تعددت تعريفات الأمن على مدار مراحل زمنية وحقب معرفية متباينة، واقتصر لدى البعض على أمن حدود الدولة، وامتد لدى البعض الآخر من أمن الإنسان الفرد إلى أمن العالم كله. ورغم هذا التنوع يظل التعريف الأعمق والأدق هو ما قدمه القرآن الكريم في سورة قريش، الآية الرابعة، “الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ”﴿٤﴾، فالأمن هو عدم الخوف، وهذا التعريف الواسع هو الأبسط للفهم ويشمل كافة المستويات.
بهذا المعنى، فإن الشعور بالخوف هو التعبير عن وجود تهديد أمني، وقد اعتاد العالم على تهديدات أمنية متكررة، كالحروب الشاملة أو المحدودة أو الأهلية، والصراعات المسلحة وصراعات المصالح والنفوذ بين الدول، وربما الأزمات النووية، وكلها تهديدات ألفتها الدول وتمسّ دولًا بعينها وأقاليم جغرافية واضحة الملامح. لكنّ هذه التهديدات الأمنية لم تعد هي الأكثر خطورة، فربما اعتيادها لم يجعلها مصدر الخوف الأكبر بين الدول والمجتمعات، وإنما ظهر في عالمنا الراهن تهديدات أمنية غير تلك التي نعهدها، تهديدات غير تقليدية، لكنها تسبب الشعور بالخوف، تجتاح الحدود السياسية للدول، وتثير الاضطراب، تهديدات يصعب السيطرة عليها، والدفاع الأساسي هنا هو الحد من مخاطرها، مثل: انتشار ظاهرة التصحر وما تسببه من أزمة في الغذاء، أو الاحتباس الحراري وما يسببه من تغيرات مناخية بتداعيات سلبية على حياة البشر، أو التلوث البيئي، أو انتشار الأوبئة والأمراض وتهديد الأمن الصحي، وهذا ما يفعله فيروس COVID-19، أو ما يعرف بفيروس “كورونا” المستجد.
كوفيد-19 تهديد أمني
قدّم البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة تعريفًا للأمن، من خلال تقرير التنمية البشرية لعام 1994 في إطار مفهوم الأمن الإنساني، حيث قدم محاولة لتفسير ظواهر جديدة من التهديد الأمني، حدد أبرز خصائصها في أنها: ذات صبغة عالمية لا تقتصر على دولة ما، ومتداخلة بحيث يمكن أن يفضي أحد التهديدات إلى تهديد آخر، أو يزيد من تداعياته السلبية، ولا يمكن التعامل معها بشكل جذري، وفقًا لمفهوم الأمن التقليدي. وحدّد التقرير سبعة أنماط من الأمن وفقًا لنوع التهديدات، هي: الأمن الاقتصادي، الأمن الغذائي، الأمن الصحي، الأمن البيئي، الأمن الشخصي، الأمن المجتمعي، الأمن السياسي.
تم اكتشاف الفيروس لأول مرة في نوفمبر 2019 في مدينة ووهان الصينية، ومنذ ذلك الحين وهو يجسد تهديدًا لكافة أنماط الأمن التي عرفتها الأمم المتحدة، ويتضح ذلك فيما يلي:
1- تهديد الأمن الاقتصادي
حذّرت منظمة العمل الدولية من أنّ الأزمة الاقتصادية والعمالية التي تسبّب بها انتشار فيروس كورونا ستكون لها “تأثيرات بعيدة المدى على سوق العمل. وأعلنت الأمم المتحدة أنّ كوفيد-19 سيؤدّي إلى زيادة البطالة بشكل كبير في أنحاء العالم، وسيترك 25 مليون شخص دون وظائف، وسيؤدّي إلى انخفاض دخل العاملين. كما خسرت الأسواق المالية ما يقرب من 6 تريليونات دولار أمريكي منذ الإعلان عن انتشار فيروس كوفيد-19، وهذا يعني أن الجميع يخسر، فمع توقف النظام اليومي للعمل، ومواجهة خطر يهدد الصحة العامة، تراجعت أولويات البشر، وانعكس هذا على الاقتصاد بصورة واضحة، فقد خفضت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مؤخرًا توقعاتها للنمو خلال عام 2020 إلى النصف، من 2.9% إلى 1.5%. كما ارتفع مؤشر الخوف في الأسواق VIX بنسبة 231% مقارنة بعام 2018، مسببًا خسائر اقتصادية كبيرة، فالولايات المتحدة الأمريكية –على سبيل المثال- ووفقًا لأحد التقارير الاقتصادية التي نشرت بمجلة “ناشيونال إنترست” الأمريكية، قد تواجه عاصفة اقتصادية محتملة، يمكن أن تدفع البلاد إلى حالة من الركود، كلما ظهرت انعكاسات تفشي فيروس كورونا. فقد توقّع باحثون من الجامعة الوطنية الأسترالية خطرًا محدقًا بالولايات المتحدة في دراسة صدرت حديثًا تطرقت إلى التكلفة المحتملة من الناحيتين البشرية والمالية. مؤلفو هذه الدراسة أوضحوا أن التكلفة المتوقعة للمال المهدَر يمكن أن تصل إلى 1.7 تريليون دولار عام 2020، بسبب تفشي فيروس كورونا، ويزيد من حدة هذه الخسائر التهديدات الرئيسية الأخرى التي تواجهها، من بينها الخسائر التي تكبدتها الأسهم الأمريكية، بجانب تضرر إنتاج النفط الصخري الأمريكي نتيجة الانخفاض الكبير في أسعار النفط، بسبب التجاذب الروسي والسعودي حول إنتاج النفط وتخفيض سعره، وهذا الأمر قد يزيد من فرص الركود المتوقع في الولايات المتحدة. هذا الوضع المحتمل يرفع من مستوى الإنفاق على الديون، علمًا بأن الدين العام الأمريكي في الوقت الراهن بلغ 23 تريليون دولار، أي حوالي 107% نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي.
ليست الولايات المتحدة وحدها المهددة اقتصاديًّا من انتشار فيروس كيوفيد-19، الصين أيضًا كانت من أكبر المتضررين، حيث تشير التقديرات إلى أن قيمة الخسائر التي تكبدها الاقتصاد الصيني خلال الربع الأول من عام 2020 تبلغ حوالي 143 مليار دولار، وهو ما يعادل تريليون يوان صيني تقريبًا، وذلك على خلفية تواصل تفشي فيروس كورونا، بالإضافة إلى اضطرارها لوقف شحنات تجارية من منتجاتها المختلفة بسبب الفيروس. وتتضح ضخامة حجم الخسائر الاقتصادية من ضخامة الاقتصاد الصيني ذاته، وهو ما يعادل 16% من حجم الاقتصاد العالمي وحوالي 33.4% من حجم النمو الاقتصادي العالمي، وهو ما يجعله من أكثر الاقتصادات ارتباطًا باقتصادات الدول الأخرى، ومن ثم تتأثر هي الأخرى بالخسائر الصينية.
أما على المستوى العربي، فقد حذرت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا “الإسكوا” من أن فيروس كورونا المستجد يمكن أن يتسبّب بخسارة أكثر من 1.7 مليون وظيفة في العالم العربي، مع ارتفاع معدّل البطالة بمقدار 1.2%. وتوقّعت اللجنة أن يتراجع الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية بما لا يقل عن 42 مليار دولار هذا العام على خلفية تراجع أسعار النفط وتداعيات تفشي فيروس كورونا المستجد.
ومن المتوقع أن يستمر تهديد الأمن الاقتصادي، سواء داخليًّا أو عالميًّا، إلى ما بعد انتهاء الأزمة، فلن يكون من السهل إعادة تشغيل اقتصاد عالمي حديث مترابط بعد انتهاء التهديد الصحي الأولي، وسيبدأ التعافي عندما يستطيع مسئولو الصحة أن يؤكدوا للناس أنه تم احتواء الفيروس التاجي الجديد وأن الحصانة من المرض الذي يسببه قد زادت، ولكن لن يكون التعافي فوريًّا، فسيستغرق استعادة مستويات التوظيف والجرد وسلاسل التوريد العادية للشركات وقتًا بعد أسابيع أو شهور من عدم النشاط، وكذلك تنفيذ ومواءمة السياسات الحكومية المصممة لجعل الاقتصاد العالمي يندفع مرة أخرى
2- تهديد الأمن الشخصي والصحي
عبر مدير منظمة الصحة العالمية “تيدروس أدهانوم غيبريسوس” عن مخاوفه حيال عدد الإصابات بفيروس كورونا، وقال إن فرص احتواء الفيروس “تتضاءل”. وفي 11 مارس 2020، قال “غيبريسوس”: “يمكن تصنيف مرض كوفيد 19 الآن على أنه جائحة.. لم يسبق مطلقًا أن شهدنا انتشار جائحة بسبب فيروس كورونا”، والإعلان عن الجائحة لا علاقة له بالتغييرات التي تطرأ على خصائص المرض، ولكنه يرتبط بدلًا من ذلك بالقلق من انتشاره جغرافيًّا. كما صرح الدكتور “ريتشارد هاتشيت”، الرئيس التنفيذي للتحالف من أجل ابتكارات الاستعدادات الوبائية، الذي تم تعيينه من قبل الحكومة البريطانية للمساعدة في تطوير لقاح؛ بأنه “عمل في جهاز الاستعدادات الوبائية لمدة عشرين عامًا.. وهذا هو أكثر مرض مرعب واجهته في حياتي المهنية”. ولم تحمل مثل هذه التحذيرات المتخصصة مخاوف مبالغة، لكنها عكست عمق الشعور بالخوف الذي سببه الفيروس في العالم. فقد أودى فيروس كورونا المستجد -حتى كتابة هذه السطور- بحياة حوالي 12965 شخصًا في العالم، وفقًا للإحصائيات الرسمية المعلنة يوم 21 مارس 2020، غالبيتها في أوروبا (7199)، ثم في آسيا (3459).
إن التحذيرات المستمرة من السفر أو التجمعات البشرية للحد من انتقال المرض، وإعلان الحجر الصحي الجزئي أو الكلي في كل الدول التي تواجد فيها الفيروس، تعكس أن الإنسان ليس آمنًا من الفيروس، كما أن تشابه أعراضه مع أمراض أخرى تزيد من حالات الارتباك والهلع السائدة، وهذا يعني تهديد الأمن الشخصي. ومع ازدياد الانتشار قد يخرج الأمر عن السيطرة كما يحدث في إيطاليا، الأمر الذي يعني تهديدًا محتملًا للصحة العامة في مثل هذه المنطقة والمناطق المحيطة بها.
3- تهديد الأمن المجتمعي
فيروس كوفيد-19 يمثل تهديدًا محتملًا للأمن المجتمعي، ليس في الدول التي تفشى فيها فحسب، بل في نطاق أوسع من المجتمعات. فقد مثل تحديًا لقيم العولمة الدافعة إلى مزيد من الترابط والتداخل بين المجتمعات في العالم، ويرى البعض أنه إذا استمرت الأزمة، فقد تنهار العولمة. وكلما طال أمد الأزمة وطالت العقبات أمام التدفق الحر للأشخاص والسلع ورأس المال، كلما أصبحت الحالة أكثر طبيعية، وستتشكل مصالح خاصة لدعمه. وقد يؤدي الخوف المستمر من وباء آخر إلى تحفيز الدعوات لتحقيق الاكتفاء الذاتي الوطني، والحد من الاعتماد المتبادل بين الدول. فلن يكون الدافع وراء الانتقال إلى الاقتصاد الطبيعي هو الضغوط الاقتصادية العادية، ولكن بسبب مخاوف أكثر جوهرية، وهي الأمراض الوبائية والخوف من الموت.
من ناحية أخرى، فإن التباطؤ في النشاط الاقتصادي بسبب الخوف من فيروس كورونا المستجد يؤدي إلى تسريح العمال والركود. وبدون وظائف ودخل ثابت، سيجد الأفراد والعائلات صعوبة في دفع الخصومات المطلوبة، ومختلف الالتزامات المالية، وهذا قد يمثل أزمة اقتصادية اجتماعية بعد احتواء الفيروس قريبًا أو لاحقًا، وهذا يعني أنه من المحتمل مع زيادة البطالة أن تظهر احتجاجات شعبية على الأوضاع الاقتصادية، مع تحميل الحكومات المسئولية عنها، فقد لا تكون التدابير الاقتصادية التي تتخذها الدول حاليًّا -من تخفيض الفوائد على القروض، أو تسهيلات السداد، أو تخفيض أسعار المنتجات– كافية لحماية الأشخاص الذين يفقدون وظائفهم وليس لديهم ما يتراجعون عنه والذين يفتقرون في كثير من الأحيان إلى التأمين الصحي، عندما يصبح هؤلاء الناس غير قادرين على دفع فواتيرهم، فإنهم سيخلقون مشكلات اجتماعية مهدِّدة للأمن المجتمعي.
