كثيراً ما تُقال كلمة “عملٌ مثير للجدل” على الأعمال الفنّية، من أجل لفت الانتباه
إليها، ولكن نحن هنا حقاً، وصدقاً، أمام مسلسل مُثير للجدل فعلاً، وخاصة أنّنا نحن العرب عامةً، والمسلمين خاصة، الفئة الموضوعة تحت المجهر فيه، والتي يفحصها بدقة صنّاع المسلسل، كاشفين ما بها من عيوبٍ وخفايا أمام العالم كله.
في هذا المقال سأقدّم لمحات مما شاهدته، بالمسلسل الأمريكي “رامي” Ramy، بدون حرقٍ للأحداث، ما عدا الفقرة الأخيرة، وإن كنت سألفت النظر إلى بعض تفاصيله قبل ذلك، استدلالاً على ما رأيت فيه من معانٍ.
فهذا المسلسل، الذي أُشيع عنه بكثرة أنّه يُسيء إلى الإسلام والمسلمين، كان مُنصفاً -في رأيي- لأفعالهم على أرض الواقع، وليس لما يتمنون أن يكونوا، أو يظهروا في أعين غير المسلمين، وهو ما سأوضّحه لاحقاً.
رامي (Ramy).. توليفة مُنتقاة من كل شيء
ربما يكون قد مرّ عليك المقطع المتداول على فيسبوك منذ فترة قريبة، لمشهد الممثل المصري عمرو واكد وهو يصطحب أنثى كلب إلى عيادة الحيوانات الأليفة، والذي يندهش حقاً، حينما تخبره الطبيبة بأنّها مُصابة بالاكتئاب، فحينها يسألها بتهكّم: ولماذا قد تُصاب بالاكتئاب؟ ألها جِراء صغيرة تقوم بإعالتها؟ أو هل تأخرّت في دفع فواتيرها؟ أو ربما قد تركت موطنها وأهلها لتطارد حلماً لا وجود له.
هذا المشهد الساخر، والبادي فيه نبرة إحباط مريرة يعود لإحدى الحلقات من الموسم الثاني من المسلسل الأمريكي “رامي”، الذي تم عرض الموسم الأول منه في عام 2018، والذي فاز بطله الأمريكي من أصول مصرية “رامي يوسف”، الذي يقوم بدور “رامي” أيضاً، بجائزة الغولدن غلوب لعام 2020، عن فئة أفضل ممثل لمسلسل كوميدي.
مقتطفات من حفل الغولدن غلوب وفوز رامي يوسف، وبضعة مشاهد من المسلسل
هو المشهد الذي يعطيك لمحة سريعة، ودقيقة في نفس الوقت، عن الطريقة التي يسير بها مسلسل “رامي”.
فنحن أمام مسلسل مُتعدد الجوانب، ومُتناقضها أيضاً، فهو ينتمي لنوعية الدراما، والكوميديا السوداء في نفس الوقت، به الكثير جداً من الكلام عن الجنس، وفي المقابل الكثير جداً من الكلام عن الدين، والقرب من الله.
يُناقش المسلسل قضية المُهاجرين من العرب المسلمين لأمريكا، وما يُواجهونه هناك من مصاعب وإغراءات، وهو ما يجعل هناك مقارنة دائمة بين العالمين، عالم أمريكا، وعالم المسلمين العرب.
صدمة الحلقة الأولى
سيكون المسلسل مُبهراً في الحلقات الأولى للمُشاهد العربي، فنحن نرى -للمرة الأولى أعتقد- مسلسلاً أمريكياً يحتوي بداخله على هذا الكم من المصداقية، فيما يخص الأجواء العربية، والموسيقى، والعادات والتقاليد المصرية، وتفاصيل العبادات الإسلامية، بخلاف الحديث “المصري جداً” الذي يتخلل كثيراً محادثات الأسرة التي تدور عادة باللغة الإنجليزية.
وسيمرّ بعض الوقت، حتى يعتاد المشاهد على الكوميديا الساخرة والذّكية، الواضحة في الجمل الحوارية، أو في المواقف غير المُفتعلة، والتي تجعلك تحتار أحياناً..
هل هو يسخر منك أنت فعلاً، كمُشاهد عربي مسلم؟
حتى تكتشف بعد فترة أنّ نبرة السخرية الموجودة بالمسلسل لم تترك أحداً ولا شيئاً تقريباً إلا طالته، فهذه هي السمة التي ميّزته بشدة، عن بقية الأعمال.
