تقدمة المترجمة
حقق المرشح الديمقراطي الاشتراكي للانتخابات الأميركية بيرني ساندرز فوزا غير متوقّع في ولايتَيْ كاليفورنيا ونيفادا، وتَعِد سياساته على صعيد الداخل الأميركيّ برفع الحد الأدنى للأجور إلى 15 دولارا في السّاعة، إلى جانب برنامج رعاية صحيّة موحّد للجميع تديره الحكومة بدلا من شركات التأمين الخاص، وسياسات ضريبية تحدّ من نفوذ الأثرياء وتستثمر في الإصلاحات الداخلية.
تتناول المادّة التالية، إذن، نظرة ساندرز إلى خارج أميركا، كيف سيكون شكل السياسة الأميركية الخارجية في حال تولّيه منصب الرئاسة، وما الذي سوف يعنيه فوز ساندرز للشرق الأوسط، حكومات وشعوبا؟
النصّ
أحدهما اشتراكي ديمقراطي، والآخر يمينيّ قومي، وبالعديد من الطرق تتباين مواقفُهما في العلاقات الدولية أشد التباين. لكن في عام 2011، بدا أن كليهما يدعمان، مبدئيا، انضمام الولايات المتحدة إلى حلف الناتو في الحملة العسكرية لحماية المدنيين في ليبيا. ثمَّ نحرَ الثوارُ الديكتاتورَ، وانفلت عقال الفوضى التي لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا. بعدها بتسع سنوات، ومع اقتراب ترمب من نهاية ولايته الأولى وصعود ساندرز في الانتخابات الرئيسية للحزب الديمقراطي، يتفقان مجددا، فمن الصَّعب أن نتخيل قبول أيٍّ منهما، في منصبه كرئيس للولايات المتحدة، بالخيار العسكري لحل أزمة مماثلة للأزمة الليبية.
تؤكّد هذه النقلة رسالة مركزيّة في ملف السياسة الخارجية للانتخابات الرئاسية عام 2020: إنَّ الأيام التي كانت فيها الولايات المتحدّة تستعرض قوّتها عالميا من خلال الجيش قد شارفت، رسميا، على الانتهاء. إن انتهى السباق الانتخابي، بمواجهة بين ساندرز وترمب، بغض النظر عن الفائز، ففِرَقُ الخيّالة التي كانت توفدها أميركا، استجابة لنداء الغريزة، لإنقاذ الدول الأخرى لن تكون هُنا حتى وقت طويل.
فهذا هو النزال الانتخابي الأميركي الأول، الذي يصوِّت فيه أشخاص وُلدوا بعد اندلاع الحرب الأفغانية. “الحروب الأزلية” خذلت الأجيال الأصغر سِنًّا على وجه التحديد، وهؤلاء يؤلّفون النسبة الأكبر من القاعدة الانتخابية لبيرني ساندرز. تختلف الطرق، لكنّ كلًّا من ترمب وساندرز قد وضع يده على هذا اليأس، والأمر الأساس في القضية التي يحاولان إثباتها للناخبين هي أنهما سيعملان على إنهاء تلك الصراعات في حال تولّى أيٌّ منهما منصب الرئاسة، وأنّهما يرفضان أن تكون أميركا شرطة العالم.
يقول جيرار أرو، السفير الفرنسي السابق إلى الولايات المتحدة: “إن ساندرز سيُمثِّل، شأنه في ذلك شأن ترمب، الانسحاب الجزئي للولايات المتحدة من الشؤون الدوليّة، لكن بأسلوب لربما كان أكثر تحضُّرا وتطوُّرا، وأكثر قابلية للتنبؤ”.
يعتبرُ العديد من المسؤولين الأوروبيين أنَّ ساندرز “انعزالي يساري”، بحسب ما يرى أرو، وهم “مذعورون” من إمكانية تولّيه الرئاسة بقدر ما هم مذعورون من إمكانية ولاية ثانية لترمب، لأنَّ ذلك سيؤكّد شكوكهم بشأن التزام الولايات المتحدة المستمرّ بالناتو ورغبتها بالحفاظ على نظام عالمي بقيادتها.
بالنسبة إلى الكثيرين في الولايات المتحدة والعالم الأوسع، يعتبرُ ساندرز لغزا في ملف الشؤون الدولية، وكان منذ أن ترشح للانتخابات الرئاسية لأول مرة في 2016 قد طوّر مجموعة جادّة من الآراء في السياسة الخارجيّة الأميركية. فأكثر ما يميّز ساندرز عن مرشحين سابقين، وحتّى عن بعض منافسيه في الحزب الديمقراطي، هو رفضه للهيمنة العسكرية للولايات المتحدَّة الأميركيّة بوصفها وسيلة لضمان الأمن والازدهار الأميركييْن، إلى جانب تصميمه على فصل الولايات المتحدة عن اعتمادها على الحلول العسكرية. غير أنَّ الأسئلة غير المُجابة بعد بشأن مدى واقعية هذه الآراء من المُرجَّح أن تكون سببا في إحباط هذه المخططات الكبرى، كما فعلت سابقا مع آراء ترمب، لا سيّما في فترة سيتعيّن على الولايات المتحدة فيها التنافس مع صعود الصين وانبعاث روسيا.
لكن المخاوف من أن تكون إدارة ساندرز انعزالية تغفل عن مُقتَرح السيناتور. ويقول مات داس، مستشار السياسة الخارجية في حملة بيرني ساندرز: “فقط لأنه أكثر تحفظا حيال التدخّل العسكري العدواني الذي رافق العشرين سنة الأخيرة، فإنّ ذلك لا يعني أنَّ رؤية ساندرز هي انسحاب من المسرح العالمي”، وأن الاعتقاد السائد في التسعينيّات، “بالأخص بعد حرب الخليج الأولى، كان أنّنا تلك القوة العسكرية التي لا تُضاهى، وأننا نستطيع استخدام جيشنا لتحقيق كل شيء تقريبا”، وقد أفضى هذا الاعتقاد إلى حرب العراق الكارثية، بحسب أقوال داس. لكن ساندرز يريد أن يتحدى “الاعتقاد السائد بعمق في واشنطن أنَّ العالم سيهوي إلى الفوضى ما لم تكن أميركا في طليعة كل استعراض عسكري”.
منذ دخوله الحلبة السياسية في سبعينيات القرن الماضي، ركَّز ساندرز على الزلات العسكرية الأميركية، سواء أكانت الانقلابات العسكرية المدعومة من السي آي إيه في إيران وتشيلي أو الحروب في فيتنام والعراق. ويأتي هذا الموقف من رؤيته، المستمرة إلى يومنا هذا، أن أجندته السياسية الداخلية مرتبطة على نحو معقَّد بالسياسة الخارجية، أي إنّ الإنفاق العسكري المنفلت يحدّ من فرص الاستثمارات في الداخل، وإن مصالح الشركات الضخمة تُفسد الدولة الأميركيّة، إلى جانب سخطه على الحملات العسكرية الأميركية في الحرب الباردة للتخلص من قادة اليسار مثلما حدث عندما قدَّم رونالد ريغان دعمه للثوار ضد دانيال أورتيجا في نيكاراغوا. (حتى إن ساندرز تمادى في فترة ترشّحه لمجلس الشيوخ عن الحزب المناهض للحرب عام 1974، إلى حدِّ المناداة بإنهاء السي آي إيه).
