جائحة كورونا التي تهدد العالم الآن سوف تنتهي بصورة أو بأخرى، لكن العالم بعدها لن يظل على حاله؛ عادات ستختفي وأخرى ستظهر، مفاهيم جديدة ستعيد تشكيل العلاقات بين الدول وتعاملات الأفراد، حتى التكنولوجيا ستأخذ بعداً آخر، وإليكم كيف سيتغير العالم إلى الأبد.
صحيفة بوليتيكو الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: “فيروس كورونا سوف يُغيّر العالم للأبد.. وإليكم الكيفية”، استطلعت فيه آراء أكثر من 30 مفكراً من الذين ينظرون إلى الصورة الكبرى وهم يحملون لك بعض الأنباء: استعِد، لأنّ الأمر يُمكن أن يصير أكبر مما تخيّلت.
بالنسبة للأمريكيين الآن، فإن حجم أزمة فيروس كورونا يستدعي إلى الذاكرة أحداث الـ11 من سبتمبر/أيلول والأزمة المالية العالمية عام 2008، وهي أحداثٌ أعادت تشكيل المجتمع بطرق دائمة، بدءاً من طريقة سفرهم وشرائهم للمنازل، ووصولاً إلى معدلات الأمن والرقابة التي اعتادوها، وانتهاءً باللغة التي باتوا يستخدمونها.
إذ إنّ الفيروس العالمي الجديد الذي يُبقينا مُحتجزين في منازلنا -ربما لأشهر- بدأ بالفعل في تغيير علاقتنا بالحكومة، والعالم الخارجي، وبعضنا البعض. وربما تبدو بعض التغييرات التي يتوقّعها أولئك الخبراء في غضون بضعة أشهر أو سنوات، غير مألوفة أو مُقلقة: هل يُصبح التلامس أمراً مُحرّماً؟ ما الذي سيحدث للمطاعم؟
لكن أوقات الأزمة تمنحنا فرصةً أيضاً من أجل: استخدام تكنولوجيا أكثر تطوّراً ومرونة، وإعادة إحياء تقديرنا للأماكن العامة ومُتَع الحياة البسيطة الأخرى. ولا أحد يعلم ما سيحدث على وجه التحديد، ولكن إليكم أفضل ما توصّلنا إليه في دليلٍ حول السُّبل غير المعروفة التي سيتغيّر بها المجتمع والحكومة والرعاية الصحية والاقتصاد وأساليب الحياة وأكثر.
فعل الأمور بصفةٍ شخصية سيصير خطيراً (ديبورا تانين)
علّمتنا الأزمة المالية العالمية عام 2008 أنّنا يُمكن أن نُعاني من كوارث العصور الماضية، مثل انهيار الاقتصاد إبان فترة الكساد الكبير. والآن، باتت جائحة الإنفلونزا عام 1918 شبحاً يُخيّم بظلاله على حياتنا أيضاً.
وفقدان البراءة أو الرضا عن النفس طريقةٌ جديدة للوجود في العالم، ويُمكن أن تُغيّر طريقة تعاطينا معه. إذ بتنا نعلم أنّ لمس الأشياء، والوجود مع أشخاصٍ آخرين وتنفُّس الهواء نفسه داخل مكانٍ مُغلق، تنطوي جميعها على مُخاطرةٍ كبيرة. وستختلف سرعة تراجع هذا الوعي من شخصٍ إلى آخر، لكنّها لن تختفي بالكامل بالنسبة لأيّ شخصٍ سينجو هذا العام. وربما يتحوّل الإحجام عن المصافحة أو لمس الوجوه إلى جزء من طبيعتنا، وربما نرِث جميعاً متلازمة الوسواس القهري على مستوى المجتمع، لأننا لن نستطيع التوقّف عن غسل أيدينا.
