انتقدت صحيفة The Guardian البريطانية عملية التبرئة التي صنعها الجمهوريون للرئيس الأمريكي بعد اتهامات طالته بتجاوز السلطة، وتقول الصحيفة إن تبرئة مجلس الشيوخ لدونالد ترامب مرة أخرى تُذكِّرنا بمدى هشاشة الديمقراطية الأمريكية. إذ يعني فشل تحقيقات العزل أمام الخطوط الحزبية الصارخة أنَّ الحدود الضرورية التي تحمينا من الاستبدادية لا يمكن الاعتماد عليها، وأنَّ مصير مؤسسات الدولة متروك تحت رحمة رجل لا يمكن بمفرده أن يصونها.
الديمقراطية تموت ميتةً بطيئة
تقول الغارديان إنه لا يلزم أن يحدث «الزحف البطيء» من الديمقراطية إلى الحكم الاستبدادي في صورة تحوُّل مثير. بل العكس، يكون مملاً مثلما بدت التحقيقات الرامية إلى عزل ترامب في بعض الأحيان. ويمكن أن تموت الديمقراطية ميتةً بطيئة، بإرساء سوابق قانونية وهدم الحواجز تدريجياً، لدرجة لا يمكنك معها رؤية ما يحدث إلى أن يكون الوقت قد فات. وبإمكان المؤرخين النظر إلى السنوات القليلة الماضية، على أنها فترة من الزمن تمثل نموذجاً لذلك، في ضوء إتمام تبرئة ترامب لعملية قد تستغرق الديمقراطية الأمريكية وقتاً طويلاً حتى تتعافى منها.
وقد لا يكون دونالد ترامب نفسه هو الذي يكمل عملية التحول هذه. لكن التغييرات التي استحدثها على سياسة الحزب الجمهوري ستشجع خلفاءه على السير على خطاه. وما يثير الرعب هو أن يكون هؤلاء الخلفاء أذكياء وأكفاء، عكس سلفهم.
ودخل تيار اليمين في حالة حرب دائمة أصبح فيها كل شيء -خاصةً الحقيقة والمبادئ- رهن رحلة السعي لتحقيق النصر الكامل. وربما سيتنحى هذا الجيش بمجرد خروج ترامب من المشهد، أو لن يكون هناك قائد جديد يرفع رايته من بعده. لكن يبدو هذا مستبعداً.
لكن ترامب نفسه وعناصر تمكينه هم من يمثلون خطراً مباشراً. إذ إنَّ التغافل الجماعي للأغلبية في مجلس الشيوخ الأمريكي عن مواجهة جرائم ترامب ينزع آخر القيود النظرية على أفعاله. حتى إنَّ آلان ديرشوفيتز، أحد محامي ترامب، ذهب إلى حد زعم أنَّ الرئيس يمكنه فعل أي شيء قانوني، في إطار سعيه للفوز بولاية رئاسية أخرى، إذا كان يعتقد أنَّ فعل بذلك يصبُّ في المصلحة العامة، كما لو أنَّ ترامب يمكنه حقاً إطلاق النار على شخص ما في الجادة الخامسة بنيويورك طالما كان هذا الشخص في طريقه للتصويت لصالح أحد الديمقراطيين.
وفي وقت لاحق، حاول ديرشوفيتز توضيح هذا التصريح، بقوله إنه لن ينطبق إذا كان القانون يحظر فعلاً بعينه ارتكبه الرئيس. وكان هذا توضيحاً غريباً؛ نظراً إلى أنَّ ترامب انتهك بالفعل القانون عندما حجب المساعدات عن أوكرانيا. وعلى أية حال، زعم ترامب سابقاً أنَّ الدستور يمنح الرئيس سلطة فعل «كل ما أريد«. وقبل تبرئته، لم تكن هذه النظريات الغريبة عن السلطة التنفيذية سوى مجرد نظريات. أما الآن فهي تحمل قوة السوابق القانونية.
الجمهوريون يزيِّفون الحقائق
بحسب الغارديان، يضاعف هذا الخطر «خِسّة» الحزب الجمهوري. فتأييدهم للرئيس في قضية أوكرانيا يعني أنهم سيتمسكون به في أية مسألة أخرى تطرأ. لقد تصرفوا مثل الموظفين الاستبداديين، الذين قالت هانا أرندت عنهم إنهم ينظرون إلى الفرق بين الحقيقة والباطل على أنه «يعتمد كلياً على قوة الرجل الذي يمكنه تزييف الحقائق».
وبينما قد تكون لديهم القدرة على اختلاق «حقائق» لأولئك الذين يعيشون في فقاعة وسائل الإعلام اليمينية، لكن بالنسبة لأي شخص آخر -وضمن ذلك 71% من الجمهور الذين أرادوا أن يستدعي مجلس الشيوخ الشهود في تحقيقات العزل- فإنَّ مدى انفصالهم عن الواقع يدعو إلى الاستغراب.
إنَّ الاعتقاد بسيادة السلطة التنفيذية، ووجود هيئة تشريعية خاضعة لها، وشريحة سكانية ساذجة معجبة -ليس من الضروري أن تكون أغلبية- هي المكونات التي تصنع الاستبداد. ولأنَّ المبادئ لا تكبّل يدي ترامب بالتأكيد، أصبح مصير الديمقراطية الأمريكية يعتمد على ما إذا كان ترامب يعرف الطريقة الصحيحة لخلط هذه المكونات معاً.
لا شيء سيجبر ترامب على الرحيل إلا الرفض الشعبي الواسع
وسيحلُّ أكبر خطر تشهده البلاد إلى الآن، في نوفمبر/تشرين الثاني 2020. إذ صرنا نعرف الآن أنَّ قواعد اللعب التي يتبعها تيار اليمين تنص على تصوير المرشحين الديمقراطيين على أنهم راديكاليون خطيرون عازمون على تدمير الولايات المتحدة، وكذلك ادعاء أنَّ الملايين من «غير الشرعيين» صوتوا لصالح هؤلاء المرشحين؛ وهو ما يجعل نتيجة الانتخابات «باطلة».
تخيَّل إزاحة الستار عن هذا الخطاب تزامناً مع تكبُّد ترامب خسارة انتخابية بفارق ضئيل، ورفضه التسليم بهذه النتيجة. هل يمكننا أن نؤمن بأنَّ مجلس الشيوخ والمحكمة العليا للولايات المتحدة، اللذين وقعا في أيدي خادميه، سيجبرانه على الرحيل عن الرئاسة؟
إلى جانب ذلك، ترى هانا أرندت أنَّ أولئك الذين يستخدمون سلطتهم لبناء عالم من الأكاذيب لأنصارهم سيتعين عليهم في النهاية تدمير قوة أولئك الذين سيدحضون هذا الزيف بالحقيقة. وهذا هو السبب الذي يجعل الأكاذيب غاية في الخطورة على الديمقراطية، والسبب كذلك الذي يدفع ترامب وحلفاؤه إلى شن هجوم ممنهج على جميع المصادر المستقلة التي تتمتع بسلطة واقعية في المجتمع: وسائل الإعلام، والخدمة المدنية، والقانون.
امتحان الانتخابات
أما الانتخابات، التي تجبر الطغاة المحتملين على مواجهة سلطة الجزء الأكبر من الجمهور الذي لا يعيش في عالم الأحلام، فربما تشكل أكبر تهديد للجميع. ولهذا لا يسع ترامب إلا محاولة تخريبها، ولن يتوانى عن السعي لفعل ذلك مرة أخرى.
لكن لا يعني أيٌّ من هذا أنَّ التحقيقات الرامية إلى العزل كانت خطأً؛ بل على غرار التبرئة، سيبعث الفشل في فتح هذه التحقيقات من الأساس بإشارات خاطئة؛ وهي أنه لا توجد قيود على تصرفات ترامب. لذا حافظت هذه التحقيقات على الأقل على شعلة الحقيقة مضيئة والقانون على قيد الحياة. لكن الآن يجب أن نبقى حذرين للغاية. فهُم على وشك محاولة إطفاء تلك الشعلة، وهو ما سيحاولون فعله حتماً.
والطريقة الوحيدة لإيقافهم هي من خلال رفض انتخابي واسع، لدرجة لا يمكنهم معها التشكيك في النتائج، ويجب تحقيق ذلك في وقت تشهد فيه قوتهم تحرراً غير مسبوق من القوانين والمبادئ. فمصير الديمقراطية في أمريكا يعتمد على ذلك.