ضمن جهوده في التصدي للسياسيين الأميركيين الذين يُبرِّرون السياسة الأميركية الخارجية، بنفَس رومانتيكي، يتناول ساندرز أضرار العواقب غير المحسوبة لجهود تغيير الأنظمة من قِبل الولايات المتحدة. غير أن قراءته للتاريخ منحرفة من باب أنه قلّما يعترف بالاستخدامات الفعّالة والمحسوبة نسبيا للقوة العسكرية. وقد أدّى هذا به إلى التقليل من قيمة أخطاء أولئك الذين يعتبرهم ضحايا للإمبريالية العسكرية الأميركية. في ثمانينيات القرن الماضي، عندما اختلف أحد الناخبين مع دعمه لأورتيجا برغم ما قام به هذا الأخير من تقييد للحريات المدنية، ردَّ ساندرز، الذي كان يشغل منصب عمدة بيرلينجتون، فيرمونت، آنذاك بأن قلقه ليس منصبا على “خير أو شر” حكومة نيكاراغوا، ولكنه منصب على ما إذا كانت “الولايات المتحدة تمتلك الحقَّ الأُحاديّ الجانب بالذهاب إلى الحرب وتدمير حكومة لا تروق للرئيس ريجان وحكومته”. إنه كثيرا ما يخشى اعتداءات الولايات المتحدة على أميركا اللاتينية إلى درجة أنه يعارض، في الوقت الحالي، قرار إدارة ترمب سحب اعترافها بالرئيس الفاشستيّ نيكولاس مادورو بصفته قائدا شرعيا لفنزويلا، وإن كانت تلك الخطوة قد تمّت دون تدخُّل عسكري.
عندما يمتدح ساندرز مبادرات السياسة الخارجية الأميركية تكون تلك مبادرات غير عسكرية: خطة مارشال لإعادة إعمار أوروبا التي دمرتها الحروب، إنشاء الأمم المتحدة، جهود القيادة الأميركية بقيادة باراك أوباما لإبرام اتفاق يُقيّد البرنامج النووي الإيراني. كما أنها تميل إلى التركُّز في السنوات الأولى لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، مثل خطوة نبيّه المفضل، دوايت أيزنهاور، بالتحذير من صعود المجمع الصناعي العسكري والأثر المُدمِّر الذي سيحمله على تحرُّكات الحكومة الأميركية داخل البلاد وخارجها.
قد يبدو أحيانا أن ساندرز يبيع الناخبين ولاية ثالثة أكثر تقدمية لرئاسة أوباما، يقوم فيها بإعادة الالتزام بصفقة إيران النووية والعودة إلى اتفاقية باريس للمناخ ووضْعِ اللمسات الأخيرة على تخليص الولايات المتحدة من حروب الشرق الأوسط.
لكن النظر إلى ساندرز على أنه محض امتداد لأوباما في السياسة الخارجية يغفل عن الحد الذي يقول السيناتور إنَّه سيبلغُه في الامتناع عن استخدام القوة العسكرية مقابل أدوات دبلوماسية واقتصادية، كما أنه يتغاضى عن تعهُّد ساندرز بممارسة القيادة الأميركية في العالم وفقا لمجموعة جديدة (وإن كانت لا تزال محتجبة) من الأولويات ذات الروح التقدمية، بما فيها محاربة التغير المناخي، والفساد الحكومي، واللا مساواة، والسلطوية، وحركات اليمين المتطرف. في إحدى مناظرات الحزب الديمقراطي التي عُقدت الأسبوع الماضي، قال ساندرز: “بدلا من إنفاق 1.8 تريليون دولار أميركي سنويا على أسلحة تدميرية صُمِّمت لكي نقتل بعضنا بعضا، ربما يمكننا توحيد مواردنا لمواجهة عدوّ مشترك، ألا وهو التغير المناخي”.
لا يعني ذلك أن ساندرز سِلمي، فقد دعم في بعض الأحيان عمليات عسكرية للجيش الأميركي، بما فيها حملة الناتو لوقف التطهير العرقي في كوسوفو تسعينيات القرن الماضي، وغزو أفغانستان بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول. لكنه يميل بصورة أكبر إلى معارضة لا التدخلات العسكرية فحسب، ولكن التفكير العسكري ذاته. إنه يرفض ما يعتبره شعارات رنانة ترددها المؤسسة بأن الحزمَ في السياسة الخارجية إنمّا يأتي من نيّة استخدام القوّة، أو بأن القوة هي أداة أكثر حسما من الدبلوماسية.
إنَّ “الرأي الذي طوَّره” ساندرز هو أن على الولايات المتحدة الحفاظ على تحالفاتها الأساسية في أوروبا وآسيا، بالترافق مع الانسحاب العسكري من الشرق الأوسط، بحسب دانيال نيكسون، الباحث في السياسة الخارجية التقدمية.
وهو ما يذهب إليه داس بالقول إن ساندرز سوف يطمح إلى سحب القوات الأميركية كلها من أفغانستان، والعراق، وسوريا، “بحلول نهاية ولايته الأولى”، إلى جانب أنه سيُلغي تصريحات الكونغرس الغامضة بين عامي 2001 و2002 باستخدام القوّة العسكرية، ويضيف: “لقد رأينا الرؤساء المتعاقبين يناورون من أجل إبقاء وإرسال المزيد من الجنود، ونحن ملتزمون بتفادي هذا الأمر”. بالطبع، فهذا ما قاله كلُّ من أوباما وترمب قبل مواجهة تحدي الفراغ الخطير وتضييع التأثير الأميركي الذي ستُخلّفه مغادرة بؤر الصراع.
يختلف داس مع تكتيكات رئيسه وترمب، مشيرا إلى أن ساندرز سوف يتشاور مع الحلفاء وأنه لن يقوم بإعلان التغييرات في الحضور العسكري الأميركي “في تغريدة” أو “معاملة الجيش الأميركي كقوة من المرتزقة”، لكنه لا يرى أي فوارق، بالضرورة، بين أهدافهما الإستراتيجية، مضيفا: “إنَّ ثمة أسئلة حقيقية بشأن كلفة الحفاظ على ذلك الحضور العسكري الضخم في بعض تلك المناطق، لكننا مهتمون بالطبع بأن نُفكِّر جديا بشأن ما إذا كان علينا تقليل أعداد القوات في تلك المناطق دون الإخلال بالتزاماتنا الأمنية مع الحلفاء”، ولدى سؤاله عن القوات الأميركية المتمركزة في بلدان مثل اليابان، وكوريا الجنوبية، وألمانيا، ردَّ بالقول: “من الناحية الاقتصادية فلن يكون الأمر ممكنا على المدى الطويل”.
بينما يتوقَّعُ رو خنّا، النائب عن الحزب الديمقراطي في الكونغرس والعضو المشارك في رئاسة حملة ساندرز، من ساندرز أن يستمرّ في نشر الأصول العسكرية التي ستكفل “حرية البحار” في الخليج العربي والمياه حول الصين “بهدف الحفاظ على بعض الوجود للقوات العسكرية” في مناطق الحلفاء في آسيا وأوروبا.
لدى سؤاله عن إمكانية قيام ساندرز بسحب القوات الأميركية من كوريا الجنوبية بالتنسيق مع سيول كجزء من برنامج لتجريد كوريا الشمالية من سلاحها النووي، لم يستبعد خنا هذا الأمر. أما بالنسبة إلى ما إذا كان ساندرز سيُقدم على تدخل عسكري حال استخدام بشار الأسد الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين، كما فعل ترمب مرتين، وكما أحجم أوباما، يقول خنَّا إن الأمر مُرجَّح في ظل الظروف الملائمة، لكن ساندرز “قد يعتقد بأنَّ ذلك في الحقيقة لن يُنقذ الأرواح”. وذهب إلى الاعتقاد بأنه سيُركِّز على “كيفية وقف إطلاق النار في سوريا، وكيفية دفع الشركاء الإقليميين إلى التعاون باتّجاه الدفع لإيجاد حل دبلوماسي يحاول وضع حدٍّ لهذه الخسائر المدنية”.
