ألقى خطر فيروس كورونا بظلاله على مسارات الأحداث الإقليمية والأزمات الجارية بالشرق الأوسط، فهناك تراجع لمعدلات المواجهات العسكرية والعمليات الأمنية، مقابل التركيز على الرقابة على القطاع الصحي والأمني؛ لضبط منافذ العبور على اختلافها، والرقابة على أسواق المنتجات والسلع الأساسية والطبية والتعقيمية المرتبطة بالتعامل مع الفيروس. ومن الجلي أن شدة وتداعيات “كورونا” ساهمت في تحول وتبدل مجريات أزمات الإقليم -بدرجات متفاوتة- ما يثير أهمية التساؤلات حول حجم ومسارات هذا التأثير على قضايا الشرق الأوسط، ويمكن تناول أبرز تلك التحولات والتأثيرات فيما يلي:
إيران.. إحتواء الداخل وتخفيف تأثير العقوبات الامريكية
تصدرت طهران قائمة الدول الأكثر إصابةً بـ “كورونا”، فوفقًا لتصريحات “كيانوش جهانبور” المتحدث باسم وزارة الصحة في 16 مارس2020، واصلت معدلات الوفيات في الزيادة لتصل الى 853 متوفي، كما ارتفعت حالات الإصابة لتبلغ 14.991 مصاب، وهو ما جعل إيران في الوقت الحالي بؤرة انتشار إقليمي لـ “كورونا”. وظهرت منذ اللحظات الأولى اتجاهات توظيفية للفيروس لأغراض داخلية وخارجية، كموجات الاحتجاج السابقة واستياء قطاعات واسعة الانتخابات الأخيرة، كذلك الضغوط القصوى الأمريكية والعقوبات الاقتصادية وتصاعدت مؤشرات المواجهة -مباشرة أو غير مباشرة- مع واشنطن. وتصاعدت نماذج توظيف استراتيجية مواجهة “كورونا” بإيران لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية، حيث إعلان حالة الطوارئ وتشكيل خلية لإدارة الازمة، ما منح النظام فُرصة لاحتواء الشارع الإيراني المشتعل منذ فترة، وإيجاد غطاء لخطط متابعة ورصد النشطاء، وكان على رأس تلك الأنشطة إطلاق تطبيق رسمي لمتابعة تحركات المواطنين لمتابعة الانتقالات وعمليات الاختلاط، كوسيلة لتتبع الحالات المصابة ومن تعاملوا معها قبل ظهور أعراض الفيروس عليهم، بالإضافة الى تعليق الدراسة وإلغاء أية تجمعات.
وفي سياق موازٍ، صعدت طهران من رسائلها ضد واشنطن، وحمّلت حملات الضغط القصوى مسؤولية تدهور القطاع الصحي ومحدودية قدراتها على مواجهة “كورونا”، وبدأت تلك الرسائل في حشد دعم دولي لصالحها، وتلقت إيران بالفعل معونات من دول أوروبية وآسيوية تضمنت معدات طبية ووقائية، بالإضافة الى دعم نقدي بملايين الدولارات لمساعدتها في مواجهة وتيرة انتشار الفيروس المتصاعدة بها.
تحجيم حراك الشارع وتخطي أزمة تشكيل الحكومة العراقية
أصبحت بغداد في وجه مأزق داخلي متشابك مع خروج الشارع ضد التدخلات الإيرانية وهيكل السلطات القائمة على المحاصصة والطائفية، وتصاعد مؤشرات دخولها كساحة مواجهة محتملة بين الولايات المتحدة وإيران والمليشيات الموالية لها. ومع دخول فيروس “كورونا” كعامل ضغط على السلطات والدولة، ووفقًا للإحصائيات بلغ عدد مصابي الفيروس بها 124، و10 متوفين. وفي ظل جوارها لإيران التي تعد بؤرة انتشار للفيروس، بدأ العراق في مواجهة الوباء الى جانب داخله المشتعل، فشكل خلية للأزمة برئاسة رئيس الوزراء المستقيل “عادل عبد المهدي”، وأعلن تعليق الرحلات الجوية وفرض حظر للتجول، وهي إجراءات تزامنت مع منح المحافظين سلطات واسعة لإتخاذ القرارات الملائمة لمواجهة خطر الفيروس.
وبذلك فقد منح “كورونا” والأوضاع الاستثنائية الحالية فُرصة للسلطات العراقية مساحة لإعادة ترتيب أوراقها في الملفات العالقة، والعمل بعيدًا عن ضغوط الحراك، ووصول القوى السياسية لصيغة توافقية لتشكيل الحكومة وشخص رئيس الوزراء، وهو ما حدث بالفعل مع تكليف الرئيس العراقي “برهم صالح” لـ “عدنان الزرفي” بتشكيل الحكومة العراقية الجديدة، فضلًا عن كسب مزيد من الدعم مع توالي الضربات الامريكية لمواقع الجيش العراقي وتصوير المشهد كاعتداء على السيادة العراقية، الأمر الذي يتطلب لتكاتف الدولة والشعب للتركيز على مواجهته.
سباق لحفظ تماسك الجبهات بين الشرق والغرب الليبي
سعت أطراف الصراع الليبي لتوظيف فيرس “كورونا” لإظهار فاعلية سلطتها وقدرتها على بناء نموذج للسلطة بإمكانه احتواء التهديدات المحيطة بالمجتمع الليبي، ورغم تعدد الإجراءات شرقًا وغربًا لمواجهة تأثيرات وخطر انتقال فيروس “كورونا” الى ليبيا، إلا أن توظيف الأزمة كان السمة السائدة لتلك الإجراءات. وحرص المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق على اعتماد الترتيبات المالية للعام 2020 -أكثر من 35 مليار دينار- ودفع مرتبات شهري يناير وفبراير، وهو الملف الذي أثار تحفظ محافظ المصرف المركزي “الصديق الكبير” على مخصصات تلك الترتيبات وتعطيلها لثلاثة أشهر. فيما حرصت الحكومة الليبية المؤقتة برئاسة “عبد الله الثني” على اتخاذ التدابير الوقائية اللازمة لمواجهة الوباء، وهو ما شهد جهودًا وتكليفات مباشرة من القوات المسلحة التي وجهت بتوفير المستلزمات الطبية وتوفير مستشفيات بمناطق سيطرتها لمواجهة الفيروس؛ بهدف إظهار نموذج رشيد في إدارة الازمة في الشرق الليبي.
ورغم تأثير كورونا بشكل مباشر على العمليات العسكرية والمجهود الحربي للطرفين، إلا أن المناوشات والضربات المتتالية لتجمعات المليشيات والطائرات المسيرة التركية لم يتوقف، وإن انخفضت وتيرة المواجهات بشكل عام، كذلك فإن تحشيد القوات لمحاور القتال بمحيط طرابلس لم يتأثر، وخصوصًا مع تحرك كتيبة طارق بن زياد المُقاتلة لدعم جبهات القتال، إلا أن تصريحات اللواء “أحمد المسماري” المتحدث باسم الجيش الوطني عن “الاستعداد لوقف إطلاق النار في طرابلس بشرط خروج القوات التركية من ليبيا” هو مؤشر على أن خطر الفيروس وإجراءات مواجهته تمس سير القتال، وأن كل طرف يحرص على ألا يكون “كورونا” حليفًا للطرف الآخر ضده.
إعادة ترسيخ قواعد سيطرة الدولة السورية
بتطبيق الاتفاق الأمني الجديد بين روسيا وتركيا في أعقاب تقدمات الجيش السوري بمناطق الشمال الغربي، نجحت دمشق في السيطرة على الطرق الرابطة بين محافظات الشمال والغرب، وبذلك تقدمت مرحليًا وحسنت من وضعها الميداني في مواجهة التنظيمات المسلحة والإرهابية المدعومة من أنقرة. ويأتي فيروس “كورونا” كمدخل جديد لتأكيد دور الحكومة والنظام السوري في إدارة وتنسيق هيكل سلطاتها بالمحافظات السورية؛ وخصوصًا مع تراجع قدرات الفواعل الداخليين في مواجهة تلك الأوبئة الخطيرة، ورغبة موسكو في دعم النظام السوري بما يخدم نفاذيته وإحكام سيطرته على المناطق السورية المنكوبة من القتال الدائر منذ 2011.
