قبل انتخاب “ترامب” للبيت الأبيض عام 2016 وبعد انتخابه وحتى اليوم، خاض الديمقراطيون ضده معارك في كل الاتجاهات، خسروها جميعًا، وكان آخرها محاولة عزله من خلال الكونجرس. ويبدو السؤال المُحيِّر هنا: لماذا أدمن الديمقراطيون خوض المعارك الخاسرة؟ رغم أنهم كانوا على يقين من صعوبة الإطاحة بـ”ترامب” أثناء تحقيقات لجنة موللر حول علاقته بروسيا ودور هذه العلاقة في وصوله إلى البيت الأبيض، ورغم تردد “كبيرة الديمقراطيين” نانسي بيلوسي لأشهر عديدة في الاستجابة لإلحاح الجناح اليساري في حزبها للدفع نحو المطالبة بعزله بسبب ما أسماه الإعلام الخاضع لنفوذهم “الفضيحة الأوكرانية”.
التفسير السهل والذائع لسلوك الديمقراطيين هذا هو أنّ الجناح المحافظ داخل الحزب، والمعروف أحيانًا بـ”الجناح المعتدل”، كان يحاول الحفاظ على تماسك الحزب ومنع انقسامه. لكن إذا كان ذلك صحيحًا، فلماذا كان من الواجب على المعتدلين فقط أن يكونوا الأكثر حرصًا على منع انقسام الحزب، أو بمعنى آخر: لماذا كان عليهم هم وحدهم أن يخضعوا لإرادة الجناح المتطرف أو اليساري في الحزب وليس العكس؟ بالرغم من أن إدانة ترامب التي كان اليساريون الديمقراطيون يسعون إليها بأي ثمن، كانت محل شك كبير، وكان الكثير من الديمقراطيين “المحافظين” أو “المعتدلين” يخشون أن يؤدي خوض حزبهم المعركة الخاسرة تلو الأخرى مع ترامب، إلى تقويته بدلًا من عزله أو إضعافه قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة!
الواقع الذي يحاول أن يهرب منه الديمقراطيون هو أن حزبهم قد أخذ في الميل بشدة نحو اليسار منذ أن لعب جيل جديد من شباب الحزب دورًا بارزًا في حمل باراك أوباما إلى البيت الأبيض في انتخابات عام 2008، ثم انتخابات عام 2012، وهو نفس الجيل الذي فرض على الحزب خوض معركة طويلة وشاقة لاختيار مرشحه أمام ترامب عام 2016. وكاد بيرني ساندرز صاحب الأفكار الأقرب للاشتراكية المدعوم من هذا الجيل أن يهزم مرشحة الجناح المعتدل “هيلاري كلينتون” التي لم يُعلن فوزها بالترشح إلا في آخر الجولات في الانتخابات التمهيدية. هذا الجيل الذي يتبنى قيمًا شديدة التباين والتناقض أحيانًا تصطبغ أفكاره وتوجهاته بشعارات تبسيطية، وباندفاع نحو هدم أي منظومة إذا لم تعجبه، دون الاهتمام بالسؤال حول البدائل التي ستملأ الفراغ الناشئ عن ذلك.
وهذا الجناح “اليساري” ينكر وجود انقسام في الحزب، بل يرى الأزمة في انقسام أمريكا بين اتجاهين على أساس أخلاقي لا سياسي. على سبيل المثال، كتب روبرت ريتش (كان وزيرًا للعمل في إدارة كلينتون) مقالًا على موقع American Prospect في 16 يوليو 2019 بعنوان له دلالته: “America’s Real Divide isn’t Left vs. Right. It’s Democracy vs. Oligarchy”، أنكر فيه وجود هذا الانقسام المزعوم في الحزب الديمقراطي، مناديًا بتوحيد الجبهة الديمقراطية، سواء من داخل الحزب أو خارجه ضد جبهة اليمين الشعبوي التي يمثلها ترامب ومؤيدوه، وهو الخطاب التقليدي لليسار الأمريكي الذي تغلغلت أفكاره في عقول قطاع كبير من الشباب الأمريكي عامةً وشباب الحزب الديمقراطي خاصة. وكان نجاحه (الجناح اليساري) في حمل الحزب الديمقراطي على تبني محاولة عزل ترامب، حتى بالرغم من عدم توافر الأدلة الكافية لضمان إدانته أمام الكونجرس، مؤشرًا على مدى ما يتمتع به من قوة داخل الحزب، وعلى رسوخ عقيدته التي تهتم بتحرير طاقة الغصب الموجهة ضد موقف أو منظومة ما، بغض النظر عما ستُفضي إليه من نتائج.
