منذ بدء انحسار سيطرة الجماعات الإرهابية على مساحات ومناطق جغرافية في سوريا خلال السنوات القليلة الماضية، خاصة بعد الإعلان عن القضاء على تنظيم “داعش” الإرهابي في سوريا العام الماضي، وهزيمة العديد من التنظيمات الإرهابية الأخرى، بدأ الحديث عن إعادة إعمار سوريا. لكن لم يكن الشروع في تنفيذ هذه الخطط سهلًا؛ ذلك أن هناك فاعلَيْن رئيسيين اثنين على الأراضي السورية، لعبا أدوارًا مهمة خلال الأزمة السورية وقدّما دعمًا للنظام بأشكال مختلفة، يرغبان في حفظ مصالحهما في الداخل السوري في مرحلة ما بعد الحرب. هذان الفاعلان هما روسيا وإيران.
خلال الأزمة السورية، قامت طهران بإرسال العديد من الميليشيات لمساعدة النظام السوري على البقاء. كان عدد هذه القوات يُقدّر بالآلاف، وكانت مهامها محصورة على الأرض. ومن جهة أخرى، ساعدت روسيا النظام السوري على البقاء من خلال الدعم الجوي الحيوي الذي كان له الأثر الأكبر في مسار الأزمة السورية؛ ذلك لأن إيران لم تكن لها قواتٌ جوية داخل سوريا.
وبدأت العلاقة بين الطرفين (موسكو وطهران) تتوتر شيئًا فشيئًا منذ بدء استقرار الأوضاع أكثر في سوريا خلال السنوات القليلة الماضية، خاصة منذ بدايات العام الماضي الذي شهد هزيمة تنظيم “داعش” الإرهابي بعد القضاء على آخر جيب له شرقي سوريا. ومنذ ذلك الحين، شهدت العلاقات الروسية-الإيرانية في سوريا تنافسًا أكثر منه تعاونًا كما كان منذ سنوات في أوج الأزمة السورية. تطور هذا التنافس ليصبح صراعًا عسكريًّا محدودًا بين وحدات تابعة للطرفين على الأراضي السورية.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الواقع يقول إن النفوذ الإيراني في سوريا ليس كما كان منذ سنوات، وهو ما أزعج طهران كثيرًا. ولذا، يحاول النظام الإيراني مؤخرًا استعادة حضوره بكثافة على الأراضي السورية، وكذلك الحصول على نصيب معتبر في المشروعات التنموية المستقبلية داخل سوريا في مرحلة ما بعد الحرب، وهو ما قاد إلى بروز خلافات مع موسكو.
ونحاول فيما يلي التطرق إلى أبرز الطرق التي تتبعها طهران لمحاولة الضغط على موسكو من أجل العودة بقوة للملف السوري، والمشاركة بشكل بارز في مستقبل هذا البلد اقتصاديًّا وسياسيًّا.
1- مصادر التوتر الروسي-الإيراني في سوريا
بدأت مظاهر وشواهد هذا التوتر خلال عام 2018 حينما صار واضحًا أن القضاء على تنظيم “داعش” بشكل نهائي في سوريا مسألة وقت. عندئذ، بدأت خطط إعادة الإعمار الاقتصادي تظهر إلى العلن. كما تأكد الطرفان من ضرورة تعزيز التواجد العسكري شرق البحر المتوسط لأهمية ذلك استراتيجيًّا.
أ- العوامل الاقتصادية
سعى الطرفان -ولا يزالان- إلى الحصول على النسبة الأكبر من المشروعات الاقتصادية في مرحلة إعادة الإعمار داخل سوريا؛ ذلك لأن هذه المشروعات سوف تعمل على تقوية اقتصاد البلد الحائز لها من خلال إيجاد سوق كبيرة وواسعة كالسوق السورية. وهنا، تبرز على السطح أهمية مشروعات البناء والتعمير والبنى التحتية، وإزالة مخلفات الدمار الهائل الذي نشأ خلال فترة الحرب كأهم المشروعات الأولية في مرحلة إعادة الإعمار داخل سوريا؛ نظرًا للعدد الهائل من المنازل والمنشآت التي هدمت في سوريا خلال سنوات الحرب.
في هذا السياق، أكد وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف”، في شهر ديسمبر 2018، أن إعادة الإعمار الروسية في سوريا تستهدف الجوانب الإنسانية، وناشد الدول الغربية بدء الاستثمار في سوريا.([1]) وعبّرت العديد من الشركات الروسية عن رغبتها في دخول السوق السورية، ومنها شركة “روستيخ” التي قال مديرها العام “سيرجي تشيميزيف” خلال معرض “آيديكس-2019” في الإمارات العربية المتحدة إن شركته والشركات التابعة لها تملك صلاحيات تنفيذ مشاريع البنى التحتية في سوريا، وإنها “مستعدة لتزويدها بالمعدات والآلات اللازمة”.([2])
إلى جانب عمليات البناء، تعمل روسيا على المشاركة في مجالات أخرى كالاتصالات، والنفط والثروة المعدنية، والأدوات الكهربائية والمنتجات الكيماوية. وعلى مختلف الأصعدة وأنواع المشاريع الاقتصادية داخل سوريا، يمكن القول إن استثمار الشركات الروسية في سوريا في مشروعات إعادة الإعمار سيساهم كثيرًا في نمو الاقتصاد الروسي مستقبلًا، وتعزيز الحضور الروسي من خلال الروابط والعلاقات الاقتصادية المتجذرة بين الجانبين.
الأمر ذاته بالنسبة لإيران، فقد سارعت هي الأخرى منذ عام 2018 إلى الدخول بقوة إلى سوق إعادة الإعمار السوري؛ وأعلن آنذاك وزير الطرق وبناء المدن الإيراني “محمد إسلامي”، عقد لجنة مشتركة بين طهران ودمشق لبحث جهود إعادة الإعمار والبنى التحتية.([3]) وحاولت طهران بشكل كبير المشاركة في معارض إعمار سوريا التي بدأت في عام 2015. وحاولت الدخول كذلك في مختلف مجالات إعادة الإعمار، وعلى رأسها عمليات البناء والتعمير، كما سعت من خلال ذلك إلى إرسال رسالة مفادها أنها بهذه المشاركة لا تريد الخروج من سوريا، وتريد الحفاظ على نصيبها في عمليات إعادة الإعمار.
ويمكن إرجاع الإصرار القويّ لدى طهران على المشاركة في مشاريع إعادة البناء في سوريا بأنها تمثل لها منفذًا جيدًا للغاية من الناحية الاقتصادية، خاصة في ظل العقوبات الأمريكية، وما تبعها من تدهور الأوضاع الاقتصادية الداخلية. كما ترغب إيران من وراء ذلك في تعميق أنشطتها وعلاقاتها داخل الدولة والمجتمع السوري مستقبليًّا. فإذا استطاعت إيران إيجاد منفذ اقتصادي ثانٍ لها بعد السوق العراقية، فإن ذلك سوف يُخفف من وطأة العقوبات الخارجية عليها.
ب- العوامل السياسية
تحتل سوريا موقعًا استراتيجيًّا مهمًّا في منطقة الشرق الأوسط وشرق البحر المتوسط. بالنسبة لإيران وحساباتها الإقليمية والدولية، تُعد سوريا ذات موقع جغرافي مهم يربط ما بين إسرائيل ولبنان، بالإضافة إلى العراق، حيث لا يمكن لإيران الاستمرار في تمويل “حزب الله” اللبناني، ذراعها العسكرية الأهم المحاذية لإسرائيل، من دون المرور بسوريا. وإلى جانب ذلك، يُعد النظام السوري أحد أهم حلفاء نظيره الإيراني في العالم. ويستخدم النظام الإيراني قضية الصراع العربي الإسرائيلي ونفوذه في سوريا ولبنان كورقة ضغط في أي مفاوضات سياسية خارجية مع الولايات المتحدة أو غيرها من القوى الكبرى.
هذه الحسابات الإيرانية دفعت بها للدخول بقوة في محاولة إنقاذ الوضع في سوريا منذ الاضطرابات التي بدأت عام 2011. ومؤخرًا، وبعد بدء استقرار الأوضاع بشكل أكبر بعد القضاء على تنظيم “داعش” الإرهابي، تحاول طهران تثبيت أقدامها عسكريًّا بشكل دائم على الأراضي السورية؛ وذلك حفاظًا على مصالحها في المنطقة، وكذلك رغبة منها في الحصول على مقابل نظير ما قدمته للنظام السوري على مدار السنوات الماضية. ومن ثم، تحاول إيران بسط نفوذها بشكل عام، سواء العسكري أو السياسي، وهو ما يتعارض ضمنيًّا مع المصالح الروسية.
بالنسبة لروسيا، تشكل سوريا موقعًا ذا أهمية كبيرة؛ لوقوعها على البحر المتوسط، أو ما يُسمى “المياه الدافئة”. فروسيا كدولة ذات أهمية عسكرية وسياسية كبيرة على المسرح الدولي، يهمها كثيرًا الوصول إلى المياه الدافئة شرق البحر المتوسط مثلما تسعى باقي القوى الكبرى. ولذا، فإن موسكو تريد ضمان استمرار حضورها العسكري شرق المتوسط عن طريق الحفاظ على قواعدها العسكرية داخل سوريا وتطوير هذه القواعد.
استنادًا إلى هذه الحقائق، ترى روسيا أن الحضور العسكري أو السياسي الإيراني المُكثّف على الأراضي السورية يعد خطرًا، وترى في إيران قوة منافسة لها. كما أنها ترى بلا شك أن استمرار الميليشيات الإيرانية في سوريا هو أمرٌ يهدد الاستقرار والنمو في ذلك البلد، فضلًا عن تهديده بشكل واضح لمستقبل الاستثمارات الروسية أو غيرها داخل سوريا. وكان هذا الحضور الإيراني هو أحد أسباب رفض بعض الشركات الأوروبية الاستثمار في عملية إعادة البناء السورية.
2- الضغوط الإيرانية على روسيا
منذ بدء استقرار الأوضاع في سوريا، شهد النفوذ والحضور الإيراني داخل سوريا تراجعًا ملحوظًا على الجانب العسكري والسياسي، وإن لم يكن كبيرًا. دفعت عوامل أخرى إلى بروز هذا المشهد الجديد، كان من بينها العقوبات الأمريكية على النظام الإيراني التي تسببت بدورها في تضاؤل القدرة المالية والمادية للنظام على دعم حليفه السوري. أضف إلى ذلك تفشي فيروس (كوفيد-19) الذي أثّر ماليًّا ولوجستيًّا على دعم طهران لدمشق.
في هذا السياق، بدأ التوتر الروسي الإيراني يتخطّى الحدود السورية إلى الخارج من خلال محاولة طهران دعم دول تختلف معها روسيا في كثيرٍ من المسائل والقضايا الدولية. من بين هذه الدول تركيا التي تختلف معها روسيا في عدد من الملفات، من بينها الملفان السوري والليبي اللذان تقوم أنقرة فيهما بدعم الجماعات الإرهابية لزعزعة الأمن والاستقرار المحلي؛ تحقيقًا لعدد من الأهداف، من بينها السيطرة على النفط المحلي في هذه الدول. وتسعى أنقرة إلى إعادة إنتاج نفس دورها في سوريا في الحالة الليبية، من خلال دعمها للميليشيات الإرهابية، وجلب عناصر مرتزقة إليها من دول مختلفة وعلى رأسها سوريا.
وتقوم إيران بدعم الميليشيات في الغرب الليبي. وجاء ذلك بعد سلسلة من الاجتماعات مع مسئولين أتراك، توصل خلالها الطرفان إلى التوافق على دعم هذه الميليشيات ومناكفة الدور الروسي داخل ليبيا. وكان من أبرز مظاهر التنسيق بين إيران وتركيا، الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني “محمد جواد ظريف”، إلى أنقرة في يونيو الماضي. وقد سعى وزير الخارجية الإيراني خلال اللقاء إلى التأكيد على ما وصفه بـ”وجود رؤية إيرانية تركية مشتركة حول ليبيا”. وعلى الرغم من أن مصالح إيران في ليبيا ليست حيوية كما هي عليه في سوريا؛ إلا أنها تهدف من وراء ذلك إلى التفاوض مستقبلًا مع روسيا؛ كي تسمح لها الأخيرة بدورٍ أكبرَ في مستقبل سوريا كما كان يتوقع الإيرانيون.
وكتب “ظريف” لاحقًا على تويتر بشأن هذا اللقاء قائلًا: “أجرينا محادثات بناءة مع تشاووش أوغلو وعلى مستوى الوفود في إسطنبول. وتبادلنا وجهات النظر حول التعاون الثنائي وقضايا إقليمية ودولية، واتخذنا قرارات مثمرة”. وقد أتْبَع الوزير الإيراني حديثَه بالربط بين ليبيا وسوريا في علاقات بلاده بموسكو، قائلًا إن “المحطة التالية ستكون موسكو، فجيراننا دائمًا لهم أولوية بالنسبة لنا”، مشيرًا إلى أنه سيجري عقد قمة ثلاثية بين روسيا وإيران وتركيا “لتحديد مستقبل سوريا”.([4])
إيران تحاول من خلال التقارب مع تركيا في الأزمة الليبية إرسال رسالة إلى موسكو مفادُها أنها ترغب في تعزيز دورها المستقبلي على الأراضي السورية، وأنها يمكن أن تتعاون مع معارضيها في سبيل تحقيق هذا الهدف. ومن بين الأسباب التي يمكن تفسيرُها بشأن دعم طهران لحكومة الوفاق التي تستند إلى الميليشيات الموالية لأنقرة هو محاولة طهران إظهار تقارب ولو بسيط مع تركيا نظير تسهيل الأخيرة عمليات التهريب الإيرانية والالتفاف حول العقوبات الدولية المفروضة على النظام الإيراني.
***
طهران لن تغامر بالدخول بثقلها في قضية ليست لها مصالح كبرى بها، فهي فقط ترغب في استثمار الأوضاع في ليبيا لصالحها على المستوى الإقليمي. كما أنه ليس من المتوقع أن تدخل إيران في علاقات صدام كاملة مع روسيا لمصلحة تركيا، ذلك أن العلاقات بين طهران وموسكو هي علاقات ذات طابع استراتيجي أكثر من كونها علاقات ذات طبيعة مرحلية. ومن ثم، فإنه في الوقت الذي يمكن التأكيد فيه على أن النفوذ الإيراني في سوريا لا يزال حاضرًا على الرغم من كل ذلك، إلا أنه ليس كما كان عليه قبل سنوات. فمن المؤكد أن استمرار ميليشيات إيرانية مسلحة على الأراضي السورية أمرٌ لن تقبل به موسكو؛ لأنه يتعارض مع أهدافها المستقبلية داخل سوريا. وبرغم ذلك، من الوارد حدوث توافقات روسية-إيرانية داخل سوريا، إلا أنه لن يحيد عن الإطار العام الذي حددته موسكو لمستقبل سوريا. كما أن إيران لا تريد أبدًا خسارة الحليف الروسي القوي.
المصدر : المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية