قال عنها شارل ديغول يوما “لقد لمست أحاسيس قلبي و قلوب الفرنسيين جميعا”، أما المطرب عبد الحليم حافظ فيقول متحدثا عن جمال صوتها “معجزة لن تتكرر ولن يستطع أحد ملء الفراغ الذي تركته”، وقال عنها الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة “عرفتها وأكبرت فيها مع المقدرة الفنية وقوة الشخصية، والعديد من الخصال التي جعلت منها سيدة بارزة في مقدمة سيدات العالم”، أما الأديب عباس محمود العقاد فيقول “لقد أثبتت أن الغناء هو فن عقول وقلوب، وليس فن حناجر وأفواه فحسب”، ويصفها الممثل المصري فكري أباضة فيقول “هي تحفة العصر ومعجزة الدهر، قد تمر قرون أجيال.. فلا تلد القرون والأجيال مثل هذا الكمال”.

هكذا تحدث الأدباء والسياسيون والفنانون والشعراء دون استثناء عن أم كلثوم التي طبع صوتها مرحلة مميزة في جيل الخمسينات والستينات. لكن ما الذي يميز صوت أم كلثوم عن غيرها من الأصوات؟ ولماذا لا زالت أغانيها تتمتع بهذا السحر رغم مرور أكثر من خمسين سنة على ظهورها؟ وما هو رأي العلم في تفسير هذه الظاهرة الصوتية الفريدة؟

مقطع موسيقي قصير للسنباطي، يليه صعود أم كلثوم على الركح وسط تصفيق حار يتواصل لأربع أو خمس ثواني، ثم يصدح الصوت المخملي في أرجاء القاعة بكلمات جميلة لبيرم التونسي تتخللها بين المقطع والآخر تأوهات الجماهير المنتشية “عظمة على عظمة يا ست”. هكذا تسللت أم كلثوم داخل كل بيت عربي واستوطنت في مقاهي الفقراء وآنست وحدة العاشقين في ليالي الشتاء الباردة.

أم كلثوم / يا ظالمني - قصر اليونيسكو - بيروت 12 مايو 1955م

تعكس أم كلثوم بكل جماليتها رمزية الشرق الأصيل فنيا، وقد بدأت كوكب الشرق أولى مسيرتها الفنية مع الإنشاد الديني من ابتهالات ومدائح وتواشيح منذ سن صغيرة، وأمضت زمنا تمارسه بشكل شبه يوميّ، ولذلك يبدو النفس الصوفي جليا في أغانيها من خلال اهتمامها بمخارج الحروف وتواتر نسق الإنشاد/الغناء. وقد كتب المؤلف الموسيقي الانكليزي الشهير دينيس جراي: “إن صوت أم كلثوم فيه عمق حضارة الشرق وهو تلخيص لتاريخ الحضارة الموسيقية الرفيعة التي انطلقت عن طريق فناني وعلماء العرب إلى أوروبا”

كانت أم كلثوم تغنّي لمدة قد تصل إلى سبع أو ثمان ساعات متواصلة، معتمدة على التوافق العاطفي والإنساني مع المادة المغنّاة والجمهور. وفي هذا الإطار، يقول إسماعيل الفايد “لم يكن أحد في عشرينيّات القرن الماضي يتخيّل أن تقوم مغنيّة بغناء أغنية واحدة على المسرح لمدة تزيد عن الساعة، تقوم فيها بأداء أغنية عن ظلم الحبيب كأنها أغنيّة عن الوجد الصوفي، مستخدمة ملامح وأساليب الإنشاد الديني كإطار تقني وأدائي وتنجح دون أن يكون هناك التباس أو تشويش لجماليّات كلا التجربتين”.

لقد حاول العلم أكثر من مرة فهم فردية صوت أم كلثوم وتقديم إجابات علمية مجردة تفسر هذه الهالة العظيمة التي تحيط بها رغم رحيلها منذ عقود. وكانت البداية في سنة 1975 عندما أجريت تجارب علمية لقياس نسبة النشاز بين الأصوات المصرية المعروفة. وقد أثبتت التجربة أن نسبة النشاز في صوت أم كلثوم لا تتعدى الواحد في الألف من البعد الطنيني الكامل، وهي درجة لم يسبق لأي مطرب أو فنان أن بلغها حتى هذه اللحظة. ثم بعدها بسنوات أكدت تجربة أخرى أن صوت أم كلثوم هو أكثر الأصوات العربية انطباقا على السلم الموسيقي في معادلاته الرياضية، وقد أثبتت هذه التجربة أن أعلى ذبذبة بلغها صوت إنساني هو صوت أم كلثوم عندما وصل إلى 3966 ونصف الذبذبة في الثانية الواحدة.

يقول الموسيقار محمد عبد الوهاب في سياق حديثه عن ظاهرة أم كلثوم “إن هذا الصوت النسائي كان يمتلك مساحات منخفضة يندر أن تتوفر لأي صوت نسائي آخر، الأمر الذي يعتبر طفرة كبيرة في مساحات هذا الصوت، أحسنت أم كلثوم استخدامها، ليس فقط في ذلك التسجيل البيروتي لأغنية يا ظالمني ولكن في عدد آخر من أغنياتها، مما يضاعف القدرة التأثيرية لصوت أم كلثوم على المستمع، لاتساع مساحة جماليات الأداء الصوتي الناتج عن تلك الطبقات المنخفضة والنادرة بين أصوات النساء”.

وفي النهاية، لنتوقف للحظة يا سادة عند هذا الجمال الإلهي لندرك عظمة هذا الصوت الذي يحلو للبعض تسميته “صوت السماء في الأرض”. لا شك أن هناك أبعادا كثيرة يمكن من خلالها فهم فردية أم كلثوم وتميزها، ولا شك أيضا أن أجمل الأصوات الفنية اليوم لا يستطيع مقارعة أم كلثوم في أداء مقطع واحد لأغنية “الأطلال” أو “ألف ليلة وليلة”، بل إن الطريف في الأمر أن أغلب المسابقات الفنية تعتمد اليوم قدرة الفنان على أداء أغاني أم كلثوم معيارا للحكم على مدى تمكنه من المقامات الموسيقية، وقد يتواصل هذا التقليد حتى يأتي ذلك اليوم الذي يستطيع فيه أحدهم مقارعة الست في عظمة أدائها، لكن إلى ذلك الحين سيظل صوتها خالدا في الذاكرة الفنية والشعبية.

نُشر بواسطة رؤية نيوز

موقع رؤية نيوز موقع إخباري شامل يقدم أهم واحدث الأخبار المصرية والعالمية ويهتم بالجاليات المصرية في الخارج بشكل عام وفي الولايات المتحدة الامريكية بشكل خاص .. للتواصل: amgedmaky@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Exit mobile version