وقد يكون منع انقسام الحزب قد تحقق فعلًا كما يزعم بعض الديمقراطيين، لكنّ ذلك أتى على حساب صورته أمام الرأي العام الأمريكي؛ فمؤيدو الجمهوريين وترامب نجحوا في تصوير المحاولات المتكررة من جانب الديمقراطيين لإدانة ترامب وعزله على أنها محاولة للانتقام الشخصي، وتغليب المصالح الحزبية الضيقة على المصلحة العامة. وبالنسبة لجمهور الديمقراطيين فإن السياسات التي يدفع الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي لتبنيها (مثل: التساهل مع المهاجرين غير الشرعيين، وتوسيع المستفيدين من نظام الرعاية الصحية دون ربط ذلك بالتكلفة، ووضع قيود على شراء وحمل الأسلحة الشخصية) التي يناهضها الجمهوريون وترامب تجد بعض القبول لدى جزء من ناخبي الديمقراطيين، وبالتالي فإن هيمنة الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي على صناعة القرار في الحزب كما تبدى بوضوح في واقعة محاولة عزل ترامب، هو نذير بالخطر على مستقبل الحزب الذي يعاني حاليًّا بسبب عجزه عن ايجاد مرشح قوي من بين صفوفه لمواجهة ترامب في الانتخابات القادمة.
الأسوأ من ذلك أن البعض داخل الحزب ما يزال عازمًا على الاستمرار في محاربة ترامب بتجاهل تبرئة الكونجرس له، واعتباره مذنبًا، ويمكن تشويه سمعته أثناء الفترة القادمة على أمل أن يؤدي ذلك إلى التأثير على فرصه في الفوز بولاية ثانية في نوفمبر المقبل رغم أن استطلاعات الرأي التي تُجريها وكالة “رويترز” دوريًّا كانت قد بينّت أن إجراءات المحاكمة لم يكن لها أثر على شعبية ترامب بين الأمريكيين رغم إذاعتها على الهواء مباشرة. الغريب أيضًا أن التحذير من تأثير اليسار الأمريكي على المجتمع وعلى تماسكه كان هاجسًا دائمٍا لدى الأمريكيين حتى بعد نهاية الحرب الباردة بأكثر من عقد من الزمان. ففي وثيقة عبارة عن شهادة سجَّلها “بيل وود” (جمهوري- ساوث كارولينا) في جلسة استماع أمام الكونجرس الأمريكي في يوليو عام 2003 حذر بيل من التأثير المدمر لأفكار المفكر الإيطالي اليساري “أنطونيو جرامشي” التي تغلغلت في عقول العاملين بالمؤسسات التي توجه الرأي العام، كأساتذة الجامعات، والصحفيين، ومعلمي المدارس، والمحامين، والقضاة، والأخصائيين الاجتماعيين، والإعلاميين، وحتي كُتاب السينما والدراما التليفزيونية.[1]
جرامشي دافع عما أسماه بالحروب الثقافية التي عرّفها بأنها حرب بين جيوش ثابتة، جنودها من المثقفين والنخب الاجتماعية المؤثرة في تشكيل الرأي العام، وطالب بحشد كل المفكرين والفنانين والمبدعين في كل المجالات، الكارهين للنظام الرأسمالي، وحثهم على إظهار مدى وحشيته وعدم إنسانيته أمام الجمهور من خلال التسلل إلى وسائل الإعلام والمنظمات الجماهيرية والمؤسسات التعليمية، بهدف تعزيز الوعي الطبقي والتبشير ببديل آخر أكثر عدالة وإنسانية. وأوضح التقرير في حينها كيف تركت هذه الفلسفة بصماتِها الواضحةَ سلبًا على المجتمع الأمريكي، وقال بيل وود في شهادته إن ما تتعرض له الولايات المتحدة من مخاطر بسبب تأثير الماركسية الجرامشية المتغلغلة في عقول جزء لا يُستهان به من النخبة الأمريكية الثقافية والسياسية، يفوق المخاطر التي شكلتها الشيوعية على أمريكا إبان الحرب الباردة، وأن حرب اليسار الأمريكي على المجتمع والدولة أخطر من كل الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة من قبل. بل ورأى أيضًا أن التكاليف المادية والبشرية لهذه الحرب الجديدة ضد الولايات المتحدة تجعلها أكثر الحروب تدميرًا في التاريخ الأمريكي. واعتمد “بيل وود” على مقارنة بين الخمسينيات والسبعينيات من القرن الماضي من حيث معدلات الجريمة، ومؤشرات التماسك الأسري؛ فأوضح كيف أدت عملية شيطنة الرأسمالية وتشويه القيم الأمريكية على يد اليساريين إلى زيادة نسبة الاعتداءات الإجرامية إلى 700%، كما ارتفعت نسبة ممارسة الجنس بين المراهقين الذين لم يبلغوا الثامنة عشرة من أعمارهم من 30% إلى 70%، بالإضافة إلى ارتفاع نسبة الضرائب التي تتحملها الأسرة التي تتكون من أربعة أفراد إلى 500%، وهي تمثل ربع دخل الأسرة. أيضًا تضاعفت معدلات الطلاق أربع مرات، ومعدلات المواليد غير الشرعيين بين الأمريكيين السود من 23% إلى 68%. أما على مستوى الأُمة ككل، فقد قفزت النسبة من 5% إلى 30%؛ أي بنسبة 600%، كما ارتفعت معدلات انتشار الأمراض الجنسية إلى 150%، وارتفعت معدلات الانتحار إلى 200%.
