ظهر الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” أثناء إلقاء خطاب “حالة الاتحاد” في النصف الأول من فبراير الماضي مستعرضًا إنجازاته بطريقة تبرهن على ثقته التامة في الفوز بفترة رئاسية جديدة. إلا أن هذا المشهد الإيجابي الذي غلفته الإنجازات سرعان ما انقلب وانحدر في الاتجاه المضاد بطريقة أدت إلى ظهور العديد من المشكلات على الساحة الأمريكية، لا سيما مع تزايد وتيرة فيروس كورونا والتداعيات السلبية التي رافقته على كافة المستويات، بجانب تزايد نطاق الاضطرابات والاشتباكات التي بلورت أزمة العنصرية المتجذرة داخل الولايات المتحدة.
وعليه، اتجهت أغلب التحليلات وتعالت الأصوات المؤكدة على تراجع فرص الرئيس “ترامب” في الفوز بالانتخابات القادمة لصالح منافسه الديمقراطي “جو بايدن”؛ إلا أن الشهرين الجاري والمقبل يمثلان أخطر فترة في المشهد الانتخابي، ويعتبران بحق الأيام الحاسمة. الأمر الذي يُثير التساؤلات بشأن الملفات التي قد يستند إليها “ترامب” لتعزيز فرص فوزه في الانتخابات.
مشهد معقّد
تشهد الساحة الأمريكية حزمة متداخلة ومركبة من المشكلات بدأت مع بداية الانتشار الواسع لفيروس كورونا المستجد، ثم اتجهت إلى التعقيد مع اتساع نطاق التداعيات السلبية للجائحة، وكذا اتساع موجة الاحتجاجات والاضطرابات التي بدأت في أعقاب مقتل الأمريكي ذي الأصول الإفريقية “جورج فلويد”.
ضربت جائحة فيروس كورونا أغلب -إن لم يكن كل- دول العالم، إلا أن الولايات المتحدة باتت في صدارة الدول الأكثر تضررًا من الوباء. إذ اقتربت أعداد الإصابات من 7 ملايين إصابة، واقتربت أعداد الوفيات من 200 ألف حالة وفاة. ومن غير المرجح أن يتحسن الوضع قريبًا، إذ أوضح “أنتوني فاوتشي” -مدير المعهد الأمريكي للأمراض المعدية- أن “الوضع خطير، ويتعين التعامل معه بشكل فوري”.
وارتباطًا بذلك، تشهد الولايات المتحدة حالة من تردي الأوضاع الاقتصادية بطريقة أدت إلى ذوبان كل الإنجازات الاقتصادية التي استطاع الرئيس “ترامب” تحقيقها خلال السنوات الثلاث الأولى من حكمه. قالت الخبيرة الاقتصادية “إيريكا جروشين” الرئيسة السابقة لمكتب إحصائيات العمل التابع للحكومة الأمريكية: “هذه سابقة تاريخية، لقد دخل اقتصادنا في “غيبوبة”، وقد أدى ذلك إلى فقدان الوظائف بشكل كبير لم يحدث من قبل”. وفقًا لبعض التقديرات ارتفع معدل البطالة –خلال النصف الأول من العام الجاري- إلى ما يقرب من 14.7%، أي ما يقرب من ثلاثة أضعاف ما كانت عليه في 2016 مع بداية تولي “ترامب”. كما تفيد بعض التقديرات بتراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4,8%، إذ تشير وزارة التجارة الأمريكية إلى أن هذا التراجع في الناتج المحلي الإجمالي والناتج الإجمالي للسلع والخدمات، يمثل أكبر انخفاض منذ عام 1947.
وفي سياق موازٍ، تشهد الولايات المتحدة موجات متجددة من الاحتجاجات بدأت على خلفية مقتل الأمريكي ذي الأصول الإفريقية “جورج فلويد” خنقًا تحت قدم شرطي أثناء محاولة توقيفه في 25 مايو 2020 بمينيابوليس. ثم اندلعت موجة جديدة من الاحتجاجات في مدينة “كينوشا” الواقعة في ولاية “ويسكنسن” على خلفية حادث إطلاق النار على “جايكوب بليك” سبع مرات في ظهره أمام أنظار أبنائه الثلاثة الصغار. وبالرغم من الطبيعة الممتدة لأزمة العنصرية على الساحة الأمريكية؛ إلا أن التداخل الحرج بينها وبين تداعيات فيروس كورونا المستجد “كوفيد 19” جعل المشهد أكثر تعقيدًا. إذ استعرض الموقع الإلكتروني “ميديكال نيوز توداي” Medical News Today، دراسة أجرتها جامعة ييل توصلت إلى أن الأمريكيين السود أكثر عرضة للوفاة بفيروس كورونا بمقدار 3.5 مرات من الأمريكيين البيض، واللاتينيين أكثر عرضة للموت من المرض مرتين تقريبًا مقارنة بالأشخاص البيض.
