ليبيا الآن في أسوأ حالاتها على شتى الصعد، ولم يبق أمامها سوى الانشطار بين السيء والأسوأ.
فمنذ إطاحة المجموعات المسلحة بدعم من حلف الناتو، بحكم الزعيم الليبي الراحل، معمر القذافي عام 2011، انزلقت ليبيا إلى هوة الاضطرابات والانقسامات وغياب السلطة المركزية وانتشار التنظيمات الإرهابية التي تحاول فرض نفوذها وسيطرتها على مختلف المدن والمناطق ولا سيما في العاصمة طرابلس التي تنتشر فيها ميليشيات حكومة الوفاق المدعومة من النظام التركي... أما الشعب الليبي،
فلم يستشعر من المؤسسات المحلية الإقليمية أو الدولية التي تدعي حرصها على معالجة الوضع أية إجراءات استباقية عملية جادة يمكن أن تطمئن المواطنين الليبيين على مستقبلهم ومصير بلدهم المنكوب.
وفى ظل هذا المشهد المعقد، خرج المشير خليفة حفتر قائد الجيش الليبي يوم 27/04/2020 بخطاب متلفز، وقال فيه: ”نعلن إيقاف العمل بالاتفاق السياسي ليصبح جزءا من الماضي بقرار الشعب الليبي مصدر السلطات” مؤكدا أن حماية حقوق الشعب الليبي ستكون من أولويات الجيش”. كما أعلن حفتر قبوله إرادة الشعب الليبي بتفويضه في الدفاع عن حقوقه وتهيئة الظروف لبناء مؤسسات الدولة المدنية الدائمة متعهدا العمل بأقصى الطاقات لحماية حقوق الشعب وتحقيق طموحاته وأمانيه في التحرير والاستقلال والقضاء على الإرهاب.
وصراحة، لقد تتبعت كل الردود من الداخل الليبي المتمثل بحكومة فايز السراج، المدعومة من النظام التركي ومشيخة قطر، والخارج الذي تمثله دول كانت السبب الرئيسي فيما وصلت إليه ليبيا من مآسي… ولا بأس أن نذكر، لأن الذكرى تنفع، فقد كثر البكاء والبكاؤون على اتفاق الصخيرات باعتباره منجز تاريخي… والحقيقة غير ذلك… !
في كانون الأول 2015 أدى توقيع اتفاق سياسي بمنتجع الصخيرات بالمغرب، بإشراف الأمم المتحدة إلى تشكيل حكومة وفاق وطني، لكن هذا الاتفاق، الذي فشلت جميع محاولات تعديله، أدى إلى تعزيز الانقسامات، بحسب خبراء. وقالت آنذاك، فيدريكا سايني فاسانوتي، من مؤسسة بروكينغز في واشنطن، ”أعتقد أنه لم يقدّم البتة حلاً حقيقياً”، معربة عن أسفها ”لخسارة وقت قيم لأن الاتفاق لم يلق في أي وقت اعترافاً من الشعب الليبي”. ولم تلق حكومة الوفاق المنبثقة عن الاتفاق إجماعاً منذ دخولها طرابلس في 30 آذار 2016، وما زالت عاجزة عن فرض سلطتها في أنحاء واسعة في البلاد ما زالت خاضعة لعشرات الفصائل المسلحة، كما أن خصومها طعنوا في شرعيتها على أساس أنها تولّت مهامها بدون الحصول على ثقة البرلمان المنتخب في 2014، والذي يتخذ من طبرق شرق البلاد مقراً، وفق ما ينصّ عليه اتفاق الصخيرات.
وتعثرت حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، والمدعومة من الأمم المتحدة، وفشلت في تثبيت أقدامها في ظل غياب الإجماع عليها، وعجزها عن وضع حد لانفلات السلاح من جهة، والأزمة الاقتصادية من جهة ثانية. وسبق أن تعالت أصوات محلية ودولية بضرورة تعديل اتفاق الصخيرات بما يضمن تشكيل حكومة موسعة تضم كافة الليبيين، مؤكدة في الوقت ذاته على أهمية دور قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر وأنه رقم لا يمكن تجاهله في معادلة الاستقرار بليبيا.