وربما نجد أن راحة الوجود مع الآخرين قد حلّت محلها راحةٌ أكبر في الغياب عنهم، خاصةً مع الأشخاص الذين لا نعرفهم عن قرب. وسنتوقّف عن طرح سؤال “هل هناك سببٌ لفعل ذلك عبر الإنترنت؟”، لنسأل: “هل هناك سببٌ لفعل ذلك بصفةٍ شخصية؟”، وربما نحتاج إلى تذكير وإقناع بالأسباب. ولسوء الحظ، وإن كان غير مقصود، فإنّ الأشخاص الذين لا يمتلكون اتصالاً سهلاً بالإنترنت سيصيرون أكثر حرماناً، وستكبر معضلة التواصل عبر الإنترنت: إذ ستخلق مسافات أكثر وتواصلاً أكبر في الوقت ذاته، لأنّنا سنتواصل أكثر مع أشخاصٍ بعيدين عنا، ويشعرون بأمانٍ أكبر، نتيجة تلك المسافة.
نوع جديد من الوطنية (مارك لورانس شراد)
لطالما ربطت أمريكا، وغيرها من الدول، الوطنية بالقوات المسلحة، ولكنّك لا تستطيع إطلاق النار على فيروس. لكن الموجودين على الخطوط الأمامية في المعركة ضد الفيروسات ليسوا مُجنّدين أو مرتزقة أو جنوداً؛ بل هم الأطباء والممرضون والصيادلة والمعلمون ومقدمو الرعاية وعمال المتاجر والمرافق ومُلاك الشركات الصغيرة والموظفون، وعلى غرار لي وينليانغ والأطباء الآخرين في ووهان، أرهقت المهام الغامضة كثيرين، فضلاً عن زيادة مخاطر التلوّث والموت التي لم يدخلوا مجال الطب من أجلها.
وفي نهاية المطاف، ربما سنُعرّف تضحياتهم على أنّها وطنية، ونُحيّي الأطباء والممرضين، وننحني أمامهم قائلين: “شكراً على خدمتكم” كما نفعل الآن مع قدامى المُحاربين العسكريين. وسنضمن لهم المزايا الصحية وخصومات الشركات، وسنبني لهم التماثيل، ونُقيم العطلات احتفاءً بهذه الطبقة من الناس التي تُضحّي بصحتها وحياتها لإنقاذ حياتنا. وربما سنبدأ أخيراً في تفسير الوطنية على أنّها رعاية صحة وحياة مجتمعك، بدلاً من تفجير مجتمعات الآخرين. وربما سيكون نزع الطابع العسكري عن الوطنية وحب المُجتمع هو إحدى الفوائد التي سنخرج بها من هذه الفوضى العارمة.
انخفاض الاستقطاب (بيتر كولمان)
الصدمة غير العادية التي جلبتها جائحة فيروس كورونا على نظامنا يُمكن أن تكسر النمط التصاعدي للاستقطاب السياسي والثقافي المستمر في دولٍ مثل الولايات المتحدة منذ أكثر من 50 عاماً، وربما تساعدنا جميعاً على تغيير المسار في اتجاه التضامن والوظيفية الوطنية أكثر، وربما يبدو الأمر مثالياً أكثر من اللازم، ولكن هناك سببان يدفعان إلى اعتقاد إمكانية حدوث ذلك.
أوّلهما هو سيناريو “العدو المُشترك”، حيث يبدأ الناس في تجاوز اختلافاتهم حين يُواجههم تهديدٌ خارجي مُشترك. ويمنحنا “كوفيد-19” عدواً هائلاً لا يُفرّق بين الأبيض والأسود، وربما يمنحنا طاقةً تُشبه الاندماج، ويُوحّد أهدافنا ليُساعدنا على إعادة التنظيم والتجمع. فإبان قصف لندن، خلال الحملة النازية ضد بريطانيا، لمدة 56 يوماً، اندهشت حكومة ونستون تشرشل وتشجَّعت حين شهدت صعود الخير البشري، وخصال مثل الإيثار والتعاطف وسخاء الروح والعمل.
