قدم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وعداً غريباً بأن “المسيحية ستحظى بالسلطة أخيراً” وكان ذلك قبل فوزه في الانتخابات عام 2016، وأصبحت قاعدته الانتخابية الرئيسية هم الإنجيليين البيض، والآن بعد أربع سنوات، تبدو تلك العلاقة بين الطرفين محيرة للمراقبين، فما سر الحيرة؟ وهل تنجح تلك العلاقة مرة أخرى؟
صحيفة The New York Times الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: “المسيحية ستحظى بالسلطة”، رصد طبيعة العلاقة بين الرئيس دونالد ترامب وقاعدته الانتخابية من المسيحيين الإنجيليين والتناقضات التي تتسم بها تلك العلاقة.
وعد ترامب بتحرير المسيحية
سار الناس إلى الكنيسة في السكون المتجمد قبل طلوع الشمس، وخطوات أقدامهم تسحق الثلج. بعدها بدأ المئات ينضمون لهم. كان ذلك في يناير/كانون الثاني 2016، وكان دونالد ترامب، المرشح الجهوري غير المرجح للصدارة، قد قدم إلى البلدة.
كان هو نجم برنامج تلفزيون الواقع “The Apprentice” المتباهي سليط اللسان والمتزوج ثلاث مرات. وكانوا هم من أكثر المجتمعات المسيحية المحافظة في البلاد، في بلدة تحتوي على 19 كنيسة ويبلغ تعدادها حوالي 7,500 شخص.
كان الكثير منهم متشككين، وأتوا ليشهدوا الحدث بأنفسهم، بينما وقف البعض في احتجاج صامت. لكن عندما فُتحت الأبواب وامتلأت المقاعد، رحب جماهير ترامب به هاتفين باسمه. ولوح رجل بلافتة عليها “الغالبية الصامتة تدعم ترامب”، ورفعت امرأة إصبعها المطلي بالأصباغ إلى السماء.
وقف ترامب أمام آلة الأرغن ذو الأنابيب الثلاثية، مرتدياً بذلة داكنة ورابطة عنق حمراء، ولوح بذراعيه بالتزامن مع صياح الجمهور: ترامب، ترامب، ترامب، وصار الخطاب الذي ألقاه ترامب ذلك اليوم في جامعة دوردت المسيحية، والذي استمر 67 دقيقة، مشيناً، وغطته قنوات الأخبار على الفور ولا يزال نقاده يستشهدون به إلى يومنا هذا. لكن المقولة التي اكتسبت سمعة سيئة -وعده بأن بإمكانه أن يقف في وسط فيفث أفنيو ويُطلق النار على شخصٍ ما دون أن يخسر صوت ناخب واحد- غطت على رسالة أخرى قالها ذلك الصباح.
“سأخبركم بشيء، المسيحية واقعة تحت حصار هائل، سواء أردنا التحدث عن الأمر أم لم نرد”، وأضاف أن المسيحيين يمثلون الغالبية العظمى في البلاد، ثم تمهل قليلاً ليشدد على الكلمات التالية: “ونحن لا نتمتع بالنفوذ الذي نستحقه”.
وعد ترامب بأن يتغير ذلك إذا انتُخب رئيساً، ورفع إصبعه محذراً: “ستكون السلطة للمسيحية. إذا صرتُ رئيساً، فستتمتعون بقدر كبير من النفوذ، لا تحتاجون لأي شخص آخر. سيكون لديكم من يمثلكم تماماً. تذكروا ذلك”.
لماذا تبدو العلاقة محيرة؟
بالنسبة للمراقب الخارجي، تبدو العلاقة بين المسيحيين الإنجيليين ودونالد ترامب محيرة، وبدت هذه العلاقة منذ البداية تناقضاً مستحيلاً، إذ لسنواتٍ اعتبر الإنجيليون أنفسهم ناخبين للقيم، أشخاص يقدرون الإنجيل والأخلاق الجنسية -وحب جيرانهم بقدر حبهم لأنفسهم- فوق كل شيء.
بينما كان ترامب نقيض ذلك؛ إذ تباهى بالاعتداء على النساء، وبالطلاق مرتين، وبنى حياته المهنية من القمار، وتملق المتعصبين وتودد لهم. ونادراً ما ذهب إلى الكنيسة، ورفض أن يطلب المغفرة.
