“ترامب وعد بجعل أمريكا أولاً وقد أوفى بوعده!”.. تغريدة لهيلاري كلينتون تكشف أحد أسباب تفشي وباء كورونا بالولايات المتحدة كالنار في الهشيم، لكن الرئيس دونالد ترامب نفسه يعد المتهم الرئيسي يليه النظام السياسي الفيدرالي في الدولة الأقوى عالمياً، فما القصة؟
إلى أين وصل تفشي الوباء؟
ارتفع عدد الإصابات بفيروس كوفيد-19 أو كورونا المستجد في الولايات المتحدة الأمريكية، صباح الأحد 29 مارس/آذار، إلى نحو 124 ألفاً، وتجاوزت الوفيات 2200 حالة، بعد أن سجلت أكثر من 450 حالة وفاة في آخر 24 ساعة، وهو ما جعل الولايات المتحدة تحتل المرتبة الأولى في العالم من حيث عدد الإصابات بالوباء.
كانت الولايات المتحدة قد رصدت ظهور أول حالة إصابة على أراضيها يوم 20 يناير/كانون الثاني الماضي، وهو ما يعني أن الدولة التي تقود العالم اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجيّاً كانت تمتلك متسعاً من الوقت للاستعداد للفيروس واتخاذ إجراءات لاحتوائه في وقت مبكر، وهو أمر لم يحدث، فما هي الأسباب؟
ترامب المتهم الأول
هناك ما يشبه الإجماع بين المحللين والخبراء في مجال الصحة العامة على أن الرئيس الأمريكي هو المتهم الأول أو السبب الرئيسي في تفشي الوباء بالولايات المتحدة، بسبب تقليله من خطورة الفيروس وتأخره في اتخاذ الإجراءات الضرورية، خلافاً لآراء مسؤولي الصحة العامة في البلاد وحول العالم.
ففي بداية أزمة انتشار الوباء، أصر ترامب على أن انتشار الفيروس محلياً ليس أمراً “محتوماً”، بل توقَّع -لا أحد يعرف على أي أساس- أن الوباء سيتلاشى تماماً بحلول شهر أبريل/نيسان، وهو ما ثبت عدم صحته بالطبع.
وحتى مع توالي ظهور الإصابات بشكل متسارع في الولايات المتحدة وتحوّل نيويورك إلى بؤرة تفشٍّ وتحذيرات منظمة الصحة العالمية من أن الولايات المتحدة ستتحول لبؤروة عالمية للفيروس، بدا ترامب أكثر اهتماماً بالاقتصاد من تركيزه على الوباء الذي شل الحركة عالمياً وتحوَّل لأكبر تهديد للبشرية في العصر الحديث، مع ارتفاع حالات الإصابة عالمياً لأكثر من 664 ألف إصابة ونحو 31 آلاف حالة وفاة، وتحول معدل الإصابات اليومي عالمياً لنحو 100 ألف حالة والوفاة إلى متوسط ألفي حالة تقريباً.
فقد أعلن ترامب، الإثنين الماضي، أنه يسعى إلى “إعادة فتح أجزاء كبيرة من البلاد”، وإنهاء حالة الإغلاق العام فيها بحلول عيد الفصح 12 أبريل/نيسان، بهدف التخفيف من حدة الآثار الاقتصادية الناجمة عن جائحة فيروس “كوفيد 19″، في خطوة قال خبراء الصحة العامة إنها تنطوي على خطر التسريع من انتشار الوباء، وهو ما حدث بالفعل مع الارتفاع الجنوني في انتشار الوباء، ليصيب نحو 16 ألف شخص يومياً كمتوسط في الأيام الأربعة الأخيرة.
موقف الرئيس من الفيروس انعكس بالطبع على الإجراءات المتخذة للاستعداد ومع توالي الإصابات، أولاً في ولايتي واشنطن وكاليفورنيا (غرب)، بدا البلد عاجزاً عن رصد الأشخاص الذين كانوا على تواصل مع المصابين بشكل فعال؛ لعدم توافر فحوص على نطاق واسع لكشف الإصابات بالفيروس.
