تشهد البشرية سباق تسلحٍ عالمي يتعلق بإنتاج لقاح مضاد لفيروس كورونا المستجد. خلال الأشهر الثلاثة الماضية منذ بدء انتشار الفيروس المميت، انطلقت الصين وأوروبا والولايات المتحدة في سباق سرعةٍ على أول من ينتج لقاحاً مضاداً للفيروس بينهم. لكن في حين أن هناك تعاوناً على عديدٍ من المستويات، حتى بين الشركات التي عادة ما يكون بينها منافسة شرسة، فإن تأخير الكشف عن آخر النتائج هو بقايا نهجٍ قومي يمكن أن يمنح الفائز الفرصةَ لإيثار سكانه، وربما التفوق على غيره في التعامل مع التداعيات الاقتصادية والجيوستراتيجية الناجمة عن الأزمة.
مسألة أمن قومي
تقول صحيفة The New York Times الأمريكية، ما بدأ سؤالاً حول من سيحوز الأوسمة العلمية وبراءات الاختراع وفي النهاية العائدات الهائلة للقاح ناجح تحوّل فجأة إلى قضية أوسع تتعلق بالأمن القومي العاجل لكل دولة.
وتكمن خلف التدافع حقيقةٌ قاسية: وهي أن أي لقاح جديد يثبت فعالية ضد فيروس الكورونا –التجارب السريرية جارية في الولايات المتحدة والصين وأوروبا بالفعل- من المؤكد أنه لن يتوفر بكمية كافية في المعروض، إذ ستحاول الحكومات التيقن من أن شعوبها أول من يتلقى العلاج قبل أي أحد آخر في الطابور.
الصين.. لن يسبقنا أحد
في الصين، يعمل 1000 عالم على إنتاج لقاح، وقد تحول الأمر إلى مسألة عسكرية بالفعل: فقد طوّر باحثون تابعون لأكاديمية العلوم الطبية العسكرية لقاحاً يعتبر مرشح البلاد الأول للنجاح في مواجهة الفيروس، وبدأ تجنيد متطوعين لإجراء التجارب السريرية عليهم.
وفي مؤتمر صحفي عُقد يوم الثلاثاء في بكين، قال وانغ جون تشي، وهو أحد الخبراء المعنيين بمراقبة جودة المنتجات البيولوجية في الأكاديمية الصينية للعلوم، إن الصين “لن تكون أبطأ من الدول الأخرى”.
وقد اتخذت الجهود هيئة الدعاية. إذ كُشف بالفعل عن أن صورة جرى الترويج لها على نطاق واسع لتشن وي، عالمة الفيروسات في جيش التحرير الشعبي، وهي تتلقى حقناً لما أُعلن أنه أول لقاح للفيروس، كانت صورةً مزيفة، التُقطت بغرض الترويج قبل رحلةٍ لها إلى مدينة ووهان التي ظهر فيها الفيروس لأول مرة.
أمريكا.. السيطرة لنا
على الجانب الآخر، تحدث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في اجتماعات مع المديرين التنفيذيين لشركات الصناعات الدوائية الأمريكية مؤكداً أهمية إنتاج لقاح على الأراضي الأمريكية، لضمان سيطرة الولايات المتحدة على إمداداته. وقال مسؤولون حكوميون ألمان إنهم يعتقدون أنه حاول إغراء شركة ألمانية، شركة “كيورفاك” CureVac، بنقل أبحاثها الخاصة بلقاح مضاد للفيروس وإنتاجه، إذا وصل الأمر لذلك، لتجري في الولايات المتحدة.
ونفت الشركة أنها تلقت أي عروض للاستحواذ عليها، ومع ذلك فإن المستثمر الرئيسي أوضح بصراحة أنه كان ثمة نوع من التقارب والمحادثات بشأن الأمر.
ورداً على سؤال من المجلة الألمانية Sport 1 حول الكيفية التي جرى الكشف بها عن أن ثمة تواصلاً من أطراف في الشركة مع ترامب، قال ديتمار هوب، مالك شركة Dievini Hopp BioTech Holding القابضة التي تمتلك 80% من أسهم الشركة الدوائية: “أنا شخصياً لم أتحدث إلى ترامب. لقد تواصل هو مع الشركة، وأخبروني على الفور عن ذلك وسألوني عن رأيي بعرضه، وقد تبين لي على الفور أنه غير وارد”.
أوروبا.. صناعة استراتيجية
كان التقرير الوارد عن تواصل كهذا كافياً لدفع المفوضية الأوروبية إلى التعهد بتقديم 85 مليون دولار أخرى للشركة التي كانت قد حازت بالفعل دعماً أوروبياً لأبحاثها الخاصة بإنتاج لقاح.