ولعل من الضروري الإشارة إلى جملة من التطورات التي وصلت بالأزمة الليبية إلى هذا المأزق، الخطير، وإلغاء اتفاق الصخيرات، ونجملها في النقاط التالية:
أولا: إن الأطراف الداخلية الليبية تتحمل مسئولية كبيرة عما آلت إليه أحوال ليبيا، بتمسكها بمصالح ذاتية ضيقة على حساب استقرار وأمن وأمان بلادها، وإضاعتها أكثر من فرصة للتسوية السياسية، حتى ولو بشيء من التضحية بالمصالح الخاصة وتوحيد الأهداف والقوى الوطنية، لمحاربة الميليشيات والتنظيمات الإرهابية المدعومة من تركيا، في إطار الجهود الرامية لإعادة الاستقرار لربوع الأراضي الليبية، ويتجلى ذلك بوضوح في استمرار وجود حكومتين وبرلمانين وقوات مسلحة تابعة لكل جهة حاكمة وذلك برغم الحوارات المستمرة منذ إعلان اتفاق ”الصخيرات” الذي رتب بعض الخطوات لإنهاء الانقسام القائم في ليبيا.
ثانيا: لا يمكن تبرئة اتفاق الصخيرات كليا من مسؤولية المشهد الراهن للازمة الليبية، حيث ولد مبتسرا في بعض جوانبه بعجزه عن تحقيق حالة الوفاق والإجماع المنشودة وتوحيد جميع القبائل الليبية على اختلاف أطيافها وتياراتها، وتجاهله لقوى فاعلة على أرض الواقع، مما فتح الباب أمام عدم فاعليته في مراحل مبكرة جدا، وأدى ذلك إلى مطالبات كثيرة بتعديله، وكانت هناك استعدادات بالفعل لتحقيق ذلك، إلا أنه من الواضح أن قوى داخلية وإقليمية ودولية كذلك ترفض ذلك تحقيقا لمصالح خاصة في ضرب الجيش الوطني الليبي وتقليص مكانة قائده خليفة حفتر، والنتيجة الواضحة لذلك هي إسقاط اتفاق الصخيرات.
ثالثا: لعبت التدخلات الإقليمية والدولية غير المسؤولة دورا تخريبيا اتسم بالسعي لتحقيق مصالح سياسية أو اقتصادية بخاصة في إطار الصراع على الثروات النفطية الليبية، وكذلك بالأنانية الشديدة التي كانت تبدت بوضوح في حماية المصالح الأوروبية والغربية عموما دون التركيز على إقامة السلام الشامل في ليبيا، وأبرز تلك المصالح الانحياز لحكومة طرابلس على حساب الأطراف الأخرى وقضايا اللاجئين والهجرة غير الشرعية، وربما الشرعية أيضا، فمنذ البداية أعربت ألمانيا وفرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عن دعمها الكامل لحكومة الوفاق الوطني وعزمها العمل على نحو وثيق مع حكومة الوفاق الوطني التي اعتبرتها الحكومة الشرعية الوحيدة في ليبيا.
رابعا:أغلب الظن أن من بين التطورات المهمة التي أدت إلى تفجير الموقف على هذه الشاكلة في الداخل الليبي صعود نجم قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر، وظهوره كرقم صعب في المعادلة الليبية ونجاحه إلى حد كبير في الحصول على شرعية دولية من جانب أطراف خارجية.
أما رؤية المجتمع الدولي والدول الفاعلة في الملف الليبي، فتظل محل خلاف خارجي أكبر وأعمق من خلاف الليبيين أنفسهم. ومن حقنا أن نتساءل: هل موقف المجتمع الدولي مما يحدث في ليبيا نزيه وعادل؟ سؤال يقتضي منا عودة إلى الماضي، من أجل الحكم على واقع الأمر اليوم فماذا عن ذلك؟
إثر اندلاع ما أطلق عليه ثورة 17 فبراير في ليبيا كانت الأصوات متعالية في العالم الغربي بضرورة التدخل السريع لإنقاذ الثورة الوليدة هناك… والشاهد أن الأمر لم يكن ثورة شعبية بقدر ما كان تخطيطا مسبقا يمثل الحلقة الأولى من سلسلة متصلة الحلقات لإعادة تشكيل المنطقة، وعليه يحق القول أن من صنعوا الأزمة انطلاقاً من أحداث 17 فبراير، وما سبقها من تمهيد، قامت به المراكز البحثية والتدريبية لقيادة هذه الثورات في كل من لندن وباريس وواشنطن، ثم خلق تحركات وتضخيمها إعلامياً باستخدام عملائهم من بني الوطن من الليبيين والعرب، إلى أن تمكنوا من تنفيذ مؤامراتهم بإسقاط النظام”.