إذن، ما الذي سيدفع ساندرز إلى القيام بتدخل عسكري؟ يقول مستشاروه إن تهديدا وشيكا على حياة الأميركيين سيدفعه للقيام بذلك، لأنه سيعتبر بأن التدخل العسكري وسيلة لتدارك فظاعات جسيمة أو لمعالجة الأزمات الإنسانية في الخارج، شريطة أن تتم بموافقة الكونغرس وضمن تحالف دولي متعدد الأطراف، وإن كانت، بحسب داس، “لديه فرص واقعية لتحسين الأوضاع في تلك الأماكن وبكلفة مقبولة”. وعمليا، ستكون هذه عقبات يصعب التغلب عليها.
يقول خنا إنَّ ساندرز قد لا يزال عازما على القضاء على قادة إرهابيين عبر استخدام جديد وأكثر تقييدا للقوة العسكرية، لكن ذلك لن ينطبق على استهداف شخصيات رسمية مثل القائد الإيراني قاسم سليماني، الذي قُتل مؤخرا بأوامر من ترمب، وهو ما أكّده ساندرز في مناظرة الحزب الديمقراطي الأسبوع الماضي، قائلا: “لا يمكنك التجول في الأرجاء قائلا: ’أنت شخص شرير، ونحن سنغتالك‘”. تعهّد السيناتور بطلب تصريح الكونغرس لأي صراعات عسكرية جديدة. وإن وفّى بهذا الوعد، فإن ذلك سيكون عاملا مؤثرا في جعل التدخلات العسكرية خلال رئاسته أمرا مستبعدا إلى حدٍّ كبير.
لم تُقدِّم حملة ساندرز حتى الآن أي تفاصيل حول الطريقة التي سوف تتبعها إدارته في خفض الإنفاق العسكري لإتاحة موارد مالية من أجل أولويات أخرى، سوى إجراء مراجعة نظامية لميزانية الدفاع عند توليه الرئاسة. كما أنّها لم تُفصِّل في كيفية تحقيق تلك التخفيضات في ظل تعنّت الكونغرس والرغبة في خفض العجز الاقتصادي. في الواقع، فإنَّ تلك التغييرات قد لا ترقى إلى الثورة السياسية التي يقول ساندرز إنه سيأتي بها. فعندما سألت خنا عما إذا كان ساندرز سوف يطالب بخفض مستويات التمويل الدفاعي بمئات مليارات الدولارات، بحيث نصل مستوى ميزانية ثاني أكبر قوة عسكرية في العالم، الصين، قال إنه يتوقّع أن يكون التخفيض أكثر تواضعا، بالقول “إنه بالتأكيد لن يصل إلى مستوى إدارة أوباما”.
كان توماس رايت، الباحث في معهد بروكنجز، قد كتب في الأتلانتيك أن المرشحين التقدميين من أمثال ساندرز وإليزابيث وارن لا يزال عليهم التعبير عن نيّتهم القيام بتغييرات جذرية، كالخروج من حلف الناتو، على سبيل المثال، أو السماح لحلفاء الولايات المتحدة بالتسلح النووي للدفاع عن أنفسهم، وهو ما سوف تتطلَّبه سياستهما الخارجية المتصورة المُناصرة لخفض التسلح العسكري. وقال رايت: “إنَّ من الممكن بأن يجد ساندرز ووارن نفسيهما في المنتصف بين وجهة نظر عالمية للأمن القومي كانوا قد عبّروا عنها وبين تطلعاتهم في تفادي المنافسة الجيوسياسية والتدخلات العسكرية”.
المسألة هي فقط إلى أي حدٍّ سيكون على ساندرز أن يذهب حقا في خفض القوات العسكرية، لا سيما خارج الشرق الأوسط. يروق لترمب التباهي بإعادة بنائه الجيش الأميركي، أقوى جيش عسكري في العالم، لكنه أظهر القليل من الاكتراث بما أسماه خلال خطاب حالة الاتحاد هذا العام “خدمة الدول الأخرى بالعمل كقوّة لتعزيز القانون”. حتى وإن كان قد قام بضخ كميات ضخمة من المال إلى الجيش الأميركي وشن هجمات محدودة ضد خصوم أميركا، فإن ترمب كان بدرجة عُرضة ساندرز نفسها لإعادة التفكير بنزعة التدخل العسكري والحضور العسكري العالمي للبلاد.
كما أخبرني حديثا دوجلاس ماكريغور، الكولونيل المتقاعد في الجيش الأميركي، والذي كان مرشحا ذات مرة لمنصب مستشار ترمب في الأمن القومي: “لقد تولّى ترمب الرئاسة معتقدا بأنه سيكون نقطة منعرج إستراتيجية”، وبأن “ثمة سببا للتشكيك في الحكمة من وراء توزيع قوات الجيش الأميركي على 800 قاعدة عسكرية حول العالم”.
لكن فيما ينبغي أن يكون عِبرة ودرسا لحملة ساندرز، فقد عانى الرئيس في تنفيذ رؤيته، حيث أعلن عن مخططاته لسحب القوات من سوريا وأفغانستان، لكنّه تراجع وسط صيحات واشنطن، موفدا المزيد من آلاف الجنود إلى الشرق الأوسط، ولينخرطَ في حرب وشيكة شاملة مع إيران. أما مطالبهُ بأن تزيد كوريا الجنوبية واليابان والبلدان الأوروبية بشكل كبير من مساهمتها المالية في تحالفها مع الولايات المتحدة فقد اصطدمت بمقاومة متعنّتة من أولئك الشركاء، بل ومن الكونغرس نفسه، على الرغم من أن ذلك دفع أعضاء الناتو لرفع إنفاقهم الدفاعي بمليارات الدولارات.
يقول نيكسون: “لكن حتى مع كل التخريبية التي جاء بها ترمب، فقد كان في الأغلب قادرا على إثارة ذعر البعض ودفعهم إلى التشكيك في التزامات الولايات المتحدة ونياتها. لكن ما الأشياء التي تغيَّرت على الأرض؟”.
أحد الأشياء التي تغيّرت هو أن الحلفاء قد بدؤوا بالتحوط سلفا إزاء تآكل التحالفات العسكرية الأميركية، سواء تمثَّل الأمر في حصول اليابان على قدرات عسكرية جديدة أو مناقشات البلدان الأوروبية لأشكال جديدة من الردع النووي المشترك.
قد يُرحِّب بعض حلفاء الولايات المتحدة بإدارة ساندرز بدلا من الفوضى التي ترافقت مع سنوات ترمب، حيث قال مسؤول في حكومة حليفة للولايات المتحدة، على شرط السرية: “أعتقد بأن ساندرز يمكن أن يأتي بسياسة خارجية أميركية أكثر تماسكا، ونزاهة، وقابلية للتنبؤ، وإن كانت تنظر إلى الدَّاخل، فما نحتاج إليه من الولايات المتحدة هو الاتساق والنزاهة”. لعل حلفاء آخرين، لا سيما أولئك الذين لم تكن علاقتهم مع ترمب رائعة إلى ذلك الحدّ، سيشعرون بشكل أفضل عندئذ.
يقول أرو: “عندما يستمر ترمب بالتساؤل ’لماذا ندافع عن أوروبا؟‘ فإن لديه وجهة نظر محقة”، ذلك أن السؤال الذي يطرحه أي مرشح رئاسي للولايات المتحدة هو “التحديد الأمثل للمصلحة القومية الأميركية”.
غير أن ذلك التشكيك، في الحقيقة، قد بدأ قبل ترمب بفترة لا بأس بها، حيث يذكر أرو بأنه تلقى مكالمة في أثناء ضغط الأوروبيين على إدارة أوباما للتدخل في ليبيا عام 2011، وكانت تلك المكالمة الهاتفية من سوزان رايس التي كانت تُمثِّل الولايات المتحدة عندئذ، بينما هو ممثل فرنسا، في الأمم المتحدة، قائلة: “إنَّك لن تورِّطنا في حربك القذرة”. لقد أذعن أوباما في النهاية، أما بالنسبة لساندرز وترمب فمن الواضح بأنّهما لن يفعلا الشيء نفسه.