والسبب الثاني هو سيناريو “موجة الصدمة السياسية”. إذ أظهرت الدراسات أنّ أنماط العلاقات القوية الدائمة تصير أكثر عرضةً للتغيير بعد أن يتزعزع استقرارها نتيجة صدمةٍ كُبرى. وهذا لا يحدث فوراً بالضرورة، إذ إن دراسةً أُجرِيَت على 850 نزاعاً مُستمراً بين الدول بين عامي 1816 و1992، وجدت أنّ أكثر من 75% منها انتهت في غضون 10 أعوام من حدوث صدمةٍ كبيرة مُزعزعة للاستقرار. ويُمكن أن تندلع الصدمات المجتمعية بأساليب مُختلفة، لتجعل الأمور أفضل أو أسوأ. ولكن بالنظر إلى معدّلات التوتر الحالية؛ يشير هذا السيناريو إلى أنّ الآن هو الوقت المثالي للبدء في الترويج لأنماطٍ بنّاءة أكثر في خطابنا الثقافي والسياسي. ومن الواضح أنّ وقت التغيير قد حان.
تراجع الفردية (إيريك كلينينبرغ)
تُمثّل جائحة فيروس كورونا نهاية علاقتنا الرومانسية بمجتمع السوق والفردية المُفرطة. وربما نتحوّل في اتّجاه الاستبداد. إذ يُمكن أن نتخيّل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وهو يُحاول تعليق انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني مثلاً. ويُمكن أن نُفكّر في احتمالية شنّ حملة قمع عسكرية. وسيناريو المدينة الفاسدة هذا حقيقيٌّ للغاية. لكنّني أعتقد أنّنا سنمضي في الاتجاه المُعاكس. فنحن نشهد الآن فشل نماذج التنظيم الاجتماعي القائمة على السوق، بشكلٍ كارثي، في حين تزيد سلوكيات تفضيل الذات من خطورة هذه الأزمة بدرجةٍ أكثر من اللازم.
وحين ينتهي ما نمُر به، سنُعيد توجيه سياساتنا ونُدخِل استثمارات كُبرى جديدة في المنافع العامة -مثل الصحة تحديداً- والخدمات العامة. ولا أعتقد أنّنا سنصير أقل جماعية. بل العكس، ستزداد قدرتنا على رؤية الكيفية التي ترتبط بها مصائرنا. إذ أصير مُعرَّضاً لمخاطر أكبر حين أتناول الهمبرغر من مطعم رخيص لا يمنح موظفيه إجازات مرَضية مدفوعة الأجر، أو بسبب الجار الذي يرفض البقاء بالمنزل في أثناء الجائحة، لأنّ مدرستنا الحكومية فشلت في تعليمه مهارات التفكير النقدي والعلوم. وسينهار الاقتصاد -والنظام الاجتماعي الذي يدعمه- في حال لم تضمن الحكومة دخل ملايين العاملين الذين سيفقدون وظائفهم نتيجة حالة ركود أو كساد كبير. وسوف يفشل الشباب في حال لم تُساعد الحكومة على تخفيض أو إلغاء ديون الطلاب. سوف تُسبّب جائحة فيروس كورونا قدراً هائلاً من الألم والمُعاناة. لكنّها ستُجبرنا على إعادة النظر في هويتنا والأشياء التي نُقدّرها، ويُمكن أن تُساعدنا على المدى البعيد في إعادة اكتشاف نسخةٍ أفضل من أنفسنا.
تغيُّر شكل العبادة الدينية (إيمي سوليفان)
يعشق المسيحيون عيد الفصح، لأنّه يُؤكّد انتصار الأمل والحياة على الخوف، ولكن كيف سيحتفلون بأقدس أيامهم إذا لم يستطيعوا الاجتماع معاً في فرحٍ، صباح عيد الفصح؟ وكيف سيحتفل اليهود بخلاصهم من العبودية حين يتعيّن عليهم تبادل مشروبات عيد الفصح اليهودي على تطبيق Zoom، ليتساءل الأصهار حول ما إذا كان ابن عمهم نسي الأسئلة الأربعة أم انقطع اتصاله بالإنترنت فجأة؟ وهل تستطيع العائلات المسلمة الاحتفاء بشهر رمضان في حال عجزوا عن الذهاب إلى المسجد لصلاة التراويح، أو التجمّع مع أحبابهم على مائدة الإفطار؟
وتعاملت كل الأديان مع تحدّي الحفاظ على الإيمان في ظلّ ظروفٍ صعبة مثل الحرب والشتات والاضطهاد، -ولكن لم يسبق أن اضطرت كل الأديان إلى التعامل مع تلك الظروف في الوقت نفسه. وستضطّر الأديان في زمن الحجر الصحي إلى تحدّي مفاهيم الكهانة والعبادة. ولكنّها ستزيد أيضاً الفرص أمام الأشخاص الذين لا يمتلكون جماعةً محلية للحصول على الخُطَب عن بُعد. وربما تكتسب الممارسات التأملية شعبيةً أكبر. وربما تهدأ الحرب الثقافية التي ميّزت المُبشّرين بالصالح العام مع لقب “مُحاربي العدالة الاجتماعية”، وسط التذكير الحالي بإنسانيتنا المُترابطة.