وتُشير إحدى الدراسات الأمريكية إلى أن أولئك الذين تُركوا بلا أمل أو عاطلين عن العمل وبدون أصول يمكنهم بسهولة الانقلاب على أولئك الذين هم في وضع أفضل، فحوالي 30% من الأمريكيين لديهم ثروة صفرية أو سلبية، فإذا خرج المزيد من الناس من الأزمة الحالية بدون مال ولا وظائف ولا الحصول على الرعاية الصحية، وإذا أصبح هؤلاء الناس يائسين وغاضبين، فإن مشاهد مثل الهروب الأخير للسجناء في إيطاليا أو النهب الذي أعقب إعصار كاترينا في نيو أورليانز في عام 2005 قد تصبح شائعة. إذا اضطرت الحكومات إلى استخدام القوات شبه العسكرية أو العسكرية لقمع أعمال الشغب أو الهجمات على الممتلكات، فقد تبدأ المجتمعات في التفكك.
قد تبدو هذه الصورة شديدة التشاؤم، لكنها ليست مستبعدة خاصة مع اختلاف مستويات الوعي والتجاوب المجتمعي مع الإجراءات المتبعة في مواجهة الفيروس.
4- تهديد الأمن السياسي
يكمن تهديد الأمن السياسي بفعل فيروس كوفيد-19 في أمرين، الأول: تقييم سياسات الدول وقدرة الحكومات على استيعاب الموقف واحتواء تداعيات انتشار الفيروس داخليًّا من ناحية، وقدرتها على التنسيق والتعاون مع الجهود الخارجية إقليميًّا أو دوليًّا لنفس الغرض. هذا التقييم قد يأتي إيجابيًّا فيزيد من ثقة الشعب في حكومته، وقد يظهر ضعف الأداء فيحد من شعبيتها. على سبيل المثال، هناك اتهامات للحكومة الإيطالية بأن ضعف أدائها تسبب في خروج الأمر عن السيطرة، وتحولها للدولة صاحبة أعلى وفيات ضحايا لكورونا المستجد. الأمر الثاني: تهديد مكانة الدول، وربما التأثير في التوازنات الدولية إقليميًّا أو دوليًّا. فبينما تظهر الولايات المتحدة تسييسًا كبيرًا في هذه الأزمة، يقيم المتخصصون أخطاء المؤسسات الرئيسية، من البيت الأبيض ووزارة الأمن الداخلي إلى مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها، بأنها قوضت الثقة في قدرة وكفاءة الحوكمة الأمريكية؛ فالبيانات العامة التي أدلى بها الرئيس “دونالد ترامب”، سواء كانت عناوين المكتب البيضاوي أو تغريدات الصباح الباكر، عملت -إلى حد كبير- على بث الارتباك ونشر الشكوك، وثبت أنها غير مستعدة لإنتاج وتوزيع الأدوات اللازمة للاختبار والاستجابة.
على الصعيد الدولي، أدت الأزمة إلى إظهار الأنانية الأمريكية، ومحاولتها استثمار الأزمة لمزيد من الهيمنة، فقد كشفت أن واشنطن غير مستعدة لقيادة استجابة عالمية. وفي الوقت الذي تتعثر فيه واشنطن، تتحرك بكين بسرعة وكفاءة لاستيعاب الخسائر الناتجة عن الفيروس، بل وللاستفادة من الانفتاح الذي خلقته الأخطاء الأمريكية، مما يملأ الفراغ لوضع نفسها كقوة عالمية في الاستجابة للوباء، فهي تعمل على الترويج لنظامها السياسي الخاص الذي أمكنه فرض الالتزام بالإجراءات المشددة التي فرضت، وتقديم المساعدة المادية للدول الأخرى، وحتى تنظيم الحكومات الأخرى. ومثل هذه المقارنة قد تُغيّر بشكل أساسي من موقف الولايات المتحدة في السياسة العالمية ومسابقة القيادة في القرن الحادي والعشرين، خاصة مع جهود الصين لتحويل إنجازها في التعافي السريع من الفيروس إلى سبق يعكس قدرتها على قيادة انتعاش عالمي قادم، وربما تصحيح مسار القيادة العالمية. وأعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية “تشاو ليجيان” أن “قوة الصين وكفاءتها وسرعتها في هذه المعركة حظيت بتقدير واسع النطاق”. وأضاف أن الصين وضعت “معيارًا جديدًا للجهود العالمية لمكافحة الوباء”.