ودام هذا التناقض 4 سنوات، وقد دعموه عندما أغلق الباب أمام اللاجئين المسلمين، وعندما فرق بين الأطفال وآبائهم على الحدود، وعندما أطلق الشتائم المخجلة على وسائل التواصل الاجتماعي. وعندما تلفظ بالمغالطات وكأنها حقائق، وعندما عزل من منصبه.
لم يدعم الإنجيليون ترامب على الرغم مما هو عليه، بل دعموه بسبب ذلك، وبسبب ما هم عليه؛ إنه حاميهم؛ المتنمر الذي يقف في صفهم، الرجل الذي عرض عليهم الأمان في خضم خوفهم من تغير بلادهم كما يعرفونها سريعاً وعلى وضعهم فيها. إذ لم يعد الأزواج البيض ذوي الأطفال، والذين يترددون على الكنيسة بانتظام، هم النمط السائد في أمريكا. كان أسلوب عيشهم هذا، والذي سادت فيه قيمهم، مهدداً بالانقراض، وقد عرض ترامب أن يعيدهم إلى السلطة، وكأنها لم تكن لهم طوال الوقت.
“لقد بدأنا كبلد مسيحي”
يعمل دريسن في شركة مرافق، وتعمل زوجته ممرضة، وقد ربيا معاً 5 أطفال في المنطقة التي ترعرعا فيها. وكان أجداد جدة دريسن من بين أوائل المهاجرين البروتستانت الذين جاؤوا من هولندا إلى ولاية آيوا في أواخر القرن التاسع عشر. وقد كانوا من بين مئات العائلات التي بحثت عن فرص اقتصادية، ومكان للعبادة دون تدخل الحكومة الهولندية. وأطلق المهاجرون على مستوطنتهم الأولى اسم بيلا Pella، تيمناً بالمكان الذي لجأ إليه مسيحيو القرن الأول هرباً من الاضطهاد. ثم بُنيت مستوطنتهم الثانية، والتي شملت مدينة سيوكس سنتر، على أرضٍ كانت موطناً لقبيلة وينكتون سيوكس، قبل أن تجبرهم حكومة الولايات المتحدة على الانتقال غرباً.
لا تزال الكنيسة هي ما يربط هذا المجتمع ببعضه. وكان دريسن قبل الخطاب بيوم، قد ذهب إلى قداس يوم الأحد صباحاً ومساءً. وكانوا قد فصلوا جهاز توجيه الإنترنت وأغلقوا هواتفهم، وجلسوا يقرأون الإنجيل. تتسم سيوكس سنتر بالهدوء أيام الأحد، حيث فيها عدّ الأماكن المفتوحة -بيتزا هت وكولفير ووالمرت- عن الأماكن المغلقة.
وتحدث دريسن عن السياسات التي تهمه، وعن كل القضايا المحافظة المعتادة؛ الحكومة الصغيرة، ووضع حد للإجهاض، والقضاة الذين يشاركونه آراءه السياسية، و”العائلات التقليدية” كما دعاها، وقال: “لسوء الحظ زادت حالات الطلاق عما كان من قبل. وزادت العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج. أعتقد أن الأمر له أثر سلبي وخيم على العائلة. ما أراه هو أن الأطفال أفضل حالاً في بيت به أبوين؛ أب وأم”.
وجلست زوجته صامتة، تاركة له الحديث. كما أنها لم تذهب لحضور خطاب ترامب، إذ لم تكن شغوفة بالسياسة؛ الرجال هنا أجهر صوتاً من زوجاتهم في دعم الرئيس. لكنها بدأت تتكلم الآن.
قالت: “الجانب الديني شديد الأهمية بالنسبة لنا، بينما نرى حرياتنا الدينية تُسلب منا. يمكن أن تفقد عملك إذا كنت لا تؤمن بالمثلية الجنسية أو شيء من هذا القبيل، وهو جزء جوهري من إيماننا. لكنني أرى ترامب يدافع عن ذلك. وقد أصدر في الحقيقة قراراً تنفيذياً بإعادة وضع الإنجيل في المدارس العامة. حريتنا الدينية شيء عزيز علينا ويثير قلقنا كثيراً”.
