عقود سبعة وسنتان مضت على النكبة في توقيت النسيان العربي للقضية، وتكاد فلسطين المنكوبة دائماً تغيب تماماً عن جدول الاهتمام العربي والدولي، وإذا حضرت، فخارج هذا الجدول المزدحم بكل شيء إلا بمأساتها المزمنة، وفي شكل صرخة فلسطينية مُرة تصدر عن شهيد أو أسير أو ثكلى أو مشرد أو محاصر… إلى آخر ما يُكابده الفلسطينيون من معاناة يومية لا مثيل لقسوتها ولا نهاية لها،
وحتى هذه الصرخة تكاد تضيع في وادٍ سحيق لولا بعض الضمائر الحية هنا وهناك التي تُحاول بما أمكنها من وسائل متواضعة تسليط الضوء على العذاب الفلسطيني الذي تُنكر عليه العنصرية الصهيونية والغربية عموماً أن يكون عذاباً إنسانياً يستوجب التضامن الإنساني قبل الدولي معه.

في الخامس عشر من مايو من كل عام يضرب الشعب الفلسطيني موعدا لإحياء ذكرى النكبة التي مثَّلت تحولًا ليس في التاريخ الفلسطيني وحده، وإنما في التاريخ العربي، حيث أصبح هذا التاريخ ملكًا لأعداء هذه الأمة ومستعمري أراضيها وشعوبها وناهبي ثرواتها، فلم تعد صناعة هذا التاريخ منذ العام 1948 لا بيد الشعب الفلسطيني ولا بيد الشعوب أو الأنظمة العربية بخاصة بعد نجاح هؤلاء الأعداء المستعمرِين في إبعاد ملف الصراع العربي ـ الإسرائيلي بأكمله عن مساراته الشرعية والقانونية المتمثل في منظمة الأمم المتحدة التي تحولت إلى مجرد أرشيف للقرارات الصادرة عنها ذات العلاقة، وكذلك تحولت إلى شاهد زور تقريبا في كل المحطات التاريخية الخاصة بالصراع العربي ـ الإسرائيلي جراء مفاعيل قوى الاستكبار والاستعمار الداعمة والممكِّنة والمؤيِّدة والغارزة لخنجر للاحتلال الإسرائيلي في خاصرة الوطن العربي، والمتمثلة في الفيتو الذي مثَّل ولا يزال أكبر مظلة حماية لأبشع احتلال عرفته البشرية في التاريخ المعاصر وموجَّه ضد العرب خاصة.

تدخل النكبة هذا العام سنتها الجديدة، وهي مناسبة لإلقاء نظرة فاحصة على مشهد الصراع، لكي نفتش عما تبقى لنا من أوراق وخيارات، وما يلوح لنا من آفاق. هذه الرحلة يمكن توزيعها بين ثلاث مراحل هي: ”النكبة” التي اقترنت باستيلاء الصهاينة بالقوة المسلحة على 78 في المائة من أرض فلسطين وأقاموا عليها عام 48 دولتهم و”النكسة” التي أتمت فيها ”إسرائيل” سيطرتها على كامل الأراضي الفلسطينية عام 67 و”الهلكة” التي بدأت باتفاق أوسلو 93 وهي المستمرة إلى الآن، والتي عملت فيها على تقنين إخضاع الفلسطينيين وإضفاء الشرعية على الأراضي التي احتلتها عام 67.‏

فلسطين الآن بين المطرقة الصهيونية وسندانها، والنظام الرسمي العربي في ذروة الضعف والبؤس، بينما الترقب الشعبي العربي الذي طال أمده أوشك أن يصبح بطالة قومية شاملة أو يأساً… ومن من يرصد الواقع الراهن اليوم وما يكتنفه من ملابسات عجيبة غريبة يستطيع القول بكل بساطة إنه إذا كانت نكبة فلسطين عام 1948 تمثل جزء منها في عجز العرب والمسلمين عن دفع الأذى وإحباط المخطط الصهيوني لاغتصاب فلسطين، فإن ما يحدث اليوم هو أن أنظمة عربية وإسلامية لم تعدْ تقف عند منطق العجز عن دفع الأذى أو تتذرّع به لتبرير القصور في أداء الواجب ونفض اليد من أداء أيّ دور في التصدّي، ولكنها تتجند الآن بكل إمكانياتها وقواها للمساهمة في تثبيت النكبة القديمة وتفريخ نكبات جديدة لصالح العدو الصهيوني أيضاً.‏

فالفلسطينيون أنفسهم بدأوا يوقنون أن انقسام الحركة الوطنية الفلسطينية على نفسها بجانب التراجع اللافت في السياسات العربية وغياب مركزية القضية الفلسطينية من أدبياتها يعد في شكله ومضمونه نكبة جديدة أضيفت إلى النكبة الأولى، بل إنها نكبة أخذت تتناسل مكوِّنةً نكبات متوالية لا يزال الفلسطينيون يدفعون ثمنها غاليا، ذلك لما أحدثه هذا الانقسام من خلخلة وفكفكة في العمل الوطني الفلسطيني المقاوم أطاح بكل الإنجازات التي حققتها الحركة الوطنية الفلسطينية الموحدة؛ ما سهل للولايات المتحدة ومن في عباءتها الاستفراد بالفلسطينيين وتقسيمهم بين ”معتدلين” و”إرهابيين”، وتبادلت مع حلفائها وأتباعها الأدوار بتبني فريق فلسطيني ضد فريق فلسطيني آخر، مع الحرص على إبقاء شرارات التنازع على ما هي وتبريدها وتسخينها متى اقتضت الضرورة ذلك.

المشكل أن الفلسطينيين رغم إدراكهم التام بهذا الواقع المؤلم الذي يشكل نقطة ارتكاز ومنطلقًا حيويًّا لكيان الاحتلال الإسرائيلي للمضي قدما في مشاريعه لتصفية القضية الفلسطينية، باتوا متيقنين ومقتنعين أن الاعتلالات التي أصابت مفاصل العمل العربي والدول العربية الكبرى الداعمة والمساندة للقضية الفلسطينية نتيجة ”الحريق العربي” أن هدفها الاستراتيجي والأساس هو تثبيت الاحتلال الإسرائيلي وتأمين بقائه واللذين تمثل تصفية القضية الفلسطينية أحد مرتكزاتهما، ولكن مع ذلك، يستمر الفلسطينيون في إعطاء أعدائهم الذرائع، وتوفير البيئة والعوامل المهيِّئة لذلك، وبالتالي فإن من الواجب عليهم إعادة النظر في كل ما أسهموا في إيجاده من عوامل وبيئات لأعدائهم وأول أمر يجب أن يعملوا تجاهه وهم يحيون ذكرى النكبة طي ملف الانقسام الفلسطيني إلى الأبد.

في ذكرى النكبة، لا بد سنوياً من استحضار جملة من الحقائق الأساسية التي تسعى سلطات الاحتلال إلى طمسها، وإحلال خرافاتها وأكاذيبها محلها، في جهدها غير المنقطع لتحريف التاريخ وطمس الذاكرة الفلسطينية. وفي مقدمة هذه الوقائع قضية اللاجئين الفلسطينيين الذين يشكلون أبرز ضحايا جريمة اغتصاب الوطن الفلسطيني، ولا تزال سلطات الاحتلال تحارب بلا هوادة كل جهد سياسي أو قانوني لإدراج قضية اللاجئين في سلم الجهد الدولي الباحث عن حلول سياسية للصراع العربي ـ الإسرائيلي.‏ وقد ركزت السياسة والإعلام في إسرائيل خلال العقود الماضية على محاولة تصوير قضية عودة اللاجئين على أنها مسألة رمزية وغير واقعية وأن طرحها هو نوع من اللاواقعية السياسية، وذلك بهدف إخراجها من التداول السياسي العملي، وتحويلها إلى قضية إنسانية تحل بالتعويض المادي والتوطين ودون أن تتحمل إسرائيل أي أكلاف.‏

النكبة اليوم ليست فقط هزيمة عربية حصلت، أو أرضاً احتلت، أو حقوقاً اغتصبت، أو مقدسات دنست، أو شعباً شرد في أربع جهات الأرض… النكبة اليوم إخفاقات عربية، وجسم قومي فقد المناعة تجاه السرطان الإسرائيلي… النكبة اليوم شعب فلسطيني محكوم بانقسام نخبته ”الحاكمة” التي تبحث عن ”مصالحة” ولا تستطيعها، وباتت عاجزة حتى عن تحمل مسؤولياتها الوطنية والتاريخية… النكبة اليوم مصطلح سياسي استوطن قاموسنا اللغوي، واستتبع مفاوضات واعترافاً وتطبيعاً ومساومات مع المحتل الغاصب، فيما ”إسرائيل” تضغط لإلغائه بالقوة، وذلك لإلغاء حق العودة لخمسة ملايين لاجئ فلسطيني لا يزالون مسجلين لدى وكالة الغوث ”الأنروا” ويقيم معظمهم في مخيمات اللجوء في الأردن وسورية ولبنان والضفة والقطاع… النكبة اليوم هي أن المستوطن الصهيوني لا يزال فالتاً من أي محاسبة أو مساءلة على إجرامه وسرقته الأرض واعتدائه على المقدسات، وأن حكومة ”اليمين المتطرف” لا ترى موجباً لقيام دولة فلسطينية، ولو قامت فيجب أن تلبي ”المصالح والحاجات والأطماع الإسرائيلية” أكثر مما تحاكي الحقوق الوطنية والشرعية للشعب الفلسطيني.

إنها النكبة المتخمة سنواتها العجاف بالعار الدولي والخزي العربي، والآلام والأحداث والتداعيات والمعاناة الفلسطينية، ولكن الأكثر إيلاما في ذكراها الـ72 هو أن يترك الشعب الفلسطيني يحييها وحده، بعد أن أدرك شيئاً فشيئاً أن قضيته الإنسانية الحقوقية الوجودية الأخلاقية، لا تخص أحدا في هذا الكون غيره، وأصبحت الجريمة المستمرة فوق أرضه، والوقائع المستنكرة من كل القوانين والأعراف الدولية والأخلاقية مجرد ذكريات، فيما النظام الرسمي العربي الحاضن قضية الأمة المركزية والمشارك عن عمد أو غباء في الكارثة التي حلّت بالشعب الفلسطيني..

معاناة الشعب الفلسطيني الموزع في شتات الأرض ما زالت مستمرة في ظل آلة القتل والإجرام الصهيونية التي تواصل تدمير واحتلال ما تبقى من أرضه وتحاول طمس تاريخه وحقوقه حيث يواجه اليوم تحديات كبرى لا تقل خطورة عما تعرض له سابقا وفي مقدمتها ما تسمى ”صفقة القرن” الأمريكية الرامية لتصفية القضية الفلسطينية، لتنضاف نكبة جديدة، يمكن وصفها بأنها النكبة الفاصلة والماحقة ـ كما يريدها واضعوها ـ بحيث تلتهم كل فلسطين، وتتحول القضية الفلسطينية إلى طي النسيان من الذاكرة ومن الجغرافيا ومن التاريخ، وفق الطبخة الصهيو ـ أميركية، التي يرمي من ورائها الصهيو ـ أميركي إلى سحق جميع حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه ومقدساته، وهويته وكل ما يمت بصلة له لوطنه فلسطين.

هي مؤامرة ”صفقة القرن” العتيدة التي روَّجوا لها طويلاً، وقد سار حتى الآن شوطاً لا يستهان به على طريق إنفاذ هذه المهمة، فقد منح الصهاينة، من دون أن يرف له جفن، وغير آبه لخروجه على القرارات الدولية في شأن القضية، القدس عاصمة أبدية لدولتهم غير الشرعية، وإعلان أمريكا نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس واعترافها بها ”عاصمة”  للكيان المحتل. ولعل الاشتغال الأمريكي وأيضا الإسرائيلي بفيروس كورونا هو الذي حدّ من المضي قدما في تنفيذ المخطط الذي يروج له السفير الأمريكي في إسرائيل، ومن هنا فإن الأمر يبدو خطيرا وهو أحد بنود ما يعرف بصفقة القرن التي رفضتها السلطة الوطنية الفلسطينية والشعب الفلسطيني والعرب، ومع ذلك فإن مخطط الاستيلاء على مزيد من الأراضي الفلسطينية والأردنية لا زال مستمرا.

وفي هذا السياق، قال بنيامين نتنياهو، إن إسرائيل بدأت في رسم خرائط لتنفيذ خطتها لضم غور الأردن ومستوطنات الضفة الغربية. وأوضح نتنياهو خلال خطاب انتخابي، أقيم أمام مناصريه في حزب ”الليكود”، في مستوطنة معاليه أدوميم، ”بدأنا برسم الخرائط والحدود مع إدارة ترامب لتنفيذ خطوة ضم مستوطنات الضفة الغربية وغور الأردن”. وأضاف، ”لن تعترف أي دولة في العالم بسيادة إسرائيل في الضفة الغربية ولن تعترف بأن القدس هي عاصمتها بمعزل عن الأميركيين”.

أما الغريب في الأمر فإننا نرى أنَّ  خطة دونالد ترامب ـ بنيامين نتنياهو مغلَّفة باسم ”صفقة القرن”، وأنَّ هؤلاء قد وافقوا على الضم بشكل مسبق،  وتم وضع خرائط لما يمكن تسميته (شبح) دولة فلسطينية لا حدود لها ولا دستور لها ولا أرض لها ولا سماء، متناسين ملايين الفلسطينيين المشردين في شتى أنحاء بلاد العالم والذين يحق لهم العودة وتقرير مصيرهم أسوة بشعوب العالم بموجب قرار هيئة الأمم المتحدة رقم 194. وهكذا تتكرس النكبة التي نحن بصدد ذكراها في هذا الشهر الفضيل، إلى ما شاء الله، ويبقى الشعب الفلسطيني مشرداً بلا وطن، وصفحة فلسطين كلها تطوى إلى الأبد. هذا ما خططوا له، وهذا ما يعمل العدو على طرحه، بل تطبيقه على الأرض ليصبح أمراً واقعاً نافذاً، أسوة بما درجوا على فعله فيما مضى طوال السنين المنصرمة.

خلاصة القول: لن تغلق القضية الفلسطينية لأي سبب، سواء بطريقة متعمدة أو بحالة افتراض، ولكونها أدت إلى ولادة أزمات في المنطقة فيمكن القول أنها تآخت وإياهم، صارت لهم وصاروا لها، ومهما افتكر البعض أن وضعهم الوطني بعيد عن قضية فلسطين فهم مخطئون لأنهم لصيقون بها، وكلما فكروا بها بعيدة عنهم، سيرونها الأقرب إليهم.

 

باحث وكاتب صحفي من المغرب.

 

نُشر بواسطة رؤية نيوز

موقع رؤية نيوز موقع إخباري شامل يقدم أهم واحدث الأخبار المصرية والعالمية ويهتم بالجاليات المصرية في الخارج بشكل عام وفي الولايات المتحدة الامريكية بشكل خاص .. للتواصل: amgedmaky@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Exit mobile version