وفي اليوم ذاته، عرضت شركة صينية 133.3 مليون دولار لتملك حصة من الأسهم بجانب حقوق أخرى في شركة ألمانية غيرها تخوض سباق اللقاحات، وهي شركة “بيونتيك” BioNTech.
من جانبه، قال فريدريك فون بوهلين، المدير الإداري للشركة القابضة التي تمتلك نحو 82% من أسهم شركة “كيورفاك”: “كان هناك نداء تنبيهٍ عالمي بأن التكنولوجيا الحيوية هي صناعة استراتيجية لمجتمعاتنا البشرية”.
من جانبه أعلن السبت، 21 مارس/آذار رئيس شركة كورفاك الألمانية بالإنابة فرانتس فارنر هاس (Franz Werner Haas) إن عشرات الالف من المصابين بفيروس كورونا من الممكن أن يحصلوا على لقاح لفيروس كورونا الخريف القادم.
وأضاف أنه بعد “التقدم الذي أحرزه علماء الشركة، فإن التجارب السريرية لهذا اللقاح ستنطلق الصيف القادم”. وأكد هاس أنه في حال وافقت السلطات الألمانية فسنبدأ في عملية الإنتاج، مضيفاً أن لدى شركته قدرة إنتاجية تتروح ما بين 200 إلى 400 مليون جرعة لقاح لفيروس كورونا في العام الواحد.
روسيا.. 6 لقاحات
في روسيا، أعلن رئيس الوزراء الروسي، ميخائيل ميشوستين، أن علماء بلاده يختبرون حالياً 6 لقاحات مضادة لفيروس كورونا المستجد (كوفيد – 19).
وقال ميشوستين، في كلمة ألقاها الجمعة، خلال جلسة للمجلس التنسيقي الحكومي لمكافحة انتشار فيروس كورونا “نأمل بأن يتم تأكيد فعاليتها (اللقاحات) قريباً”، بحسب قناة روسيا اليوم.
وأضاف ميشوستين، “تجري حالياً في روسيا اختبارات لـ6 أدوية من هذا النوع، وعلماؤنا طوروها خلال وقت وجيز جداً، في شهرين فقط، من خلال استخدام الابتكارات المتوفرة وأحدث التكنولوجيا البيولوجية”.
منافسة جيوسياسية صحيّة؟
مثلما حرصت الدول على بناء طائراتها المسيرة الخاصة، ومقاتلاتها الشبحية وأسلحتها السيبرانية الخاصة بها، فإنها لا تريد أن تكون مدينة لقوةٍ أجنبية للوصول إلى الأدوية اللازمة لعلاج شعوبها في أي أزمة.
وقال فون بوهلين، بعد عقدين من نقل صناعة الأدوية واستزراعها في الصين والهند [توفيراً للتكاليف]، “تريدون الآن لعملية الإنتاج أن تجري بأكملها بالقرب من الوطن!”.
يرى بعض الخبراء أن المنافسة الجيوسياسية صحيّة، ما دامت الدول تتشارك أي نجاحات تحققها مع العالم، وهو ما يؤكد المسؤولون الحكوميون روتينياً أنه سيحدث.
لكنهم لا يقولون كيف، أو الأهم، متى سيحدث ذلك بالفعل. إذ يتذكر كثير من الخبراء ما حدث خلال وباء إنفلونزا الخنازير في عام 2009، عندما كانت شركة أسترالية أول من طوّر لقاحاً أحادي الجرعة وعمدت إلى تأخير عملية تصدير اللقاح لتلبية الطلب عليه في أستراليا، قبل تلبية طلبات التصدير إلى الولايات المتحدة أو أي دولة أخرى.
وقد أثار ذلك غضباً عارماً، ونظريات مؤامرة وجلسات استماع في الكونغرس للتحقيق في أسباب العجز عن تلبية الطلب على اللقاح.
يقول الدكتور أميش أدالجا، من مركز الأمن الصحي بجامعة جونز هوبكنز: “تريد أن يتعاون الجميع، ويتسابق الجميع بأسرع ما يمكن على إنتاج لقاح، وللمرشح الأفضل أن يمضي قدماً”.
ويضيف أدالجا، لكن إذا كان أولئك الذين تظهر عليهم بشائر النجاح يضطرون مباشرة إلى التساؤل عما إذا كانت شركاتهم ستؤمَّم في حالة إنتاجهم اللقاح، فإن هذا يخلق تعقيدات في الموقف، “فأنت كشركة دوائية تصبح لا تريد الوصول إليه، على الرغم من أنك في الوقت ذاته تحاول تصنيع اللقاح في أسرع وقت ممكن”.