وأوضحت: “حتى هذه اللحظة فهذا ما يجعلنا نرى ترامب شخصاً مهماً للحفاظ على تلك الحرية”، وتابعت: “الأمر أشبه بالتعصب العكسي. يقول الأشخاص المتحررون إننا متعصبون ضدهم، بينما تنعكس هذه العصبية إذا كنا عاجزين عن العيش في إطار إيماننا”.
“سيقهر جميع خصومنا”
في مساء يوم الخطاب، فتح سكوتن موقع يوتيوب -بعد أن أدخل أطفاله الثلاثة إلى أسرتهم- ليسمع الخطاب بنفسه، وبعد قليل بدأ ترامب يثير ضحكه؛ لقد هشم المرشح الإعلام تماماً. قال شيئاً عن إطلاق النار على رجل في فيث أفنيو. لكن أهم ما يتذكره سكوتن هو أنه دافع عن المسيحية.
قال: “هل هو رجل نزيه؟ بالطبع لا. لكن هل يدافع عن بعض قيمنا المسيحية؟ نعم”، ووافقه بعض رفاقه، حيث قال أحدهم: “لن أقول إنه مسيحي، لكنه على الأقل لا يهاجمنا”.
وسارت زوجة سكوتن مع عددٍ من الزوجات الأخريات. بدا لها أن البلاد بعد انتخاب براك أوباما تعرضت لتحول ثقافي. قالت: “كان التصريح بمسيحيتك أمر خطير. لأننا اعتُبرنا متعصبين وعنصريين؛ وُصمنا بالكراهية وبأننا السبب وراء كل الاستهزاء والمشكلات في أمريكا. ألق اللوم على المؤمنين البيض”.
وكانت سنوات حكم أوباما محيرة لها. قالت إنها سمعت شائعات عن إعطاء الحريات للمثليين الجنسيين والأقليات. لكنها شعرت أن حرياتها الخاصة تُسلب منها، وأنها هي من كان يتحول إلى أقليات.
قالت: “لا أحب ترامب. أعتقد أنه شخص مناسب لأمريكا كبلد، وأنه سيُعيد لنا حرياتنا بعد أن قضينا 8 أعوام، ما لم يكن أكثر، نراها تُسلب ببطء تحت ستار منح الحريات للجميع. صار الأمريكيون القوقازيون يتحولون إلى أقلية بسرعة”.
وأوضحت قائلة: “إذا كنت أمريكياً قوقازياً كادحاً، فحقوقك تكون محدودة لأنك تُعتبر مناهضاً للأعراق الأخرى أو للمرأة. ثمة أشخاص يرون أننا بسبب تمسكنا بالقيم المحافظة وتقديرنا للعائلة، أو لأني أقدر الخضوع لزوجي، فلا بد أنني أناهض حقوق المرأة”.
وعلا صوتها أكثر وهي تقول: “أرى أن الأمر يتطلب امرأة أقوى للخضوع للرجل من محاولة السيطرة عليه. وسأجادل في هذه النقطة حتى الموت”، وتابعت بحرية أكبر: “مايك بينس رجل رائع. وربما القياس شديد السوء، لكنني أقول إنه مثل زوجة داعمة خاضعة لترامب. إنه هو من يؤدي العمل الصعب، والزوج ينال المجد”.
كشفت حقبة ترامب الاندماج التام بين المسيحية الإنجيلية والسياسات المحافظة، حتى مع استمرار تراجع المسيحية الإنجيلية البيضاء كجزء من التعداد السكان الوطني. وهناك علامات دالة على قرب انهيار هذا التحالف بين بعض النساء والشباب الأصغر سناً. لكن حتى لو تحولت نسبة صغيرة بعيداً عن ترامب، فقد يصنعون فارقاً في إعادة انتخابه.
لكن حتى إذا خسر ترامب في نوفمبر/تشرين الثاني، فقد أوضحت المسيحية الإنجيلية السائدة أعمق دوافعها وكشفت لمن يتعهد غالبية المؤمنين بها بالولاء.