تركز وسائل الإعلام الإثيوبية، عند تناول أزمة سد النهضة مع كل من مصر والسودان، على إبراز وحدة موقف جميع القوميات الإثيوبية ودعمها لفكرة إنشاء السد، مع أن ذلك يعد مغالطة للواقع، في ظل وجود العديد من الأطراف الرافضة لبناء السد.
وتبدو هناك صعوبة منهاجية كبيرة في تتبع هذه الأصوات المنتشرة منذ عام 2011 نتيجة ثلاثة عوامل؛ أولها: أن العديد من هذه الأصوات، خاصة من المقيمين داخل إثيوبيا لا المهجر، تعبر عن موقفها بالأمهرية أو غيرها من اللغات الإثيوبية المتعددة. وثانيها: أن الحكومات الإثيوبية المتعاقبة دأبت على السيطرة المطلقة على وسائل الإعلام عبر أدوات متنوعة. وثالثها: أن نسبة الإثيوبيين المتصلين بشبكة الإنترنت تبلغ 18% وفق بيانات البنك الدولي، فضلًا عن انتهاج حكومة “آبي أحمد” ومن قبله “ديسالين” سياسة قطع الإنترنت المتكرر عن عموم البلاد في أوقات اشتداد الاضطرابات السياسية.
أمام هذه الصعوبات المتعددة، تجدر الإشارة إلى أن الذي يعنينا هنا بالأساس هو تتبع مضمون الانتقادات الإثيوبية لسد النهضة، وليس البت في نسبة المؤيدين للمشروع أو المعارضين له، وهي مهمة تبدو شديدة الصعوبة في دولة لم تتمكن من إجراء التعداد السكاني لأكثر من ثلاثة عشر عامًا، ناهيك عن إجراء استطلاعات رأي يمكن الاعتماد عليها، في ظل الانقسامات اللغوية والثقافية العميقة، التي تعزز الانقسامات السياسية الحادة القائمة بالفعل.
هذه الانتقادات الإثيوبية المهمة، وبغض النظر عن حجم تأييدها شعبيًّا، تمثل دليلًا كافيًا على المغالطات الكبرى التي يتضمنها الخطاب الإعلامي الإثيوبي بشأن سد النهضة باعتباره “مشروعًا قوميًّا” يحظى بإجماع كافة الإثيوبيين على جدواه، وعلى طريقة تنفيذه، وعلى تكلفته المالية المباشرة، فضلًا عن تكلفته غير المباشرة بما قد يتسبب فيه من إدخال إثيوبيا في عداء مع مصر والسودان.
أولًا- انتقادات المجتمع المحلي بالمنطقة التي يقع فيها السد:
يقع السد في منطقة بني شنقول. وقد أُنشئت هذه المنطقة بعد وضع دستور سنة 1995. وكانت بالماضي تسمى المنطقة السادسة، وعاصمتها أسوسا. وتفتقر هذه المنطقة إلى وسائل النقل والبنية التحتية للاتصالات، وتواجه تحديات كبيرة على رأسها الافتقار إلى التنمية الاقتصادية. وتشمل الجماعات العرقية في بني شنقول “برتا” بنسبة 25.9%، و”جوموز” بنسبة 21.11%”، و”أمهرا بنسبة 21.25%”، وأورومو بنسبة “13.32%”، و”شيناشا” بنسبة 7.59%”، و”ماو” بنسبة 1.9%. وتتوزع المجموعات العرقية دينيًّا بواقع 45.4% مسلمين، 33% مسيحيين أرثوذكس، 13.5% مسيحيين بروتستانت، و7.1% يدينون بالديانات الإفريقية المحلية. وترفض هذه المجموعات إقامة سد النهضة في منطقتهم لأن عملية الإنشاء تسببت في مصادرة أراضيهم الزراعية، وتهجيرهم قسريًّا، من دون تعويضات، وتسببت لهم هذه الهجرة في فقدان مهنة الزراعة التي تعتبر مصدرهم الوحيد.
وفي نوفمبر 2012، أعلنت حركة تحرير بني شنقول رفضها مساعي الحكومة الإثيوبية لإقامة سد النهضة في إقليمها، ووصفت المشروع بأنه استنزاف لثروات الإقليم المختلفة التي لا يستفيد منها شعوب الإقليم، مشيرة إلى أن إقامة المشروع سوف تؤدي إلى تهجير ما يقرب من 50 ألفًا من السكان المحليين في المنطقة المحيطة بموقع الإنشاءات. وفي 9 مايو 2014، شنت الحركة الشعبية لتحرير بني شنقول هجومًا مسلحًا أسفر عن مقتل تسعة جنود إثيوبيين. وقد أعلنت الجبهة مسئوليتها عن الهجوم، وقالت إنها تقاوم ما وصفته بالاحتلال الإثيوبي للإقليم. وأعلنت الحركة معارضتها لسد النهضة، الذي قالت عنه إنه سوف يدمر مقدرات الإقليم.