وعلى صعيد العمليات العسكرية، فإن الدوريات الروسية التركية يتم تسييرها بشكل مستمر، ولكن تتوالى عمليات إطلاق القذائف ضد الجيش، وعمليات استهداف مناطق سيطرته بالمفخخات، وهو ما أكدته الخارجية الروسية أن الإرهابيين في إدلب أعادوا تسلحهم، ويقومون بشن هجمات ضد الجيش السوري، ومما سبق فإن “كورونا” في سوريا يُمكّن النظام من إعادة تنظيم إدارته للشأن الداخلي، وترسيخ قواعد سيطرته في إدلب، ولكن تسعى التنظيمات الإرهابية إلى إعادة التمدد في ذات التوقيت لتوظيف أوضاع مواجهة الفيروس الاستثنائية لصالحها، لاسيما بعد ما مُنيت به من تراجعات أمام تقدمات الجيش مؤخرًا.
خطر “كورونا” يعزز احتمالات تعقُد الأزمة اليمنية
تتزايد احتمالات تفاقم الوضع الإنساني باليمن مع دخول احتمالات انتقال فيروس “كورونا” كعامل مُعقد للأزمة؛ إذ يعاني قُرابة 22مليون -من أصل 30مليون يمني- من عدم توافر الغذاء والرعاية الصحية والمستلزمات الطبية، كما تتزايد معدلات انتشار الأوبئة المتوطنة كالكوليرا وإنفلوانزا الخنازير، ولذلك فإن الحالة الإنسانية باليمن متدهورة بالفعل، ولا تحتمل دخول تهديد صحي جديد على خط الأزمة. ومع ارتفاع درجة تهديد “كورونا” حول العالم، اتجهت الأطراف المتحاربة الى تبني إجراءات احترازية لتأمين مناطق سيطرتها من انتشاره فيها، فنرى قرارات بتعليق الرحلات الجوية وإغلاق المنافذ البرية، كذا تعزيز إجراءات الرقابة في الموانئ البحرية، وتعليق الدراسة في المؤسسات التعليمية والخاصة، وتخصيص موازنات طارئة لمواجهة الفيروس. ولكن استمرار الأعمال العسكرية والغارات وحرب الألغام يؤكد أن اليمن ماضٍ في مسار التأزيم وإنهاك المجتمع الداخلي بشكل متزايد، وهو ما لايدع مجالًا للشك في أنه رغم محاولات المجتمع الدولي والإقليمي لدعم اليمن لمواجهة “كورونا”، فإن حالة السيولة الأمنية والسياسية والأنشطة المليشياوية تعزز من احتمالات هشاشة أية برامج لمواجهة الفيروس، وتصعد من احتمالات أن يقع اليمن فريسةً لـ “كورونا” إذا ما انتقل اليها.
والخلاصة، إن فيروس “كورونا” كان شديد التأثير على العديد من قضايا وأزمات الشرق الأوسط، ورغم كون إيران بؤرة إقليمية لإنتشاره، وكونها الثالثة عالميًا من حيث الإصابة به، إلا أن الدول التي تعاني هشاشة الأوضاع الأمنية والسياسية وتعقد الصراعات كسوريا وليبيا واليمن لم تسجل أي حالات إصابة مؤكدة بالفيروس. وتظل فرص انتقال “كورونا” إلى الدول الأخيرة قائمة لعدة اعتبارات، ولكن المؤكد أن تأثيرات انتشار الفيروس دوليًا على هذه الدول لايمكن مقارنتها بتلك التأثيرات التي ستنجم عن دخولها نادي الدول المصابة به، وهو ما يتطلب إعادة توجيه برامج إغاثية ووقائية لتلك الدول؛ كي لا تصبح مستقبلًا بؤرًا للإصابة ونشر الفيروس إقليميًا، وهي بحالتها الراهنة بيئة خصبة لانتشاره بل وتطوره الى نسخة جديدة أشد فتكًا.