في شهر مارس من عام 2011 صرح رئيس الوزراء البريطاني ”ديفيد كاميرون” بأن هناك حاجة إلى اتخاذ إجراءات صارمة لضمان أن الشعب الليبي يمكنه أن يمارس حياته من دون خوف مع الحصول على احتياجاته الأساسية للحياة، وهذا هو ما يطلبه مجلس الأمن، وهذا ما نسعى إلى القيام به. هنا ”يقول تقرير صادر عن مجموعة ”استراتيجيك كلتشر موتديشن”، أن كاميرون قام هو وعصبته بإحداث كارثة. ويضيف التقرير أنه حينما توقف هجوم الولايات المتحدة وحلف الناتو على ليبيا بعد مقتل الرئيس الليبي معمر القذافي، تم إخبارنا بأن الحرب نجحت في تحقيق الديمقراطية عن طريق القصف الجوى، ويمكن تلخيص هذا في العبارة التي قالتها السيدة هيلاري كلينتون على شبكة CBS في 20 أكتوبر من عام 2011 بعد مقتل القذافي، حيث قالت: ”لقد جئنا وشاهدنا ثم مات”!
ثم ماذا هل اهتم الناتو والولايات المتحدة بمصير العملية السياسية والتوافق الوطني في ليبيا أم ترك الأمر للأهواء والمغامرات الشخصية؟ ”الديلي تليجراف” البريطانية تذكرنا بأن هناك محاولات جرت في هذا الإطار، كانت فاشلة عن قصد وعمد ونية أم عن جهل وعدم معرفة بطبيعة الشعب الليبي وبجغرافية الجماهيرية الليبية ذاتها؟ لا يهم فالنتيجة واحدة فهي كما نراها الآن. لقد حاولت الولايات المتحدة عقب الإطاحة بالقذافي وضع خطة لتدريب وإعداد أشخاص في ليبيا، وعندما انزلقت البلاد إلى العنف تخلت واشنطن عن خطتها… وحرصت على ترك القيادة للأوربيين… هل نجح هؤلاء في إدارة المشهد هناك أم أن الليبيين الآن يجنون الحصاد المر؟
للأسف المأسوف على شبابه، ليبيا محيرة للعقول، لمن لم يقرأ بعد كيف ارتهن مصيرها لمواصفات أن تظل لا دولة برعاية دولية، لكي تبقى منهوبة مسروقة والكل يأكل من هذه الجبنة الطيبة على طريقته، ويتعاطى مع الواقع الليبي كأنه يجب أن يبقى على تلك الحال طالما أن الجميع مقتنع ومتفاهم دون أن يتفاهم على تحقيق مساواة في تلك السرقات والاستباحات الرهيبة.
لم تعد القاعدة الاستعمارية الجديدة ”فرق تسد”، بل ”قسّم تقي نفسك شر الإرهاب”، وفي كل الحالات تظل منطقتنا مصدر ابتكار القاعدة وساحة تطبيقها. وطالما ظلت الدولة غائبة والانقسام مسيطرا ستظل ليبيا ملاذا جاذبا، ويترتب على ذلك أن الكثير من القوى الدولية لن يميل للحلول العسكرية، التي ستأتي معها بالفوضى والتفكك الاجتماعي والفراغ السياسي.
خلاصة الكلام: بعد دفن اتفاق الصخيرات، التطورات الأخيرة ستلقي بلا شك بظلالها على سمعة المشير خليفة حفتر كشخصية قوية، وكسياسي مؤثر يمتلك قوة عسكرية في ليبيا، والشعب الليبي يقف الآن على أبواب اختيار مصيري، عليه أن يتسلح بمسؤولية ووطنية، ورؤية مستقبلية شاملة وصائبة. لكن الرؤى المستقبلية لا تقود إلى أكثر من رسم ملامح الطريق، أما اجتياز الطريق نفسه، فيحتاج إلى ما هو أكثر من خريطة: الوحدة والتضامن والإرادة الخيرة.
باحث وكاتب صحفي من المغرب.