وقبل أن تشاهد الحلقة الأولى عليك أن تعرف أنّ المسلسل لا يُناسب المشاهدة العائلية، فهو يحتوي على جرعة كبيرة من الجنس، قولاً وفعلاً، وفيه من الأفكار ما سيصدم البعض، الذين يرفضون النقاش من الأساس، في أمورٍ حساسة كهذه، لذا وجب التنويه.
رامي المزدوج الهويّة
أظهر المسلسل بوضوح ماهية أزمة رامي منذ الحلقة الأولى، وهي الأزمة الشائعة بين المُهاجرين في غير موطنهم الأصلي، وبخاصة لو كانت الهوة شاسعة بين الدين والثقافة في كلا البلدين، وهي أزمة صراع الهوية.
فرامي شاب مصري مُسلم، يعتبر أمريكا وطنه الحقيقي الذي نشأ فيه، لذا فهو يحيا كأمريكي، ولكن بعقلية رجل شرقي تربّى على تعاليم الإسلام، والتي لم يُطبّقها بحذافيرها، فاختار منها ما يتحمل اتبّاعه، وتجاهل ما لا يقوى على فعله منها.
هذه الازدواجية تبدو واضحة جداً، حينما لا يُمانع رامي من ممارسة الزنا، ولكنه يتمسك بشدة، بكونه لا يقرب الخمر، فهو على حد قوله “حرام”.
هذا الصراع الذي يعيشه رامي، بين ما يؤمن به، وبين كل الإغراءات التي تحوطه، والتي يعتبرها جميع من حوله من غير المسلمين أمراً بديهياً، يجعله كالممزق، فتارة هو مسلم ملتزم يُجاهد نفسه، وتارة هو شاب أمريكي عابث.
الصورة الكلاسيكية للعربي المسلم
لم يُقدّم المسلسل، في رأيي، صورة كلاسيكية واحدة للرجل للمسلم، بل قدّم عدة شخصيات كانت لافتة للنظر جداً. فبخلاف شخصية رامي، كشاب تائهٍ بين الشرق والغرب، كانت هناك شخصية الخال نسيم، المرسومة بدقة مثيرة للإعجاب.
الخال نسيم هو الصورة الكلاسيكية للمسلم، كما يراه كل من يربطون -جهلاً- بين الإسلام والإرهاب. فهو المتعصّب لدينه ولجنسه، المُحتقر لليهود والمثليين، ولكنه في نفس الوقت، لا يُمانع من أن يتودّد إليهم ويُنافقهم، من أجل مصالحه الشخصية. وهو الرجل الذي لا يرى في المرأة سوى أنّها عورة يجب تغطيتها، ومتعة، عليه أن يستمتع بها، والذي لديه انطباع عام عنها بأنّها كتلة من الهرمونات، وهذه الهرمونات هي المُسيطرة على سلوكها بشكلٍ كامل.
نموذج آخر للثري العربي المسلم، تمثّل في الشيخ بن خالد الإماراتي، وهو الذي يبدو مُتديناً بشدة، فهو يتبرع بملايين الجنيهات للمؤسسات الخيرية، ولكنه بعد ذلك، يُساوم على دفع هذه النقود بشكلٍ صبياني. وهو الرجل الذي يُسارع للصلاة فور رفع الأذان، إلا أنّه يُكلّف مُساعده بأداء الصلاة نيابة عنه، بينما هو مُستلق على الأرض، والذي يقول إنّ هناك فتوى تُبيح ذلك. طبعاً هذا بخلاف ممارساته الجنسية، التي لا يقوم بفعلها، إلا بفتوى أيضاً.
لذلك كان الشيخ بن خالد نموذجاً للعرب المُدللين، فاحشي الثراء، الذين يظنّون أن بإمكانهم شراء كل شيء، وإخضاع البشر لكل نزواتهم السخيفة.
هل أساء مسلسل رامي للعرب والمسلمين حقاً؟
في رأيي، أنّ العمل المُسيء هو الذي يُقدّم صورة غير حقيقية عن شيءٍ ما، بهدف التشويه، أو هو الذي ينتقي كل ما هو سلبي عن هذا الشيء، ويقوم بإبرازه، ثم تعميمه، حتى ترى أنت كمشاهد، وكأنّ الصورة كلها سلبية بالفعل، ولا يوجد بها أي شيء إيجابي.
فهل فعل مسلسل رامي أياً من ذلك؟
حسناً، ربما فعل ذلك قليلاً في بعض الأحيان، فلا كوميديا بدون مبالغة على أية حال، ولكن على الجانب الآخر، ما أظهره رامي من سلوك كثير من المسلمين العرب، كان قادماً من قلب الواقع فعلاً.
ويُمكنني أن أتخيل الصدمة التي أصابت المُشاهد العربي، حينما رأى على الشاشة، خلال إحدى حلقات الموسم الثاني، نجمة الأفلام الإباحية ميا خليفة، وهي تقوم بدورها الحقيقي، وتخبر رامي عن كونها ممنوعة من دخول لبنان، والشرق الأوسط كاملاً، رغم أنّ “الدول الإسلامية” هي أكثر من يُشاهد أفلامها.
هذه الجملة تحديداً كانت السبب في ثورة الغضب التي لحقت بالمسلسل من مُشاهديه المسلمين، ولكن، أليس فيما قالته جزء -على الأقل- من الصحة؟
أنا لا أعرف الإحصائيات، ولكنّي أعلم جيداً عن ازدواجية الرجل الشرقي وتناقضاته بين ما يشتهيه، وما يحتقره في الوقت نفسه.
ما فعله رامي هو أنّه كشف عن غطاء الستر، الذي نُغطّي أخطاءنا به، وأظهره للعالم كله، لذلك كان الأمر بطبيعته مُخزياً بالنسبة لنا كمسلمين وعرب، ولكنّي لا أراه كاذباً أو مُسيئاً.
ففي إحدى الحلقات، تناول المسلسل ما تعرّضت له عائلة رامي كأسرة مُسلمة في أمريكا، من عنصرية وإهانة، بعد أحداث سبتمبر/أيلول 2001، وصوّر لنا كم كان ذلك مهيناً، وغير عادل.
وكما قدّم المسلسل نماذج سيئة للمسلمين كما ذكرنا عن الخال نسيم، والشيخ بن خالد، ونموذجاً وسطياً كرامي، إلّا أنّه قدم دوراً راقياً جداً لشيخٍ أمريكي مُسلمٍ، وجعله يُمثل صورة الإسلام الحقيقي، وهو الدور الذي قام به الممثل الأمريكي “ماهرشالا علي”، الذي كان بمثابة الأب الروحي لرامي.
ولا يُخفى على أحدٍ أنّ تناول المسلسل للتفرقة بين الممنوعات، لكل من الرجل والمرأة، جاء في محلّه تماماً. فمثلاً ظهر في المسلسل، أنّ الشاب المسلم في أمريكا، لا يُقيم علاقة مع البنت المسلمة، وهو ما يعني بالتبعية، أنّه يُقيم علاقة فقط مع غير المُسلمة.
حتى أنّ رامي نفسه ذكر بأنّه لم يُواعد فتيات مسلمات قط. وفي مشهدٍ آخر، بعدما يُقيم رامي علاقة مع امرأة أمريكية متزوجة، تشعر بالذنب تجاه زوجها فتبكي، وتخبر رامي بأنّهما ليسا بشخصين جيدين، فيُخبرها دفاعاً عن نفسه، وبتلقائية شديدة، بأنّه ليس هو الشخص المتزوج.
وفي مشهد عبثي آخر، تُضبط دينا أخت رامي، مع شاب في غرفتها، وهما على وشك ممارسة الجنس، وتصرخ الأم، ويُصدم الأب، ويكاد الخال الذي كان حاضراً، أن يضرب دينا، وإذا برامي يدخل الغرفة، ليخبرهم بأنّه سيخرج لمواعدة صديقته الحميمة، فنجد الأب والأم والخال يمازحونه، ويودوعونه مبتسمين، ويُخبره الأب بأنّه فخورٌ به، ويُذكّره باستخدام وسيلة حماية.
طبعاً هذا المشهد الصادم كان كابوساً، أفاقت دينا من نومها مذعورة بسببه، ولكنّي أراه رمزاً موفّقاً جداً، للتعبير عن تمييز الذكر في مجتمعاتنا العربية.
كانت هذه بعض الإيجابيات التي لاحظتها في المسلسل، وهناك الكثير مما لا يتسع المقال لذكره للأسف. ومما أعيب عليه فيه، هو استخدام الجنس بكثرة في القصة، وبلا داعٍ.
عن نفسي أحببت المسلسل منذ بدايته، حيث تتر موسيقى البداية لهاني شنودة، والمعروفة بموسيقى البرنامج الرياضي المصري “الكاميرا في الملعب”، والتي يظهر فيها اسم رامي المكتوب بالعربية، أصوات الأذان وإقامة الصلاة، صورة المسلم الحقّ، في الشيخ مالك، حينما قطع الصلاة من أجل إنقاذ كلب من الموت.. وغيرها الكثير..
في النهاية، أرى أن المسلسل تجربة لابُد أن تخوضها بنفسك، فلا يكفي أن تسمع عنها فحسب، لأنّ كل شخص حقيقة، سيراها بشكلٍ مختلف.