وبعد مضيّ أكثر من سبعة عشر عامًا على شهادة بيل وود، بات تأثير اليسار الأمريكي أوسع، بعد أن أدت أنشطته ودعايته إلى التوسع في منح الحقوق للمثليين، وتقنين تعاطي المخدرات. ويمكن النظر إلى فوز ترامب بالرئاسة في عام 2016، واحتمال فوزه بولاية ثانية هذا العام، كمؤشر على مدى ما يشعر به قطاع كبير من الأمريكيين من خطر على مستقبل الولايات المتحدة بسبب تمدد الخطاب اليساري في المجتمع تحت مسمى الدفاع عن الحريات ومقاومة الليبرالية المتوحشة.
ويبدو أن البعض يتنبأ بأن خسارة الديمقراطيين لن تقف عند ارتفاع فرص ترامب للفوز بولاية ثانية، بل ستمتد للمستقبل البعيد أيضًا، أي ربما لن يتمكنوا من المنافسة الحقيقية على البيت الأبيض حتى ما بعد الولاية الثانية لترامب! وهو ما عبر عنه بشكل ساخر Michael Kimmage، أستاذ التاريخ بالجامعة الكاثوليكية الأمريكية، على موقع بوليتيكو في الخامس من فبراير الجاري عندما وجهت له المجلة سؤالًا عما يتوقع أن يُكتب عن المحاكمة والفترة التي تعيشها أمريكا حاليًّا وبعد خمسين عامًا من الآن (أي في عام 2070)، فردّ قائلًا: “أعتقد أنهم سيكتبون ما يلي: عصر ترامب بدأ بانتخابه عام 2016، ووصل إلى ذروة ازدهاره بحصوله على البراءة في المحاكمة التي استهدفت عزله عام 2020، وانتهى عهده عندما خسر الرئيس الجمهوري مايك بومبيو، وزير الخارجية الحالي، الانتخابات الرئاسية عام 2028 أمام مرشح شاب من الغرب الأوسط في أمريكا الحاكم توم ويلكنسون!”. حديث البروفسور “كيميتج” يجسد قمة السخرية من الديمقراطيين الذين في رأيه لن ينجحوا ليس فقط في إسقاط ترامب، بل سيخسرون ضد جمهوري آخر (بومبيو) عام 2024. أما انتخابات سنة 1928 فتبدو بدورها غير مضمونة لأن بومبيو سيخسر أمام مرشح ليس من الواضح إذا كان ما ديمقراطيًّا أم لا، إذ لا يوجد حاكم في إحدى ولايات الميد ويست الأمريكية باسم توم ولينكسون، والاسم يعود أصلًا لممثل بريطاني شهير ربما يكون قد أدى دورًا في أحد الأفلام كمرشح رئاسي، وهو ما يعني أن كيميتج يصل بالسخرية إلى حد القول بأن سقوط الجمهوريين في البيت الأبيض -إن حدث مستقبلًا- فسيكون حدثًا خياليًّا لا يحدث إلا في الروايات الخيالية!!
في كل الأحوال يبدو أن اتهام اليسار الأمريكي -الذي تسلل محتلًّا الحزب الديمقراطي- بأنه لم يعد خطرًا على أمريكا وحدها، بل خطرًا على العالم كله، هو حكم صحيح في جوهره، بعد أن تبنى هذا اليسار أفكارًا تدعو إلى هدم الدول والمجتمعات باسم القيم السامية دون أن يهتم بمصير البشر الذين يعيشون في هذه المجتمعات، وهل سيوفر لهم بديلًا أفضل، أم مجرد فوضى وحروب أهلية كما حدث في الشرق الأوسط إبان عهد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما الذي كان أبرز ممثل للجناح اليساري في الحزب الديمقراطي خلال سنوات حكمه (2009-2017) والذي دعم الحركات الاحتجاجية في مصر وتونس وسوريا وليبيا واليمن عام 2011 لينتهي الأمر بغرق معظم هذه البلدان إما في أزمات اقتصادية عنيفة، أو عدم استقرار سياسي، أو حروب أهلية ممتدة حتى اليوم.
المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية