تحدّث وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” خلال خطابه المعنون “قوة من أجل الخير: تنشيط أمريكا في الشرق الأوسط”، بالجامعة الأمريكية بالقاهرة في العاشر من يناير الجاري (٢٠١٩)، عن إعادة الانخراط النشط للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط وأزماتها، بعد ثماني سنوات من انحسار الدور الأمريكي خلال إدارتي الرئيس الأمريكي السابق “باراك أوباما”.
يأتي خطاب “بومبيو” بعد ثلاثة أسابيع من إعلان الرئيس “دونالد ترامب” سحب القوات الأمريكية من سوريا (2000 جندي)، الأمر الذي أثار جدلًا حادًّا بين حلفاء الولايات المتحدة بالمنطقة، وكذلك داخل الإدارة الأمريكية، ما أدى إلى استقالة عدد من المسئولين العسكريين، وفي مقدمتهم وزير الدفاع السابق “جيمس ماتيس”.
بداية جديدة
كانت القاهرة خلال فترة العقد ونصف العقد الماضية محطة المسئولين الأمريكيين للكشف عن استراتيجية الإدارة الأمريكية تجاه المنطقة. ففي يونيو ٢٠٠٥، ألقت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة “كوندوليزا رايس” خطابًا بالجامعة الأمريكية بعد عامين من الغزو الأمريكي للعراق، أوضحت فيه استراتيجية إدارة الرئيس “جورج دبليو بوش” تجاه الشرق الأوسط، والتي انطلقت من رفض المقاربة الأمريكية التي استمرت لمدة ستة عقود، والتي قامت على تحقيق الاستقرار الإقليمي على حساب نشر الديمقراطية.
وبعد مرور أربع سنوات على خطاب “رايس”، ألقى الرئيس الأمريكي السابق “باراك أوباما” خطابًا مفعمًا بالمشاعر من جامعة القاهرة، أعلن فيه عن إعادة إحياء العلاقات بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي بعد ثماني سنوات من التدهور خلال إدارتي الرئيس “بوش” الابن، وحل الصراعات الإقليمية بالمنطقة.
في خطابه بالجامعة الأمريكية، حاول وزير الخارجية الأمريكي “بومبيو” إظهار أن سياسة الإدارة الأمريكية للرئيس “ترامب” تجاه المنطقة تمثل خروجًا صارخًا عن نهج الإدارة السابقة، حيث هاجم سياسة إدارة “أوباما” بالمنطقة، معلنًا عن بداية “جديدة حقيقية” للولايات المتحدة تحت حكم “ترامب” تُعيد تأكيد دورها التقليدي في المنطقة بوصفها قوة لـ”جلب الخير في المنطقة”، وأن سياساتها تجاه الشرق الأوسط ستركز على محاربة أسباب عدم الاستقرار والأمن في المنطقة، والتي ستتمثل في محاربة التنظيمات الإرهابية، والدور الإقليمي لإيران المزعزع للاستقرار والأمن إقليميًّا، وتأسيس “التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط”، الذي يضم أعضاء مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن، وستكون مهمته مواجهة التهديدات الأكثر خطورة في المنطقة، وتعزيز التعاون في مجالات الاقتصاد والطاقة.
تحديات عديدة
رغم إشارة وزير الخارجية الأمريكي خلال خطابه بالجامعة الأمريكية إلى “انتهاء عصر الخزي الأمريكي الذاتي”، وانتهاء عهد السياسات (في إشارة لسياسات الإدارة السابقة) التي أنتجت الكثير من المعاناة التي لم يكن لها من مبرر، وبداية جديدة للسياسة الخارجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، فإن ثمة تحديات أمام استعادة الولايات المتحدة لانخراطها النشط في المنطقة التي تموج بالكثير من التحديات والأزمات والصراعات المشتعلة.
وتتمثّل أهم تلك التحديات التي تعتري توجهات الإدارة الأمريكية للتعامل مع تحديات سياستها الخارجية تجاه المنطقة فيما يلي:
1- سفارات الولايات المتحدة بالدول الحليفة بدون سفير: خمس دول (هي: الأردن، ومصر، والإمارات، وقطر، والسعودية) من الدول التسع التي زارها وزير الخارجية الأمريكي خلال الفترة من ٧ إلى ١٥ يناير الجاري، بدون سفير أمريكي. وكذلك أربع دول شرق أوسطية ذات أهمية كبيرة للمصالح والأمن القومي الأمريكي، وهي: تركيا، وسوريا، وليبيا، والمغرب.
ومن الجدير بالذكر، أن هناك أكثر من ٤٠ منصب سفير بسفارات الولايات المتحدة حول العالم شاغرًا من إجمالي ١٨٨ منصبًا وفقًا لاتحاد الخدمة الخارجية الأمريكي، وهو اتحاد يمثل الدبلوماسيين الأمريكيين، ويتعقب تعيينات السفراء الأمريكيين في الخارج.
ويُلقي كلٌّ من الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته بالمسئولية في عدم إنهاء التعيينات بمناصب السفراء الشاغرة على ديمقراطيي مجلس الشيوخ الذين يرفضون الكثير من تسميات “ترامب” و”بومبيو”. وفي المقابل، يرى الديمقراطيون أن تلك التسميات تفتقد إلى القدرات والمؤهلات التي تؤهلهم لتولي تلك المناصب، وتحقيق المصالح الأمريكية في الخارج.
بيد أن الرئيس الأمريكي -في كثيرٍ من الأحيان- لم يقم بتسمية شخصيات لتولي منصب السفير الأمريكي الشاغر في سفارات الولايات المتحدة في الدول الحليفة، وعندما يقوم بالتسمية فإنها -في بعض الأحيان- تكون من ممولي الحملات الانتخابية، ورجال الأعمال، وأصدقاء شخصيين له، ما يدفع مجلس الشيوخ إلى رفض الموافقة عليها.
2- فراغ منصب مساعد وزير الخارجية لشئون الشرق الأدنى: وهو معنيّ بشئون الشرق الأوسط، والذي يتعامل مع أزمات وتحديات المنطقة. ويديره حاليًّا باعتباره قائمًا بالأعمال الدبلوماسي الأمريكي “دافيد ساترفيلد”، الذي يتصدر قائمة المرشحين لمنصب سفير الولايات المتحدة إلى مصر.
3- انخفاض عدد العاملين بالسلك الدبلوماسي الأمريكي: فمنذ أداء الرئيس “دونالد ترامب” اليمين الدستورية في العشرين من يناير ٢٠١٧ انخفض عدد العاملين بوزارة الخارجية وفقًا لبياناتها من ٨١٧٦ في مارس ٢٠١٧ إلى ٧٩٤٠ في ديسمبر من العام ذاته، بنسبة انخفاض قدرها ٣٪.
4- تخفيض المخصصات المالية لوزارة الخارجية الأمريكية: فقد أعلن الرئيس الأمريكي أكثر من مرة خلال العامين الماضيين له في البيت الأبيض عن تخفيض المخصصات المالية لبرامج وزارة الخارجية للعمل الخارجي، ما يتفق مع تساؤله عن أهمية الدور الأمريكي حول العالم. فعلى سبيل المثال، اقترح مشروع الميزانية الذي قدمه الرئيس للسنة المالية 2019 ما قدره 39,3 مليار دولار لجهود وزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية في مقابل ٥٤,٢ مليون دولار في ميزانية عام ٢٠١٨.
وفي مقابل خفض المخصصات المالية لوزارة الخارجية الأمريكية، يدعو الرئيس “ترامب” إلى زيادة المخصصات المالية لوزارة الدفاع (البنتاجون). ويكشف ذلك عن عدم إيمان الرئيس “ترامب” بأهمية الوسائل الدبلوماسية وغير العسكرية للانخراط الأمريكي في الشئون الدولية، وهو الأمر الذي أضر بمصداقية الولايات المتحدة ومكانتها الدولية بشكل عام، وفي منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص. يأتي هذا في مقابل تصاعد دور القوى المنافسة في قضايا وأزمات المنطقة، التي تتبنى سياسات ومصالح مغايرة لتلك التي تسعى واشنطن للحفاظ عليها في الشرق الأوسط.
5- إغلاق الحكومة الأمريكية: أثّر إغلاق الحكومة الأمريكية منذ أواخر ديسمبر الماضي (٢٠١٨)، على خلفية الصدام بين الرئيس والمؤسسة التشريعية حول الميزانية الأمريكية وتمويل الجدار الذي يرغب “ترامب” في إقامته على الحدود مع المكسيك، وهو أحد أهم التعهدات الانتخابية للرئيس الأمريكي لمحاربة الهجرة غير الشرعية، سلبًا على عمل وزارة الخارجية الأمريكية في الداخل والخارج، وتحركات وزير الخارجية ومساعديه لتنفيذ السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية.
وفي إطار الشد والجذب بين الرئيس الأمريكي والأغلبية الديمقراطية بمجلس النواب حول تمويل الجدار وإعادة فتح الحكومة، أرسل “ترامب” خطابًا إلى رئيسة مجلس النواب الديمقراطية “نانسي بيلوسي” لإرجاء زيارتها إلى المنطقة التي كانت تتضمن مصر وأفغانستان بجانب بروكسل، والتي كانت ستستغرق ٧ أيام، وذلك بعد يوم من إرسالها خطابًا له تقترح فيه إعادة جدولة خطابه عن “حالة الاتحاد” الذي كان من المزمع إلقاؤه خلال هذا الشهر إلى أن يتم حل إغلاق الحكومة.
فقدان التأثير
يُفقد فراغ منصب السفير بسفارات الولايات المتحدة بعدد من دول المنطقة الحليفة لها، وتلك التي تشهد صراعات ونزاعات دموية، وكذلك المناصب العليا بوزارة الخارجية المعنية بالتعامل مع تحديات الشرق الأوسط؛ الإدارةَ الأمريكيةَ إحدى أهم أدواتها لتنفيذ سياساتها الخارجية على أرض الواقع، باعتبار السفراء الممثلين الشخصيين للرئيس في الدول التي يخدمون بها، ما يحد من قدرة “ترامب” وأعضاء إدارته على التعامل مع التحديات الرئيسية التي تواجهها الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط.
ومن أهم التحديات التي يجب على سفارات الولايات المتحدة بالمنطقة التعامل معها خلال الفترة القادمة، تنظيم عملية الانسحاب الأمريكي من سوريا بما لا يضر بمصالح الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين بالمنطقة، والتصدي للطموح النووي لإيران وسياساتها التي تُزعزع عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، ودعمها ميليشيات مسلحة بالعراق وسوريا واليمن ولبنان. بالإضافة إلى التعامل مع تداعيات الحرب الأهلية اليمنية، والاستمرار في محاربة التنظيمات الإرهابية بالمنطقة، وعدم توفير ملاذات آمنة لها، وغيرها من القضايا المهمة.
ومع فراغ منصب السفير الأمريكي في تسع دول رئيسية في منطقة الشرق الأوسط، يتولى مسئولون دبلوماسيون بالسفارات مهام هذا المنصب، لكن قدرتهم على التأثير في الدول التي يعملون فيها، وعلى عملية صنع القرار في واشنطن بتقديم التوصيات لوزير الخارجية، متواضعة مقارنة بالسفراء الذين يسميهم الرئيس الأمريكي، والذين يُنظر إليهم على أنهم الممثلون الشخصيون للرئيس، ويحصلون على موافقة مجلس الشيوخ الأمريكي قبل تولي مهامهم الدبلوماسية. ناهيك عن أن الرئيس ترامب كثيرًا ما يتجاهل وزارة الخارجية الأمريكية في كثير من تحركاته الخارجية وعملية صنع السياسة الخارجية الأمريكية. وكان ذلك جليًّا خلال قيادة “ريكس تيلرسون” للوزارة.
في التحليل الأخير، إنّ فراغ المناصب العليا بوزارة الخارجية الأمريكية المعنية بشئون منطقة الشرق الأوسط، ومنصب السفير في تسع دول شرق أوسطية، بعضها من حلفاء الولايات المتحدة التقليديين بالمنطقة، وأخرى من دول الصراع التي تشهد تعاظمًا لدور القوى الدولية والإقليمية المناوئة للمصالح والأمن القومي الأمريكي؛ سوف يؤثر سلبًا على ما تضمنته كلمة وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” بالجامعة الأمريكية من استعادة الولايات المتحدة تحت قيادة الرئيس “دونالد ترامب” الانخراط النشط في المنطقة وأزماتها، والذي يعني أن السياسة الخارجية ستواجه أزمات كثيرة في المنطقة خلال الفترة القادمة لافتقادها الكثير من أدوات التأثير والتنفيذ على أرض الواقع.
المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية