قد يكون الحديث هذه الأيام، عن الوحدة بين ركني العروبة سورية ومصر، نوعاً من أحلام اليقظة، أو الدموع المسفوحة على العسل المسكوب، هذا إذا لم يوصف باللغة الخشبية التي فات أوانها، ومات زمانها. في هذه الذكرى، لم تتسع صفحات الإعلام المستعرب ولا بعض فضاءات الأعراب، للتذكير ولو من باب ”النميمة” بذكرى الوحدة السورية- المصرية التي مرت في صمت مريب، ومن خرج على هذا الصمت جاء من يناصبه الجفاء ويتهرب من مسؤولية النسب إليه، وكأن ما يمت بالذاكرة إلى القومية والوحدة بات شراً مستطيراً يهدد العباد والبلاد، وينذر من يقترب من الحديث عنه – حتى لو كان مواربة – بالويل والثبور.
ليس في الأمر ما يلتبس على الفهم ونحن نرى هذا المد الهائج لاستبعاد العروبة والفكر الوحدوي من التداول، حيث الدول العربية مشغولة ببقع الصقيع المنتشرة، أو تئن تحت وطأة الفكر الظلامي القادم على أجنحة الجماعات الإرهابية ولبوسها التقليدي الإخوانية التي تحتفظ بإرث طويل من المواجهة الإلغائية.
وما بين زمن وآخر تتكاثر الجراح في الجسد القومي وتنتهك المقدسات إلى الدرجة التي يصبح بعض الحكام العرب من مفردات المشروع الأجنبي ومن المتحمسين للعدو الصهيوني، إن في مؤسسات هذا العدو أو في نظرته للعرب وقضاياهم أو في السلوك القائم على نزعة سفك الدم وتقطيع الأوصال ونهب الثروات، وتجاوز العرب بكثير من الاحتقار وقليل من الافتراضات الطبيعية والمقدمات لصفقة القرن كانت صارخة ومنتشرة… فقد بدأت مع أوسلو، مع المنهج الذي اعتنقه القادة الفلسطينيون وقد التزموا بتلك القاعدة التي تؤكد أن أي شيء هو أفضل من لاشيء بعد أن تنبهوا إلى المنطلق المكلف والذي أخذت به كل أمم الأرض والقائم على أنه لابد من كل شيء ولا مجال للتجزئة والمفرق والبيع والشراء بالقضايا المصيرية وبتاريخ الأمة وثوابت هذه القضية الكبرى أو تلك.
لقد سمعنا إن كان بعضنا ما يزال لديه حاسة السمع أن أميركا في عهد ترامب الرئيس الخامس والأربعين في سلسلة الغرائز الهمجية والشبق الدائم للقتل والتدمير والنهب، وأخذت أميركا قرارها باعتبار القدس كاملة من شرقها إلى غربها هي عاصمة الكيان الاسرائيلي على أساس المعتقد التلمودي الذي ينص على أن القدس وفلسطين كلها هي إرث أتباع الديانة اليهودية. ثم جاء القرار الأميركي الصهيوني باعتبار الجولان العربي السوري هو من ممتلكات الكيان الإسرائيلي، ولابد من السيطرة عليه واستثماره تبعاً للسياسة الصهيونية ذاتها، وهكذا صارت المستوطنات أوطاناً مزعومة لليهود، وفي المعيار الاقتصادي يدخل للكيان الصهيوني ما يعادل الأربعة مليارات دولار من الشمال السوري وعبر رياضة التزلج على الجليد في منطقة جبل الشيخ وسفوحها.
وهناك دخل للكيان الإسرائيلي يصل إلى الستة مليارات من خلال الاستثمارات في منطقة الحمة في الجنوب، حيث نعمة المياه المعدنية والكبريتية بكل خصائصها وفوائدها التي مازال الجيل الذي شارف على الانقراض يتذكر الرحلات إلى تلك المنطقة في الحمة السورية واليوم وعلى الدور هناك قرار قادم لاعتبار الأغوار ما بين الأردن وفلسطين هي ملكية للكيان الصهيوني مادام الوضع هناك يشير إلى فراغ حكومي.
ونحن في ذكرى الوحدة الأجمل في تاريخ العرب الحديث، الوحدة ما بين سورية ومصر، علينا أن نعترف أنّ هذا الهدف/الحلم أوذي إلى حدّ أصبح وكأنه واحد من مستحيلات الدنيا، وأوذي إلى حد اللعب به وكأنه طائرة ورقية، الأمر الذي أدّى إلى وضع هذا الهدف في موضع التندر والسخرية لكثرة الحديث عن أهميته، ولكثرة الإخفاقات والخيبات التي رافقته، ومن بعد لكثرة تحييده والمناداة بالقطرية والعمل على تعزيز أركانها، ورؤية التجزئة والانقسامات وسياسات الانفصال على شكل أقاليم بادية وأخرى مضمرة... والامتناع عن فعل أي شيء! لوقف مشاريع الانقسام والتفكيك والإلحاق، وليس المناداة بالوحدة! وبسبب من هذا الأمر الوطني البهي حقا، قام أهل الفكر يساراً ويمينا بشراء العدوان الثقيلة لمشروع الوحدة لأنهم لم يروا انفسهم في مرآة الوحدة! ومن آسف، وبتدبير ليل (كما تقول العرب) ، وبغياب للعقل النوراني، اغتيلت الوحدة جهاراً نهاراً (وتربطت) الأيدي الوحدوية القومية، وعجزت عن إعادتها إلى الحياة!
