يبدو أن فيروس كورونا يصبح عاملاً استراتيجياً رئيسياً في التخطيط العسكري وتخطيط السياسات طويلة المدى في الشرق الأوسط. وقد يمثل فاتحة سلسلة من الاتفاقات المؤقتة أو حتى النهائية التي من شأنها أن تحل محل القتال المباشر، بسبب الحاجة لتقليص النشاط العسكري من جانب الجيوش النظامية والجماعات المسلحة على حدٍّ سواء.
مع استمرار تفشي فيروس كورونا، يشغل السؤال الآن حول الكيفية التي يمكن أن تعمل بها القوات المقاتلة في بالشرق الأوسط، أذهان دول عدة، منها تركيا وروسيا وسوريا والسعودية وليبيا، وكلها لديها عمليات عسكرية نشطة في جبهاتٍ عدة.
أمريكا في العراق وأفغانستان
في العراق تمكَّن فيروس كورونا من فعل ما لم تستطعه السياسة. فبعدما قرَّر البرلمان العراقي مطالبة الولايات المتحدة بسحب قواتها من العراق، ورفض الأمريكيون هذا المطلب، قررت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) هذا الأسبوع تقليص عدد القوات الأمريكية في البلاد بُغية تقليص خطر العدوى.
وذكر الإعلان الصادر عن قيادة القوات الأمريكية في العراق أنه سيجري إغلاق عددٍ من القواعد الأمريكية في البلاد، وخفض عدد القوات التي تقوم بمهام تدريبية للقوات العراقية، ووقف كافة التدريبات مع الجيش العراقي.
وقالت قيادة القوات الأمريكية “إن الولايات المتحدة إذ تواصل الالتزام بالدفاع عن العراق من هجمات داعش، فإننا سنقوم بذلك باستخدام عدد أقل من القوات والقواعد”.
وصدر بيانٌ مماثل في وقتٍ أسبق عن قوات التحالف العامِلة في أفغانستان يتعلَّق بقرار عدم إرسال أية قوات جديدة إلى تلك المنطقة بعدما وُجِدَت أعراض العدوى بالفيروس على 21 جندياً، ووُضِع 1500 من الجنود والمتعاقدين المدنيين الذين وصلوا إلى أفغانستان هذا الشهر مارس/آذار في حجرٍ صحي بعدما أظهروا أعراضاً مماثلة. ومن الناحية العملية، يعني هذا أن الجنود العاملين في أفغانستان لن يمكنهم العودة إلى بلادهم في المدى القريب، وأن بقاءهم في أفغانستان قد يُمدَّد لشهرين على الأقل.
المشكلة هي أن أفغانستان لا يوجد بها مختبرات يمكنها التحقق من وجود المرض، لذا تُرسَل كافة العينات جواً إلى المختبرات العسكرية في ألمانيا، في حين يُطلَب ممَن يخضعون لاختبارات الفيروس البقاء في العزل حتى الحصول على نتائج الاختبار، وتمتلئ الأسِرَّة الموجودة في منشآت العزل بسرعة.
كانت الولايات المتحدة قد تعهَّدت في الاتفاق الذي وُقِّع في فبراير/شباط الماضي مع حركة طالبان بتقليص عدد قواتها في البلاد إلى 8600 والإبقاء على هذا المستوى لمدة 135 يوماً، بدءاً من التاسع من مارس/آذار. وعلى الرغم من الإعلان الصادر عن الإدارة الأمريكية بأنها لا تزال عازمة على الالتزام بشروط الاتفاق، ليس واضحاً الآن كيف يمكن تحقيق ذلك في الوقت الذي لا يمكن فيه إعادة عدد كبير من القوات إلى بلادهم، لفترة قد تمتد أشهراً.
الجيوش والجماعات المسلحة في سوريا
في شمال سوريا، كانت تركيا وروسيا قد بدأت بتسيير دوريات مشتركة في منطقة إدلب كجزءٍ من الاتفاق الذي جرى التوصل إليه في لقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وتفيد التقارير بأن القتال بين القوات التركية والقوات الموالية للأسد، وهو القتال الذي هدّد بالتوسع والتحول إلى صدامٍ شامل بين الجيشين، قد توقّف بصورة كاملة تقريباً، باستثناء بعض الكمائن المتبادلة بين المعارضة والنظام على الطريق الرئيسي السريع. ويتمثل مبعث القلق الرئيسي الآن في حدوث تفشٍّ للمرض في المحافظة المحاصرة التي يقطنها ثلاثة ملايين شخص، وفي مدينة إدلب نفسها، التي يقطنها مليون نسمة.
وبالفعل أرسلت تركيا 300 مجموعة اختبار، لكنَّ هذا ليس كافياً بالمرة في ظل وجود حاجة لآلاف الاختبارات والعناصر البشرية ذات المهارة من أجل إجراء الاختبارات وتحديد المصابين بالعدوى.
وفي مناطق سيطرة النظام السوري قرب إدلب، بدأت جهود تعقيم وتطهير الأبنية العامة، لكن من المستحيل عملياً تطبيق إجراءات الحجر الصحي والإغلاق التي فرضتها السلطات على المنطقة؛ لأنَّ جزءاً كبيراً من الناس هناك هم لاجئون ومُشرّدون بفعل الحرب يعيشون في ملاجئ مؤقتة وأحياء عالية الكثافة السكانية، يفتقر الكثير منها لوجود أي مصدر للمياه الجارية المطلوبة لغسل البدن. ناهيك عن عدم وجود عيادات أو منشآت طبية أخرى يمكن للمصابين بالعدوى الحصول على العلاج الملائم بها.
لم يُعثَر على حالات مصابة بعدوى فيروس كورونا في المحافظات الخاضعة لسيطرة الميليشيات الكردية شمال شرقي سوريا، لكن الخوف يكمن في أنَّ الفيروس سيظهر هناك نتيجة لوجود القوات الإيرانية في دير الزور. وكإجراءٍ وقائي، فرضت وحدات حماية الشعب الكردية حظر تجوال على معظم المحافظات، لكن يوجد افتقار هناك أيضاً لوسائل تحديد وتعيين الأشخاص الذين ربما يكونون مصابين بالعدوى وإيداعهم المستشفى إن كانوا مصابين بالفعل.
إن معضلة استمرارية القتال في ظل تهديد فيروس كورونا محل تركيز كذلك من قبل أنقرة، القلقة من أن الفيروس قد يصيب القوات التركية والمجموعات العاملة تحت رعايتها والمنتشرة في سوريا والمناطق الغربية من المحافظات الكردية وكذلك في محافظة إدلب.
في النهاية، يبدو أن فيروس كورونا يصبح عاملاً استراتيجياً رئيسياً في التخطيط العسكري وتخطيط السياسات طويلة المدى في الشرق الأوسط. وقد يمثل فاتحة سلسلة من الاتفاقات المؤقتة أو حتى النهائية التي من شأنها أن تحل محل القتال المباشر، بسبب الحاجة لتقليص النشاط العسكري من جانب الجيوش النظامية والميليشيات على حدٍّ سواء.