تدرك الصين أن توفير السلع العالمية يمكن أن يصقل أوراق اعتماد قيادة القوة الصاعدة، بينما لم تستجب أي دولة أوروبية لنداء إيطاليا العاجل بشأن المعدات الطبية ومعدات الحماية. التزمت الصين علنًا بإرسال 1000 جهاز تنفس، ومليوني قناع، و100000 قناع مرشح هوائي، و20000 بدلة واقية، و50000 مجموعة اختبار. كما أرسلت الصين فرقًا طبية و250 ألف قناع لإيران، وأرسلت إمدادات إلى صربيا التي وصف رئيسها التضامن الأوروبي بأنه “حكاية خرافية”، وأعلن أن “الدولة الوحيدة التي يمكنها مساعدتنا هي الصين”. وفي المقابل، تفتقر الولايات المتحدة إلى العرض والقدرة على تلبية العديد من مطالبها، ناهيك عن تقديم المساعدة في مناطق الأزمات في أماكن أخرى.
إن أزمة فيروس كورونا المستجد تسببت في بعض الإجراءات التي قد تكون لها تداعيات سياسية لاحقة، فبالإضافة إلى تغذية حالة التنافس بين الولايات المتحدة والصين على قيادة النظام العالمي كما سبقت الإشارة، فقد اتخذت الولايات المتحدة إجراءات سياسية قد تتحمل عواقبها لاحقًا؛ حيث حظرت جميع رحلات السفر من الاتحاد الأوروبي دون إعطاء الاتحاد الأوروبي إشعارًا مسبقًا، ناهيك عن التشاور مع الاتحاد الأوروبي حول هذا الإجراء الجذري. فإلى أي مدى يمكن أن تثق الدول الأوروبية بالولايات المتحدة مستقبلًا؟ خاصةً مع تقديم الولايات المتحدة عرضًا بقيمة مليار دولار إلى شركة أدوية ألمانية لشراء حقوق احتكار لقاح جديد للفيروس. كما أعلنت القيادة الوسطى في القوات الأمريكية تجميد انتقال جميع القوات إلى منطقة عملياتها في الشرق الأوسط جراء انتشار وباء كورونا، وأوضحت القيادة الوسطى -في بيان- أن أي قوات ستنتقل إلى الشرق الأوسط ينبغي أن تخضع أولًا للحجر الصحي في أماكن تمركزها لمدة أسبوعين قبل سفرها. وأغلب الظن أنه ستكون هناك تداعيات لهذه القرارات لغير صالح الولايات المتحدة، الأمر الذي يُثير التساؤل حول كيفية تعامل الإدارة الأمريكية الحالية أو القادمة مع هذه التداعيات.
الدفاع في مواجهة كوفيد-19: فردي أم جماعي؟
إن فيروس كورونا المستجد تهديد أمني غير تقليدي يهدد عدة جوانب من حياتنا، ورغم أن التهديد العسكري هو الغائب عن هذه القائمة من التهديدات؛ فإن هناك دورًا أساسيًّا للمؤسسات العسكرية في كافة الدول التي تُعاني من الفيروس في الدفاع ضده، في ضوء دور المؤسسات العسكرية لمواجهة الكوارث الطبيعية، من جهود طبية لتأمين التحركات، وفرض النظام، وجهود التعقيم المختلفة في محاولة لتحجيم فرص انتشار الفيروس.
لكن ربما يكون الدفاع الطبي العلاجي والوقائي المباشر من الفيروس الذي تتبعه الدول المختلفة جهدًا أساسيًّا في استراتيجية مواجهة كورونا، غير أنه مهما زاد سيظل قاصرًا؛ لأن الدفاع يجب أن يكون جماعيًّا، فكما أن التهديد جماعي على المستوى العالمي، فإن الدفاع والمواجهة أيضًا يجب أن تكون جماعية عالمية.
من الثوابت في العلاقات الدولية أن كل أزمة هي فرصة أيضًا، فكما ساهمت الحروب في إيجاد قواعد القانون الدولي لتنظيم العلاقات بين الدول، وكما أدت أزمة الصواريخ الكوبية في الانفراج الدولي بين القوتين العظميين أثناء الحرب الباردة؛ يجب أن نأمل أن يُساعد الوباء الحالي البشرية في إدراك أن هناك تهديدات أمنية تتجاوز الصراع والتنافس بين الدول، وربما يوفر الفيروس الفرصة لاختبار التطور الحضاري للبشرية، وتحديد الاختيار بين العمل الفردي القاصر أو التعاون العالمي لمواجهة الأخطار والتهديدات. فالعمل الفردي بين الدول سيؤدي لإطالة أمد الأزمة، وربما يؤدي إلى كوارث أسوأ في المستقبل.
