الرئيس ترمب في وجه كل تلك العواصف، أن جهاز الدولة التكنوقراطي الأمريكي ميسطر عليه من قبل اليمين، وهؤلاء هم جنود مجهولون يدعمون الرئيس ترمب. يشير وثائقي “العائلة” على نيتفليكس أن اليمين المتطرف الأمريكي يؤمن بمبدأ ” الملك الذئب” كناية عن القائد قوي الشخصية والمنحل أخلاقياً. فلا يضره انحرافه بما أنه يحقق الهدف، وقد كانت مشاهد لترمب تعرض في خلفية الوثائقي للإشارة إلى وضعه الحالي وتفسير دعم مؤيديه له.
السيناريو المرجح: فوز ترمب بولاية ثانية
يمتاز الخصوم النخبويون الأمريكيون بالعقلانية. ورغم أن هناك مشروعان متصارعان (المشروع النيوليبرالي العالمي، والمشروع الوطني)، إلا أن هناك استراتيجية عليا تجمهما وهي بقاء تحرير الأسواق، والخصخصة، وعدم العودة لدولة الرفاه. وهنا، فإن المس بأي من تلك الأمور من شأنه أن يحقق خسائر جمة لكلا المشروعين. ثم إن اليمين المتطرف والشعبويين في تزايد مستمر ليس على الأراضي الأمريكية وحسب، بل في كل العالم الغربي. وعليه، فإن فوز الرئيس ترمب بولاية ثانية لن يكون أكثر ضرراً من انفلات عقال الشعبوية، التي تعتبر ورقة تهديد بيد ترمب من خلال دعوة مناصريه للنزول للشارع. كما أن التأثير في قرار الناخب الأمريكي أصبح صعب المنال بالنسبة لوسائل الإعلام التقليدية التي أصبحت ذات تأثير متضائل في عصر الإعلام البديل. فالشعبويون لا يتابعون الإعلام التقليدي ويستقون معلوماتهم من قنواتهم الخاصة في الإنترنت السوداء، التي تروج لترمب.