هذه الانتقادات المتصاعدة إلى الآن تجد شواهد مؤكدة لها في العديد من المصادر. على سبيل المثال، نشر حساب Free Benishangul على موقع تويتر عددًا من التغريدات المهاجمة للسد، من بينها ما كان نصه:
– “ما يتناقض مع المنطق الأساسي هو كيف يتم بناء السد على أرض محتلة”.
– “دعونا نطلب من شعب بني شنقول أن يقرروا ما إذا كانوا إثيوبيين أو سودانيين، وسنرى بعد ذلك”.
– “تطالب قومية بني شنقول بالتوقف عن إنشاء الهياكل المبنية في أرض لا تملكونها، أوقفوا التطهير العرقي لبني شنقول”.
– “حركة تحرير بني شنقول تستنكر استهداف الحكومة الإثيوبية لمواطنيها في بني شنقول، في القرن الماضي استعبدت إثيوبيا شعب بني شنقول، الآن تقتل وتشردهم وتعذبهم للبناء على عظامهم سد النهضة، ونطالب بحق تقرير المصير”.
– “أدت الانتقادات الموجهة للسد إلى اعتقال “عبدالسلام شنجلنا” رئيس حركة بني شنقول الشعبية، ورئيس حركة جوموز الشعبية الديمقراطية، “جرانج جوديتا”، في منزليهما في في مدينة أسوسا عاصمة الإقليم”.
وبعد بدء عملية ملء السد في 22 من يوليو 2020، وأثناء سير المفاوضات بين الدول الثلاث (مصر، السودان، وإثيوبيا)، قال الحساب نفسه إنه “لا يحق لإثيوبيا أن تفعل أي شيء في الأراضي المحتلة في بني شنقول، ولا يحق لآبي أحمد، أن يبني أي شيء حتى يحصل شعب بني شنقول على حق تقرير المصير، أوقفوا التطهير العرقي باسم سدكم”.
كما نشر حساب al khanaqy المؤيد لمطالب الاستقلال في بني شنقول تغريدة تنص على أنه “إذا كانت إثيوبيا ترفض اتفاقية الحدود الاستعمارية، واتفاقات المياه الاستعمارية التي اتفقت عليها جميع اتفاقيات 1902، فقد حان الوقت لمغادرة أراضي بني شنقول”. كما أضاف الحساب نفسه أنه “يتم طردنا من أرضنا دون تعويض، أُلقي القبض على رئيس حركة. وتم قتل 80 شخصًا في احتجاجات ضد مصادرة الأراضي في بني شنقول”.
فيما نشر حساب ثالث تابع لإحدى الناشطات من قومية بني شنقول: “عذرًا لعدم الاحتفال بالسد، لأننا لسنا متميزين نعيش في المناطق الحضرية، نحن منشغلون بالقلق بشأن طمس هوياتنا، ومعتقداتنا وطريقة تواجدنا بأكملها في عمليات القتل الجماعي لحكومتك”.
ثانيًا- انتقادات الفساد وسوء إدارة ملف سد النهضة:
بصورة عامة، تعددت الانتقادات التي وجهها الإثيوبيون لحكوماتهم المتعاقبة عمومًا ولحكومة “آبي أحمد” خصوصًا، بشأن سوء إدارة ملف سد النهضة على المستويين الإنشائي والتفاوضي، فضلًا عن الفساد الكبير الذي اعترى عملية إدارة هذا الملف منذ عام 2011.
فقد نشر حساب Ethiopia2day باللغة الإنجليزية، مستندًا يتهم فيه رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” بتعيين شقيق زوجته الدكتور” اليماييهو جبريماريام” Alemayehu G. Mariam لرئاسة صندوق الائتمان الإثيوبي لدعم السد. واعتبرت الصفحة هذا القرار يحمل مفارقة كبيرة، حيث كان “جبريماريام” من أشد معارضي مشروع سد النهضة الإثيوبي منذ البداية، كجزء من معارضته الشرسة لجبهة تحرير تيجراي وقت سيطرتها على مقاليد الحكم في البلاد، إلا أنه تحول لأكبر داعمي السد، قبل أن يكلفه “آبي أحمد” بحشد الدعم المالي له.