كما رفضت الحكومة في بادئ الأمر رفع بعض القيود للسماح للولايات بتطوير فحوصها بنفسها، وهو ما زاد من التأخير في مواجهة الأوضاع، وأُرسل أول الفحوص المتوافرة إلى مقر مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها في أتلانتا، وبدورها أرسلت مراكز مكافحة الأمراض فحوصاً غير صالحة إلى الولايات، وهو ما زاد من التأخير.
ولم ترفع الحكومة القيود المفروضة إلا في 29 فبراير/شباط، يوم حصول أول وفاة في الولايات المتحدة، وبعد أكثر من شهر على رصد أول إصابة، وبعد ذلك، انضم القطاع الخاص، بدوره إلى الجهود.
وفسر غابور كيلن، مدير قسم طب الطوارئ في جامعة جون هوبكينز، تأثير كل ذلك على تفشي الوباء، في تقرير لوكالة فرانس برس، بقوله: “لو تمكنا من الوصول إلى رصد الذين تواصلوا مع الأشخاص المصابين، لكنا ربما عثرنا على مزيد من الحالات بشكل سريع، وعزلنا مواقع الانتشار الكبير”، مؤكداً أن “الأمر الذي أُعلّمه لتلاميذي في الطب: أي شيءٍ أفضل من لا شيء، وكلما كان الوقت أبكر كان الأمر مجدياً أكثر (…) الأفضل عدو الجيد”.
النظام السياسي المتهم الثاني
الدستور الأمريكي لا يحدد طريقاً واضحاً للتعامل مع الأوبئة، ولا تملك الحكومة الفيدرالية مثلاً أن تصدر قراراً يقضي بوضع البلاد بأكملها تحت الحجر الطبي، حسب خبراء القانون الدستوري الأمريكيين؛ بل يصبح الأمر محل نقاشات وشد وجذب بين الحكومة المحلية في الولاية والحكومة الفيدرالية، وهذا النظام ثبت فشله الذريع في مواجهة وباء كورونا سريع الانتشار والذي لا علاج له ولا لقاح، وهو ما يعني أن إجراءات العزل والتباعد الاجتماعي هي السلاح الوحيد الناجح في هذه المرحلة.
تجربة الصين في هذا المجال هي الأنجح حتى الآن، لكن تطبيق تلك التجربة مستحيل نظرياً وعملياً في الولايات المتحدة، بسبب النظام السياسي والتعارض مع الحريات الفردية، كما أن اتخاذ أي إجراءات طارئة لمواجهة الوباء يخضع للقوانين المنظِّمة للعلاقة بين سلطات الرئيس وسلطات الكونغرس وسلطات الولايات، وهي أمور تغلب عليها دائماً التجاذبات السياسية.
وهكذا باتت ولاية نيويورك بؤرة الوباء في الولايات المتحدة مع تسجيل نحو 45 ألف إصابة وأكثر من 500 وفاة حتى الجمعة 27 مارس/آذار، وهي أرقام تشهد تطوراً سريعاً، تليها ولاية نيوجيرسي المجاورة، ثم كاليفورنيا وولايات واشنطن وميشيغن وإيلينوي، مع تركز الحالات في المدن الكبرى مثل نيويورك.
وحذَّر أستاذ الصحة العامة في جامعة هارفارد، توماس تساي، من أنه يجدر بالولايات التي لم تشهد تزايداً في انتشار الوباء بالوقت الحاضر، أن تسارع إلى استخلاص العبر، وقال لـ”فرانس برس” إن “الولايات المتحدة ليست مجموعة موحدة، فهناك خمسون ولاية مع تحركات مختلفة قررها الحكام وإدارات الصحة العامة المحلية”.
وأضاف: “أعتقد أن ما نحن بحاجة إليه هو مجهود وطني حقيقي بالتنسيق”، محذراً من أن الاستمرار في “ردود متباينة” بين الولايات تستهدف حركة الأشخاص قد يجعل ولايات جديدة تشهد انتشاراً للوباء شبيهاً بما يحصل في نيويورك، وفرض الحجر المنزلي اعتباراً من بعد ظهر الجمعة على أكثر من 60% من الأمريكيين، وهو ما يعني أن نحو 30% من أصل تعدادٍ إجماليٍّ قدره 330 مليون نسمة غير خاضعين لهذا التدبير.