تخزين اللقاح سيكون مدمراً
يقول مسؤولون في شركات الأدوية الرائدة في العالم يوم الخميس إنهم يعملون معاً ومع الحكومات على تطوير اللقاح في أسرع وقت ممكن، وتوزيعه بعدل. لكنهم دعوا الحكومات إلى عدم السعي إلى تخزين اللقاح وتكديسه بمجرد تطويره، قائلين إن ذلك سيكون مدمراً للهدف الأهم الأوسع المتمثل في القضاء على جائحة فيروس الكورونا.
ويقول سيفيرين شوان، الرئيس التنفيذي لشركة الأدوية السويسرية “روش” Roche: “أدعو الجميع إلى عدم الوقوع في هذا الفخ بالقول إننا يجب أن نحصل على كل شيء من أجل بلادنا فقط ونغلق الحدود. سيكون أمراً خاطئاً تماماً الوقوع تحت هيمنة النظرة والسلوك القومي الذي قد يعطل فعلياً سلاسل التوريد ويضر بالناس في جميع أنحاء العالم”.
وهناك ضغط آخر يتمثل في تأكيدات ترامب يومياً بأن طفرة في الحصول على لقاح مضاد للفيروس على وشك التحقق. وذلك في حين أن الأدوية المضادة للفيروسات التي تستخدم لعلاج المصابين بفيروس كورونا المستجد ربما يجري اختبارها بموجب إرشادات “الاستخدام الرحيم” التي تسمح بإجراء تجارب سريرية على المرضى في مرحلة متأخرة، ومع ذلك فإن عملية إنتاج لقاح ناجح بالفعل لا تزال على بعد 12 إلى 18 شهراً على أقل تقدير، حسبما يقول المسؤولون الأمريكيون ومديرو شركات الأدوية الكبرى في العالم.
وقال ديفيد لوف، نائب الرئيس التنفيذي لشركة “سانوفي باستور” Sanofi Pasteur الفرنسية يوم الخميس: “تُحقن اللقاحات في أشخاص أصحاء، ومن ثم فإننا نحتاج إلى التحقق من ضمانات السلامة”، وهي عملية تستغرق وقتاً. تعمل الشركة الفرنسية إلى جانب شركة “إيلي ليلي” Eli Lilly، وشركة “جونسون آند جونسون” Johnson & Johnson الأمريكيتين في الولايات المتحدة، وشركة “روش” وشركة “تاكيدا” Takeda في اليابان.
“المنافسة القومية”
في الأوقات العادية، هناك دائماً عنصر من المنافسة القومية فيما يتعلق بتطوير الأدوية. وخلال الأشهر التي سبقت ظهور فيروس كورونا في ووهان، كان مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي بدأ العمل على إقصاء العلماء الذين يُعتقد أنهم كانوا يسرقون أبحاث الطب الحيوي من الولايات المتحدة، وتركزت جهودهم بالأساس على العلماء من أصل صيني، وشمل ذلك المواطنين الأمريكيين المتجنسين، الذين يشتبه في سرقتهم الأبحاث لصالح الصين. وكانت هناك 180 حالة قيد التحقيق العام الماضي.
لكن الخوف هو أن الحاجة الملحة الآن للتوصل إلى لقاح فعال ستزيد من تأجيج النزعات القومية.
وقد أوضحت الصين أنها تبحث عن “بطلها الوطني”، ليضطلع بدور مماثل لذلك التي تقوم به شركة “هواوي”، عملاق الاتصالات الصيني، في السباق لبناء شبكات 5G في جميع أنحاء العالم. وإذا سارت الأمور على نمط هواوي، فإن الصين قد تعقد صفقات لتأمين مزيد من النفوذ لها على البلدان الفقيرة أو الأقل تقدماً، والتي قد لا تتمكن من الوصول إلى اللقاح بأثمان يمكن لها تحملها.
وهناك بالفعل إشارات إلى أن الصين شرعت في استغلال هذه اللحظة لتحقيق مزايا جيوسياسية لها، فقد بدأت في تقديم المساعدات إلى بلدان كانت عادة ما تتطلع في السابق إلى أوروبا أو الولايات المتحدة لدعمها. وعلى هذا النحو، كان قرارها بشحن معدات الاختبارات والتشخيص إلى الفلبين، وهي حليف للولايات المتحدة، ودعم صربيا، مؤشراً بارزاً لما قد تحققه من مصالح إلى جانب تقديم الأدوية واللقاحات، عندما تكون متاحة.