انهيار الحواجز التنظيمية على الإنترنت (كاثرين مانغو-وارد)
سيقضي “كوفيد-19” على كثير من الحواجز الاصطناعية التي تحول دون انتقال حياتنا بشكلٍ أكبر إلى الإنترنت. ولن تصير كل الأشياء افتراضيةً بالطبع. ولكن عديداً من مجالات حياتنا شهدت نوعاً من التباطؤ في استيعاب أدوات الإنترنت المفيدة للغاية، بسبب الأطراف القديمة النافذة التي تتعاون عادةً مع البيروقراطيين الحذرين. وربما كانت البيروقراطية التنظيمية ستستمر سنوات طويلة، في حال لم نُواجه هذه الأزمة. إذ فرضت علينا المقاومة -بقيادة نقابات المعلّمين والساسة المرتبطين بها- السماح بالتعليم المنزلي الجزئي أو التعليم عبر الإنترنت لطلاب الحضانة نتيجة الضرورة. وسيصير من شبه المستحيل إعادة الأمور إلى سابق عهدها في الخريف، حين تجد ثير من العائلات أنها تُفضّل التعليم المنزلي الكامل أو الجزئي، أو الواجبات المنزلية عبر الإنترنت.
ولن يرغب عديد من تلاميذ الجامعة في العودة إلى المسكن باهظ الثمن بالحرم الجامعي، وهو ما سيفرض تغييرات هائلة على قطاعٍ كان جاهزاً للابتكار منذ فترةٍ طويلة. وربما لا يمكن تأدية الوظائف كافة عن بُعد، لكن عديداً من الناس بدأوا يُدركون أنّ الفرق بين الاضطرار إلى ارتداء رابطة عنق والتنقّل في المواصلات ساعةً كاملة والعمل بفاعلية من المنزل- لا يتطلّب سوى القدرة على تنزيل تطبيق أو اثنين والحصول على إذنٍ من المُدير. وبمجرد أن تدرس الشركات خطوات العمل عن بُعد، سيصير من الصعب والمُكلّف حرمان الموظفين من هذه الخيارات. وبعبارةٍ أخرى، سيتبيّن أنّ كثيراً من الاجتماعات (ومواعيد الأطباء والصفوف الدراسية) كان من المُمكن أن تصير مُجرد رسالة بالبريد الإلكتروني. وستصير كذلك الآن.
حياةٌ رقمية أكثر صحية (شيري توركل)
ربما بالإمكان استغلال وقتنا مع الأجهزة لإعادة التفكير في أشكال المجتمعات التي نستطيع خلقها من خلال تلك الأجهزة، ففي الأيام الأولى من التباعد الاجتماعي نتيجة فيروس كورونا، شهدنا أول الأمثلة المُلهمة. إذ ينشر عازف التشيلو البارع يويو ما، حفلةً يومية مباشرةً بأغنيةٍ تُقوّي عزيمته. في حين تدعو مغنية برودواي، لورا بينانتي، فناني المسرحيات الموسيقية في المدرسة الثانوية، الذين لن يُقدموا عروضهم، إلى إرسال تلك العروض إليها.
وسيُوفّر رواد الأعمال وقتاً أكبر للاستماع إلى العروض التقديمية. في حين يعرض مُدرّبو اليوغا حصصاً مجانية. وتختلف هذه الحياة عبر الشاشة عن الاختفاء وسط لعبة فيديو أو تلميع صور الملفات الشخصية. إذ يُفسح ذلك المجالَ أمام السخاء والتعاطف الإنساني، حيث ينظر الإنسان إلى نفسه ويتساءل: “ما الشيء الأصلي الذي أستطيع تقديمه؟ لديّ حياة وتاريخ. فما الذي يحتاجه الناس؟”. وفي حال طبَّقنا أكثر غرائزنا بشريةً على أجهزتنا بالمضي قدماً، فسيكون هذا إرثاً عظيماً تركه لنا “كوفيد-19”. وبهذا لن نشعر بالوحدة في الوقت ذاته؛ بل سنكون مجتمعين في عزلتنا.