الاستقطاب السياسي وعام الانتخابات
والسبب الثالث الذي ساهم في تفشي الوباء ويهدد باتخاذ ما يلزم لمواجهته هو حالة الاستقطاب الحاد التي تشهدها السياسة الأمريكية منذ وصول ترامب للرئاسة قبل أكثر من ثلاث سنوات، وأيضاً لتزامن الكارثة الصحية مع عام الانتخابات، وهو ما يجعل تركيز الحزبين الجمهوري والديمقراطي على الانتخابات أكثر من اتخاذ ما يلزم فعلياً لمواجهة الوباء.
في هذا الصدد تأتي تغريدة هيلاري كلينتون التي خسرت أمام ترامب في الانتخابات الماضية، والتي تبدو توظيفاً مباشراً لتفشي الوباء لتوجيه صفعة سياسية لترامب.
تغريدة كلينتون الساخرة من تصدُّر الولايات المتحدة للعالم في عدد الإصابات بالفيروس “لقد وعد بجعل أمريكا أولاً”، تأتي كتوظيف سياسي في وقت يجب أن يكون جميع السياسيين والمسؤولين مشغولين فقط بكيفية مواجهة الكارثة، فهذا ليس وقت تصفية حسابات سياسية بالطبع.
كان لافتاً أيضاً في هذه النقطة الغياب التام للديمقراطيين في الكونغرس عند توقيع ترامب، الجمعة، لقانون حزمة تحفيز الاقتصاد التاريخية بقيمة 2.2 تريليون دولار والتي أقرها الكونغرس (مجلسا الشيوخ والنواب)، بينما كان ممثلو الحزب الجمهوري فقط هم الحاضرين في مراسم التوقيع، في تكريس لحالة الاستقطاب الحادة.
ماذا يمكن أن يحدث؟
لكن هناك بعض المؤشرات التي تبعث على الأمل، بشأن الوباء، ومنها أن معدل الوفيات على مستوى الولايات المتحدة المستند إلى عدد الإصابات المثبتة يبقى في الوقت الحاضر متدنياً نسبياً، بمستوى 1.5% بالمقارنة مع 7.7% في إسبانيا و10% في إيطاليا، لكن السؤال الذي ينقسم الخبراء حوله هو: هل يستمر هذا التوجه؟
فقد أوضح خبير علم الأوبئة في جامعة تورونتو، ديفيد فيسمان، لـ”فرانس برس”، أن “نسبة الوفيات لا تطمئن”، موضحاً أنها “ستزداد، لأن الأمر يستغرق وقتاً حتى تحصل وفيات. أتوقع أن تكون الولايات المتحدة على أبواب وباء كارثي بالمطلق”.
ويتفق الجميع على نقطة واحدة وهي أن تدابير الابتعاد الاجتماعي ضرورية للاستمرار في “خفض مسار” انتشار الوباء، أي إبطاء عدد الإصابات الجديدة وسرعة تسجيلها؛ لتفادي استنفاد طاقات المستشفيات قدر الإمكان كما يحصل في نيويورك.
ومن المحتمل من وجهة نظر علمية، أن يتحول الفيروس مع الوقت إلى شكل أقل فتكاً، برأي غابور كيلن، كما أن الحر والرطوبة قد يبطئان انتشاره، وتتوقع كلية الطب في جامعة واشنطن إذا ما استمر المسار الحالي، تسجيل ذروة في انتشار الوباء قرابة منتصف أبريل/نيسان، على أن يراوح عدد الوفيات نحو 80 ألفاً اعتباراً من يونيو/حزيران، ويشير النموذج الذي وضعته الكلية إلى أن هذا العدد سيتراوح بين 38 ألف وفاة كحد أدنى و162 ألفاً كحد أقصى.