وفي ندوة عُقدت عبر الهاتف يوم الخميس، قال مسؤولون تنفيذيون من أكبر خمس شركات تصنيع دوائية إنهم يعملون على زيادة قدرات الإنتاج في الصناعة الدوائية من خلال مشاركة الإمكانات المتاحة، للتمكن من رفع معدلات الإنتاج بمجرد التوصل إلى لقاح أو عقار فعال لمواجهة الفيروس. وطالبوا بتوفير منظومات متعددة للاختبارات، وذلك لزيادة فرص النجاح، ثم للحصول على ترخيص فوري للسماح بزيادة الإنتاج في أقرب وقت.
وقال لوف إنه بمجرد الموافقة على لقاح مضاد للفيروس، “سيتعين تطعيم مليارات من الأشخاص في جميع أنحاء العالم، ومن ثم فنحن شرعنا بالفعل في البحث عن بدائل لأين وكيف ستتم عملية الإنتاج”.
الأمر بيد الحكومات
ومع ذلك، فإن الحكومات هي التي تقرر كيف تجري الموافقة على استخدام اللقاح، وأين يمكن بيعه.
يقول سيث بيركلي، الرئيس التنفيذي لتحالف “جافي” GAVI [التحالف العالمي للقاحات والتحصين]، وهي منظمة غير ربحية معنية بتوفير اللقاحات للبلدان النامية، تعليقاً على ذلك: “إذا قالت الدول: (هيا، فلنحاول توفير احتياجاتنا والإغلاق عليها حتى نتمكن من حماية سكاننا)، فقد يصبح من الصعب توفير اللقاح في الأماكن الأجدر والأكثر تأثراً بتوفيره أو عدمه من جهة انتشار الفيروس فيها”.
ومع ذلك، نظراً إلى تلك المخاطر، اتخذ عدد كبير من الحكومات الأوروبية والمجموعات غير الربحية خطوات بالفعل لمنع أي من الولايات المتحدة أو الصين من احتكار أي إمكانية لإنتاج لقاح فعال ضد الفيروس.
في أعقاب وباء إيبولا الذي انتشر على امتداد مناطق غرب إفريقيا من عام 2014 إلى عام 2016، بدأت النرويج وبريطانيا وغيرها من دول أوروبية في الغالب، بالإضافة إلى “مؤسسة بيل ومليندا غيتس” الخيرية في تقديم دعمٍ بملايين الدولارات إلى منظمات متعددة الجنسيات، ومنظمة “تحالف ابتكارات الاستعداد للاوبئة” (CEPI)، لتمويل أبحاث اللقاحات.
وقالت المنظمة في بيان لها إن جميع اتفاقات التمويل الخاصة بها تضمنت بنوداً تتعلق بتحقيق المساواة والعدالة لضمان وصول “اللقاحات الفعالة للسكان بمجرد إتاحتها، حيثما ومتى ما كانت الحاجة إليها في القضاء على فيروس منتشر، أو الحد من انتشار وبائي، وبغض النظر عن قدرتهم على تحمل تكاليفه”.
وخلال الشهرين الماضيين، قدم التحالف تمويلات لثمانية من أكثر المرشحين الواعدين المتوقع تمكنهم من إنتاج لقاح فعال مضاد لفيروس كورونا، ومن ضمنهم شركة “كيورفاك” الألمانية.
كل تلك الأطراف لم تعرف بالضبط ما الذي سعى إليه ترامب بتواصله مع “كيورفاك”، إذا كان ثمة، ولا تعرف شيئاً عن السبب الذي جعل الشركة الألمانية تطيح برئيسها التنفيذي الأمريكي، دانيال مينيشيلا، بعد أيام من لقائه مع الفريق المعني بمكافحة فيروس كورونا في البيت الأبيض، في جلسة مرَّ بها ترامب. وقد رفض البيت الأبيض التعليق.
أما الشركة الألمانية، فأصدرت بياناً واضحاً تنفي فيه تلقيها أي عروض للاستحواذ عليها. وقال فون بوهلين: “ربما قال أحدهم شيئاً عن ذلك. لكن ليس هناك أي عرض مكتوب من الولايات المتحدة”.
ولم يكن ثمة حاجة إلى ذلك. فمجرد تلميحٍ إلى الشركة كان كافياً لجعل المسؤولين الأوروبيين يقدمون مزيداً من التمويل لها.
وقالت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية: “حقيقة أن دولاً أخرى حاولت الاستحواذ على تلك الشركة تُشير إلى أنها الشركة المتصدرة في الأبحاث المتعلقة بلقاح مضاد لفيروس كورونا. إنها شركة أوروبية، أردنا الاحتفاظ بها في أوروبا، وأرادت من جانبها البقاء في أوروبا. وكان من المهم للغاية منحها التمويل اللازم، وقد تم ذلك”.