ينبغي على الحكومات أن تُنسق داخليًّا على حد سواء لتمكين استجابات “الحكومة بأكملها”، وخارجيًّا على المستويين الإقليمي والعالمي. ويجب -في هذا السياق- تعميق التنسيق أيضًا بين الحكومة والبنك المركزي والقطاعين العام والخاص. كما يمكن زيادة تأثير هذه الشراكات، خاصة على الأسواق المالية، وتسريعها من خلال التواصل الواضح والشفاف والمتسق.
البداية يجب أن تكون بمشاركة المعلومات عالميًّا، وهذا يتطلب الثقة والكفّ عن تسييس الأزمة. يجب أن تكون البلدان على استعداد لتبادل المعلومات بشكل مفتوح وبتواضع للحصول على المشورة. كذلك، فإن جهدًا عالميًا لإنتاج وتوزيع المعدات الطبية مطلوب بشكل أساسي في ظل جهود الدفاع ضد الفيروس، بدلًا من محاولة كل دولة القيام بذلك محليًّا، وتكديس أي معدات يمكنها الحصول عليها. يمكن لجهد عالمي منسق أن يُسرع الإنتاج إلى حد كبير، ويضمن توزيع المعدات المنقذة للحياة بشكل أكثر عدالة.
وقد قامت الصين بحملة دبلوماسية قوية مع عشرات الدول ومئات المسئولين عبر الفيديو لتبادل المعلومات حول الوباء، والدروس المستفادة من تجربة الصين الخاصة في مكافحة المرض. مثل الكثير من دبلوماسية الصين، تتم جهود الدعوة إلى حد كبير على المستوى الإقليمي أو من خلال الهيئات الإقليمية. إن هذه الجهود الصينية قد تكون في أحد أبعادها دفاعًا عن اتهامها بأنها المسئولة عن انتشار الفيروس بعد أن تكتمت الأمر في الأسابيع الأولى، وقد تكون استثمارًا للتنافس بينها وبين الولايات المتحدة خاصة مع الموقف الضعيف للأخيرة. لكن بغض النظر عن الدوافع الصينية من هذه الجهود، لكنها تصلح لأن تكون نواة لبداية اتجاه للعمل الجماعي بين الدول لإنقاذ المجتمعات وحماية البشرية أكثر من حماية نفسها. فيمكن للولايات المتحدة تدارك ما فات إذا ما وظّفت قدراتها التكنولوجية والعلمية الضخمة لإيجاد حل حقيقي للأزمة، والتعاون الفعال مع الصين أو غيرها من الدول، فتجاوز الخلافات الثنائية بين الدول هو الخطوة الأولى لتعزيز الجهود الجماعية للدفاع ضد فيروس كوفيد-19.
هناك حاجة حيوية للتعاون العالمي على الصعيد الاقتصادي أيضًا. بالنظر إلى الطبيعة العالمية للاقتصاد وسلاسل التوريد، إذا قامت كل حكومة بعملها الخاص في تجاهل تام للحكومات الأخرى، فستكون النتيجة فوضى وأزمة عميقة. ومن ناحية أخرى، يصعب تخيل وقف الانتقالات بشكل كامل بين الدول، وربما الاتفاق حول قواعد صارمة ومحددة لضبط حركة الانتقالات يكون لازمًا خاصة إذا طال أمد الأزمة.
مجمل القول، إنها معادلة صفرية، وهو ما يعني ضرورة انتصار أحد الطرفين؛ إما أن تنتصر الإنسانية والبشرية وترتقي للتعاون معًا والثقة للعمل معًا وتقديم العلاج لجميع المُضارين، ليس في عالم الشمال على حساب عالم الجنوب، العلاج بغض النظر عن لون أصفر أو أسود أو أبيض؛ أو في المقابل تغليب المصالح الجزئية والفردية لتحتكر دولة أو دول محددة العلاج، وتوظفه لصالح تحقيق مكاسب اقتصادية أو سياسية، ومثل هذا الاحتمال يعني فوز الكورونا المستجد وهزيمة البشرية. إنها معادلة يجب أن تكون صفرية.