وثمة أسئلة لابد من طرحها على الأشقاء المصريين في هذه المناسبة التي تشير إلى حدث كبير جمع بين البلدين المهمين سورية ومصر.
هل يمكن أن ينكر أحد على الجيش العربي السوري الذي يواجه العدو نفسه دفاعه عن قضية وطنية أيضاً؟
ألم ينهل الجيشان من معين واحد منذ الخمسينيات، معين الوطنية والعروبة؟
ألم يكن الجيشان (والشعبان) شريكين في كل المعارك المصيرية، مصرياً وسورياً وقومياً، منذ العدوان الثلاثي 1956 مروراً بحرب دعم الثورة اليمنية في الستينيات وحرب حزيران 1967 وانتهاء بحرب أكتوبر 1973؟
هل يستطيع أحد أن ينكر التلازم التام بين المسألة الوطنية المصرية والمسألة الوطنية الشامية منذ الهكسوس والفراعنة والفينيقيين مروراً بالملكة السورية زنوبيا التي حررت مصر من روما وبالدولة الأموية وصلاح الدين والدولة الفاطمية والحمدانية ومحمد علي باشا وابنه إبراهيم وصولاً إلى عبد الناصر وحافظ الأسد؟
لا يمكن لأي باحث في التاريخ ـ أعجبه ذلك أم لا ـ إلا أن يعترف أنه لا يمكن لمصر أن تقف على قدميها وتصبح قوة إقليمية دون التلازم مع سورية، والأمر نفسه ينطبق على سورية أيضاً… هذه ليست رغبات عاطفية، ولا هي حتى مجرد مشاعر قومية وعروبية… إنها تعبير عن منطق الطبيعة والجغرافيا (التي لم نصنعها نحن وإنما صنعها الله)، وهي تعبير عن منطق التاريخ وانثربولوجيا الواقع. هي أمر يتعلق بطبيعة الأشياء وطبائع البشر، لا مكان للإرادة فيه إلا إذا كانت متلازمة مع منطق الأشياء وقوانين الحياة…
أعطوني مثالاً واحداً في التاريخ القديم والوسيط والحديث قامت فيها مصر دون سورية أو العكس. وأنا أعطيكم مئة مثال كيف انهار البلدان أو كادا عندما تفرقا…
فالكوكتيل المعادي الذي يستهدف مصر هو نفسه الكوكتيل المعادي الذي يستهدف سورية، ولا داعي لتمنية النفس أو خداعها بتقليص التصوّر حول حجم الاستهداف ومصادره. إنها حرب على إقليمي الجمهورية العربية المتحدة الشمالي والجنوبي معاً، والمنطق يفترض أن يتحد أبناء الإقليمين في مواجهة الحرب الضارية التي تشنّ عليهما، بل إن المنطق يفترض أن نجدد النضال ونتحد…
خلاصة الكلام: في ذكرى الوحدة لابد من التأكيد أن الوحدة العربية هي حقيقة وليست ضرباً من الوهم أو الخيال كما يدّعي أعداؤها وأنها هي الشيء الطبيعي أو الوضع الطبيعي بالنسبة للعرب، بينما وضع التجزئة السائدة هو الاستثناء وهو بالأساس ـ وكما هو معروف ـ من صنع الدول الاستعمارية عبر الاتفاقيات المزيفة التي طبقتها مثل (اتفاقية سايكس ـ بيكو) وغيرها، وذلك بهدف تجزئة الوطن العربي وتقسيمه إلى عدة دول وأجزاء متفرقة الأمر الذي يسهل على الاستعمار السيطرة على هذه الدول ونهب خيراتها، حتى إن إسرائيل من دوافع إيجادها في قلب الوطن العربي فصل مشرقه عن مغربه واستنزاف موارده ونهبها. وما أحوج الأقطار العربية إلى المواقف الوحدوية لمواجهة الكوارث التي حلّت وتحلّ بالوطن العربي ابتداء بالربيع العربي والذي سبّب الخراب، والدمار، وهدر الدماء، وانتهاء بصفق القرن… ما أحوج العرب إلى الارتقاء بالموقف العربي إلى مستوى طموح عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة آنذاك الذي نادى العربي قائلاً (قف كما يقف الرجال، دع العواطف جانباً، دع الإحساس بالمرارة، تذكر أنك عربي حر، تنتمي إلى أمة عربية واحدة يتربّص بها الأعداء).
باحث وكاتب صحافي من المغرب.