نعمة الواقع الافتراضي (إليزابيث برادلي)
يسمح لنا الواقع الافتراضي بعيش التجارب التي نُريدها حتى لو اضطررنا إلى العيش في عزلة، أو حجر صحي، أو حتى بمفردنا. وربما ستكون هذه هي وسيلتنا للتكيّف والحفاظ على سلامتنا خلال تفشّي المرض المُقبل. إذ أُريد برنامجاً للواقع الافتراضي يُعزّز التنشئة الاجتماعية والصحة العقلية للأشخاص الذين اضطروا إلى عزل أنفسهم ذاتياً. وتخيّل ارتداء النظارات لتجد نفسك فجأةً في فصلٍ دراسي أو مكان اجتماعي آخر، أو تخضع لتدخُّل نفسي إيجابي.
صعود التطبيب عن بُعد (إيزيكيل إيمانويل)
سيُغيّر الوباء نموذج مكان تقديم الرعاية الصحية. إذ ظلّت فكرة التطبيب عن بُعد على الهامش طوال سنوات، بوصفها منظومةً قليلة التكلفة وعالية الراحة. لكن الضرورة قد تزيد شعبية زيارات الطبيب عن بُعد بالتزام مع ضرب الجائحة لأماكن الرعاية الصحية التقليدية. وستكون هناك مزايا مرتبطة بالاحتواء في هذا التغيير، إذ إنّ البقاء في المنزل وإجراء محادثة فيديو يُبقيانك خارج إطار العدوى وبعيداً عن غرف الانتظار والمرضى الذين يحتاجون إلى رعايةٍ مُركّزة.
العلم سيسود من جديد (سونجا تراوس)
تراجعت مصداقية الحقيقة ورسولها الأول، العلم، منذ أكثر من جيل. وعلى حد تعبير أوبي وان كينوبي في كتابه “عودة جيداي Return of the Jedi”: “ستجد أنّ كثيراً من الحقائق التي نتمسّك بها تعتمد بشكلٍ كبير على وجهة نظرنا”. وفي عام 2005 قبل وقتٍ طويل من وصول دونالد ترامب، صاغ ستيفن كولبير مُصطلح “الحقائقية” لوصف الخطاب السياسي الذي تقلُّ فيه الحقائق بشكلٍ مُتزايد. إذ تشن صناعات النفط والغاز حرباً منذ عقود ضد الحقيقة والعلم، لتُواصل الجهود نفسها التي بذلتها صناعة التبغ من قبل.
وإجمالاً، أدّى ذلك إلى وضعٍ يزعم فيه الجمهوريون أنّ التقارير حول فيروس كورونا ليست علميةً على الإطلاق؛ بل مُجرّد سياسة، وبدا ذلك منطقياً لملايين من الناس. ولكن سرعان ما بدأت إعادة تعريف الأمريكيين للمفاهيم العلمية مثل نظرية جرثومية المرض والنمو الأُسّي. وعكس استهلاك التبغ وتغيّر المناخ، سيستطيع المُشكّكون في العلم رؤية تأثيرات فيروس كورونا فوراً. وعلى مدار الأعوام الـ35 المُقبلة على الأقل، أعتقد أنّ بإمكاننا توقّع استعادة الاحترام للخبرات في مجال الصحة العامة والأوبئة جزئياً.
زيادة القيود على الاستهلاك الجماعي (سونيا شاه)
في أفضل السيناريوهات المُحتملة، ستُجبر صدمة الجائحة المجتمع على قبول القيود المفروضة على ثقافة المستهلِك الجماعية، بوصفها ثمناً منطقياً ندفعه لحماية أنفسنا من الأمراض المعدية والكوارث الطبيعية مستقبلاً. وطوال عقود، أشبعنا شهواتنا المُبالَغ فيها عن طريق التعدّي على مساحات متزايدة من أراضي الكوكب بالأنشطة الصناعية، لنُجبر الأنواع البرية على التكدُّس في الأجزاء المتبقية من الموائل القريبة من البشر. وهذا هو ما سمح للميكروبات الحيوانية مثل السارس -ومئات الآلاف من الأمراض الأخرى مثل الإيبولا وزيكا- بالانتقال إلى الأجساد البشرية والتسبُّب في الأوبئة.
ونظرياً، يُمكنّنا أن نُقرّر تقليص أنشطتنا الصناعية والحفاظ على موائل الحياة البرية، حتى تظلّ الميكروبات الحيوانية في أجساد الحيوانات بدلاً من ذلك. وعلى الأرجح، سنشهد تحوّلاتٍ أقل صلة بدرجةٍ مُباشِرة. وسينتقل الحديث عن الدخل الأساسي الشامل والإجازة المرَضية الإلزامية مدفوعة الأجر من الهامش إلى مركز النقاشات السياسية. ونهاية الحجر الصحي الجماعي ستطلق العنان للطلب المكبوت على الألفة، علاوةً على طفرةٍ صغيرة في عدد المواليد. وستخفت الضجة المُثارة حول التعليم عبر الإنترنت، لأن جيل الشباب الذي أُجبِرَ على العزلة سيُعيد تشكيل الثقافة الخاصة بتقدير الحياة المجتمعية.
تقوية سلاسل التوريد المحلية (تود تاكر)
في أواخر أيام عام 2018، انتقد الخبراء إدارة ترامب؛ لفرضها رسوماً جمركية على الصُّلب المستورد عالمياً، لأسباب تتعلّق بالأمن القومي. وكتب الرئيس حينها تغريدةً تقول: “إذا لم يكُن لدينا الصلب، فليست لدينا دولة!”. لكن غالبية الاقتصاديين كانوا يرون أنّ الصين هي السبب الحقيقي وراء اضطرابات سوق المعادن، في حين أنّ فرض رسوم جمركية إضافية على حلفاء الولايات المتحدة كان أمراً لا معنى له. إذ كانت حُجّتهم هي أنّه في حال خسرت أمريكا صناعة الصلب بالكامل في النهاية، فسيظل بإمكانها الاعتماد على الإمدادات من الحلفاء بأمريكا الشمالية وأوروبا.
وبالانتقال سريعاً إلى عام 2020، نجد أنّه في هذا الأسبوع بدأ حلفاء الولايات المتحدة في دراسة فرض قيود كبيرة على الحدود، ويشمل ذلك إغلاق الموانئ وتقييد الصادرات. ورغم عدم وجود أدلة تُشير إلى أن فيروس كورونا في حدّ ذاته ينتقل من خلال التجارة، يظل بوسع المرء تخيُّل عاصفة مثالية تُؤدّي خلالها فترات الركود العميقة والتوترات الجيوسياسية المتزايدة إلى الحد من وصول أمريكا إلى سلاسل توريدها الطبيعية، في حين أنّ نقص القدرة المحلية بأسواق المنتجات المُختلفة يحُد من قدرة الحكومة على الاستجابة للتهديدات سريعاً. وربما يختلف الأشخاص المنطقيون حول ما إذا كانت رسوم ترامب على الصلب تُمثّل الاستجابة الصحيحة في الوقت المناسب. ورغم ذلك، من المتوقّع خلال السنوات المقبلة، أن نشهد دعماً أكبر من الديمقراطيين والجمهوريين والأكاديميين والدبلوماسيين لفكرة أنّ الحكومة لها دور أكبر تُؤديه في خلق فائض مناسب من سلاسل التوريد، التي تصمد في وجه الصدمات التجارية مع الحلفاء. وسيُمثّل ذلك تعديلاً كبيراً للمسار الذي كان مُتَّبعاً حتى وقتٍ قريب.