وقد عارضت العديد من الأصوات الإثيوبية النهج الذي تنتهجه الحكومة في مفاوضات التسوية مع مصر والسودان، حيث اعتبر “البعض أن الحل الخاص بالنزاع حول مياه النيل الأزرق بين مصر وإثيوبيا لن يكون إلا من خلال تشجيع وتسهيل الاستثمارات الخاصة بين الدولتين، والمساهمة في توليد الطاقة في إثيوبيا للقضاء على النقص الحالي، مما يسمح بملء سد النهضة ببطء شديد.
وأوضح الناشط السياسي “جبرهويت” Gebrehiwot Belay أن “آبي أحمد” رئيس الوزراء الإثيوبي يستخدم الحملة الدعائية التي حملت شعار It’s My Dam للتغطية على فشله، ولتحقيق تطلعاته لأن يصبح الملك السابع لإثيوبيا. متسائلًا عما يجب أن يهتم به “آبي أحمد” في المقام الأول: نهر النيل، أم إنقاذ البلاد من التفكك؟
كما اعتبر حساب أبراهام أسفا Abraham Asefa أن “المشكلة الأساسية هي أن رئيس الوزراء هو طفل ونبي في آن واحد، فبعد 27 سنة مظلمة، من نهب وفساد في عملية بناء السد يأتي العبث بقضية السد والذهاب إلى مفاوضات برعاية الولايات المتحدة الأمريكية والبنك الدولي لإنتاج ضجيج للتستر على فوضى قادمة، تسمح بتمديد الانتخابات إلى أجل غير مسمى، لتنتهي في نهاية المطاف بالفوضى وللاستيلاء على السلطة.
وفي تغريدة له كتب البروفسير موسيه تيجيني Prof. Muse Tegegne على حسابه أن “مشروع سد النهضة الإثيوبي يشوبه الفساد والعجز في الكارثة الإجمالية”. كما اعتبر حساب Ztseat Save Adna, MD، أن معظم الإثيوبيين الذين يتنازلون يشاركون على الهاشتاج It’s my dam وFILLTHE DAM هم نفس الأشخاص الذين كانوا ضد السد منذ عامين، وزعم بعضهم آنذاك أن السد كان يهدف إلى إيذاء مصر، وليس فيه امتيازات لإثيوبيا. في إشارة للتسييس المفرط لقضية السد من جانب الحكومات الإثيوبية المتعاقبة.
كما أشار الناشط في المجتمع المدني “أفريم ماديبو” Ephrem Madebo في حسابه إلى اعتقاده بأن المشروع المخطط لانتهائه منذ خمس سنوات، لم يكتمل حتى بنسبة 80٪، وهو لا شيء سوى لأنه تم استخدام مشروع سد النهضة كبقرة حلوب لجبهة تحرير تيجراي.
وأوضح الباحث السياسي “رشيد عبدي” Rashid Abdi، أن اجتماع القادة الأفارقة بشأن سد النهضة، لم يغير أي شيء لأن “الاختراق الذى تم” مضلل تمامًا، مشيرًا لاستخدام المشروع في الوقت الحالي من قبل جماعة الأمهرا لاستعادة السيطرة على مقاليد الثروة والسلطة في البلاد على حساب الجماعات الأخرى وفي مقدمتها جماعة أورومو.
كما أشار الناشط السياسي “زيجا راس-ورك” Zega Ras-Work إلى أنه “يمكن أن يكون للسد ذي البناء السيئ بهذا الحجم عواقب اقتصادية وبيئية وإنسانية كارثية، أعتقد أنه إذا وافقت مصر واثيوبيا للعمل معًا، في بناء السد، بمساعدة المجتمع الدولي، فإن المشروع سوف يحقق عوائد إيجابية”.
وفي النهاية، تظهر هذه الآراء الإثيوبية لتؤكد حقيقتين أساسيتين يتعين الانتباه لهما جيدًا في الوضع الراهن بتعقيداته الكبيرة.
أولهما، أن زعم الحكومة الإثيوبية بأن مشروع السد هو مشروع قومي يحظى بدعم كل الإثيوبيين ولا يمكن المساس به، هو مجرد جزء من خطاب إعلامي مضلل تتبناه حكومة “آبي أحمد” منذ خطاب تنصيبه في أبريل 2018، وهو الخطاب الذي يجافي الواقع بصورة تامة.
الحقيقة الثانية، تتمثل في وجود العديد من الأصوات الإثيوبية المنصفة والعاقلة التي يمكن التوصل معها لاتفاق بناء ومستدام بشأن الإدارة المشتركة لمياه النيل الأزرق بما يحقق نفع مصر والسودان وإثيوبيا، ويجنب شعوب الدول الثلاث والإقليم بأسره صراعًا محتملًا قد يفجره النهج غير المسئول للحكومة الإثيوبية.