وفي النقطة نفسها، يقول دامبيسا مويو: “ستخلق جائحة فيروس كورونا ضغطاً أكبر على الشركات للموازنة بين كفاءة وتكاليف/مزايا منظومة سلاسل التوريد العالمية، وقوة سلسلة التوريد المحلية. إذ إنّ التحوّل إلى سلسلة توريد محلية أكثر قوة سيُقلّل الاعتماد على منظومة الإمدادات العالمية المُتصدّعة بشكلٍ مُتزايد. وفي حين أن ذلك سيضمن حصول الناس على السلع التي يحتاجونها، لكن هذا التحوّل سيزيد على الأرجح، من التكاليف على الشركات والمستهلكين”.
أسلوب الحياة – شهيةٌ للتحويل (ماري فرانسيس بيري)
من المحتمل أن تتسارع بعض الاتجاهات السائدة السارية بالفعل، مثل استخدام تقنية الصوت للتحكُّم في المداخل والأمان وما إلى ذلك. وعلى المدى القريب ستُضيف الجامعات دورات حول الجوائح، وسيبتكر العلماء المشاريع البحثية لتحسين التنبُّؤ والعلاج والتشخيص، لكن التاريخ يُوحي بنتيجةٍ أخرى أيضاً.
ففي أعقاب الإنفلونزا الإسبانية الكارثية بين عامي 1918 و1919 ونهاية الحرب العالمية الأولى؛ سعى كثير من الأمريكيين إلى الترفيه الخالي من الهموم والذي سهّله وصول السيارات وإذاعات الراديو. وأبدعت النساء الأمريكيات اللاتي حصلن على حقهن في التصويت بموجب التعديل الـ19، في قصّات شعرهن ورقصهن رقصة شارلستون. واستردَّ الاقتصاد عافيته سريعاً وازدهر عشرة أعوام، حتى دفع الاستثمار غير العقلاني بالولايات المتحدة والعالم في اتّجاه الكساد الكبير. وبالنظر إلى سلوكيات الماضي، نجد أنّه من المحتمل أن يستجيب البشر في أعقاب الجائحة بنفس شعور الراحة والبحث عن المجتمع نتيجة التخلّص من التوتر والمتعة.
تقليل تناول الطعام الجماعي وزيادة الطهي (بول فريدمان)
على مدار السنوات القليلة الماضية، أنفق الأمريكيون أموالاً على الطعام المُعَدّ خارج المنزل أكثر مما أنفقوه على شراء المقادير لإعداد وجباتهم في المنزل. ولكن الآن في ظل إغلاق غالبية المطاعم وزيادة العزلة، سيتعلّم كثيرون -أو يُعيدون تعلُّم- كيفية الطهي على مدار الأسابيع المُقبلة.
وربما يقعون من جديد في غرام الطهي، رغم أنني لا أُعوّل على ذلك كثيراً، لأن توصيل الطلبات إلى المنازل قد ينتصر في النهاية على كل شيء. وربما تُغلق صالات تناول الطعام بشكلٍ دائم، بسبب قلة الأشخاص الذين يتردّدون عليها، إذ من المُرجّح أن تقل أعداد صالات تناول الطعام في أوروبا والولايات المتحدة. وستقل اجتماعيتنا فترةٍ من الوقت على الأقل.
إحياء الحدائق (أليكساندرا لانغ)
ينظر الناس إلى الحدائق عادةً بوصفها وجهةً لشيءٍ مُحدّد، مثل: ملاعب كرة القدم، أو حفلات الشواء، أو ألعاب الأطفال، أو أي من تلك الأنشطة التي يجب تجنُّبها في الوقت الحالي. لكنّ ذلك لا يُقلّل من قيمة الحدائق على الإطلاق. إذ أحتمي داخل منزلي في بروكلين مع عائلتي، ونخرج يومياً مرةً واحدة؛ من أجل التنزّه شمالاً في حديقة جسر بروكلين وجنوباً بمنتزه بروكلين هايتس. ورأيت أناساً يُطالبون حديقة غولدن غيت بإغلاق طرقها الداخلية، حتى تتوافر مساحةٌ أكبر للناس. أما في بريطانيا، فتُحاول مؤسسة التراث القومي فتح مزيد من الحدائق والمتنزهات مجاناً. وتُعَدُّ الحدائق الحضرية -التي استثمرت فيها غالبية المدن الكبرى بشكلٍ كبير على مدار العقد الماضي- كبيرةً بما فيه الكفاية لاستيعاب الحشود، مع الحفاظ على التباعد الاجتماعي في الوقت ذاته. ومن المُفيد أنّ نصف الكرة الشمالي في فصل الربيع حالياً.
وربما يخرج المجتمع من هذه الجائحة وهو أكثر تقديراً لتلك المساحات الشاسعة، بوصفها خلفيةً للفعاليات الكُبرى والاستخدامات النشطة، فضلاً عن كونها فرصةً للوجود معاً. إذ كُنت أكتُب مؤخراً كتاباً عن مراكز التسوّق، لكنّني لا أنصح إطلاقاً بزيارتها الآن (نتيجة وجود عددٍ هائل من الأسطح الحاملة للفيروسات). لكن مراكز التسوّق في مجتمعات الضواحي كانت تُؤدّي الوظيفة نفسها تاريخياً: مكانٌ نذهب إليه لنجتمع معاً. ولا نملُك الآن سوى الحدائق. وبعد نهاية كل هذا، سأرغب في رؤية مزيد من الاستثمارات في الأماكن المفتوحة المتاحة الصالحة للتجمّع في مختلف الأحوال الجوية، حتى وإن لم نكُن بحاجةٍ إلى البقاء على بُعد مترين من بعضنا البعض.
نهاية طغيان العادة (فيرجينيا هيفرنان)
لا يلجأ البشر عادةً إلى الإقلاع بشكلٍ راديكالي عن عاداتهم اليومية. لكن الحُلم مؤخراً بـ”تحسين” الحياة -لتحقيق أعلى معدلات الأداء والإنتاج والكفاءة- خلق صناعةً منزلية تُحاول جعل أكثر الحيوات كآبةً تبدو بطولية. إذ كان جوردان بيترسون يُشجّع أرواح الذكور الضائعين على صناعة أُسرتهم منذ سنوات. كما تُشجّع كُتبٌ مثل “أسبوع العمل لأربع ساعات The Four-Hour Workweek”، و”قوة العادة The Power of Habit”، و”عاداتٌ ذرية Atomic Habits” القُرّاء على أتمتة بعض السلوكيات، ليعملوا أكثر ويأكلوا أقل في صمت.
لكن “كوفيد-19: يُشير إلى أن بيترسون (وغيره من المُروّجين لعبادة العادة) ليس قائد هذا الزمان. ويُمكن بدلاً من ذلك اعتبار ألبير كامو هو القائد، إذ حمّل “الاتّساق” المسؤولية الكاملة عن إبادة بلدةٍ جزائرية خيالية بسبب وباء. وكتب كامو عن البلدة المرفئية المُملّة: “الحقيقة هي أنّ الجميع يشعرون بالملل، ويُكرّسون أنفسهم لتنمية العادات”. ويفتقر أبناء البلدة المرتبطون بالعادات إلى الخيال. واستغرقوا وقتاً طويلاً ليفهموا أنّ الموت يُلاحقهم، وأنّ الوقت قد حان منذ فترة للإقلاع عن ركوب الترام والعمل من أجل المال ولعب البولينغ والذهاب إلى السينما.
وربما يتطلّب منا الأمر اندماج شبح الاستبداد مع المرض، حتى نُضطّر إلى الاستماع إلى صوت بديهتنا وخيالاتنا وغرابة أطوارنا، كما هو الحال في زمن كامو، ونتجاهل صوت برمجتنا. ومن الضروري الآن أن نسلك نهجاً أكثر شمولاً وشجاعة في حياتنا اليومية، حتى لا نسقط فريسةً للاستبدادية التي تُشبه طغيان ترامب، ونفاقه، وتشدُّده، وسلوكياته المُدمّرة بيئياً وفسيولوجياً (مثل قيادة السيارات وتناول الطعام وحرق الكهرباء). وربما يُشجّع عصر الطاعون الحالي على التزامٍ أنشط برؤيةٍ عالمية أدق تعترف بأنّ وقتنا على الأرض محدود، وأنّ ساعة القيامة باتت وشيكة، وأنّ العيش معاً في سلام بهدفٍ مُشترك يتطلّب أكثر من صنع الأُسرة والاستثمارات الحذرة. فالأمر يتطلب قوة اللاعادة.