الملفات المرجحة
في مستهل العام الجاري اتجهت أغلب التحليلات إلى اعتبار فوز “ترامب” بات نتيجة محسومة نظرًا للإنجازات الاقتصادية التي حققها، إلا أنه مع اتجاه الساحة الأمريكية لهذه الحالة من التعقد الشديد نتيجة سلسلة من المشكلات المتشابكة، اتجهت بعض التحليلات إلى ترجيح تزايد فرص منافسه الديمقراطي “بايدن”. بعبارة أوضح، يجري السباق الرئاسي على أشده بين “ترامب” و”بايدن” بطريقة ستدفع “ترامب” إلى التركيز على الملفات التي قد تعزز من فرص فوزه.
1- الملفات الداخلية
يمكن الاستناد إلى افتراض عام مؤداه أن الملفات الداخلية هي أكثر الملفات تأثيرًا في تصويت الناخب الأمريكي. علاوة على أن تزايد فرص “بايدن” جاء كنتيجة لتردي الأوضاع على الساحة الأمريكية مثلما ذكرنا آنفًا. وعليه، تدرك إدارة “ترامب” ضرورة التركيز على الملفات الداخلية، حتى وإن كانت فرص إصلاحها محدودة. وفي هذا السياق، يمكن بلورة أهم هذه الملفات فيما يلي:
أ- ملف المرأة: على الرغم من النبرة التي تبدو معادية للمرأة التي يتبناها “ترامب”، إلا أنه قد يعمد إلى تكثيف ظهور زوجته “ميلانيا ترامب” لضمان أصوات النساء وبعض قطاعات المهاجرين، ويرجع ذلك لكونها مهاجرة من يوغوسلافيا الشيوعية وأمريكية مجنسة، تحمل قصة ملهمة عن الفرار من الاستبداد بحثًا عن الحرية في أرض الحرية والفرص “الولايات المتحدة”، وذلك على حد تعبيرها. ذكرت في الخطاب الذي ألقته في الليلة الثانية من مؤتمر الحزب الجمهوري، إنني “فكرت في تأثير أصوات النساء في قصة أمتنا، وكم سأشعر بالفخر للإدلاء بصوتي مرة أخرى لـ”دونالد” في نوفمبر”. ولفتت إلى أن “إدارة “ترامب” تضم عددًا غير مسبوق من النساء في مناصب قيادية.
ب- التوصل إلى المصل: باتت أزمة تفشي فيروس كورونا مفتاحًا أساسيًّا في السباق الرئاسي المحتدم بين “ترامب” و”بايدن”، لا سيما مع اتساع نطاق الانتقادات بشأن تذبذب إدارة “ترامب” في التعامل مع الأزمة. لذا، برر “ترامب” هذا التذبذب معتبرًا أنه “تصرف بطريقة يعتقد أنها قللت الذعر من الوباء”. ووعد بسحق الوباء عبر التوصل إلى لقاح سيتم إنتاجه بحلول نوفمبر. ولإبعاد مسئوليته عن أي تأخير محتمل، اتهم “ترامب” العاملين داخل هيئة الأغذية والأدوية الأمريكية بتعقيد الجهود لاختبار لقاحات فيروس كورونا المستجد، من أجل تأخير النتائج إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية في 3 نوفمبر.
ج- النظام والقانون: يمكن القول بشكل عام إن تجدد موجات الاحتجاجات في أنحاء متفرقة من الولايات المتحدة لا ينال من شرعية “ترامب” كما ترى بعض التحليلات، وإنما قد توفر له المبرر الأفضل على اتساع نطاق الوباء، والمسوغ المناسب لتصوير نفسه حامي النظام والقانون، لا سيما وأن الحزب الديمقراطي يميل –بشكل أو بآخر– إلى الدفاع عن مطالب المحتجين. ويرتبط بهذا الأمر اتجاه بعض المحتجين إلى الاعتماد على العنف والتخريب. بعبارة أخرى، إن اتساع نطاق أعمال التخريب والسرقة والنهب لن يعزز فقط مكانة إدارة “ترامب” لدى “الأغلبية الصامتة”، وإنما سيدلل على نجاعة أفكار “ترامب” حول تقييد الهجرة واللجوء. علاوة على ذلك فإن الاحتجاجات وأعمال التخريب والشغب ستوفر لترامب المسوغ المناسب لتبرير الخسائر المرتبطة بأزمة كورونا، واستمرار النزيف الاقتصادي.
د- مناهضة الاشتراكية: يمنح تصدر بعض الرموز الاشتراكية مثل “بيرني ساندرز” وإليزابيث وارن” فرصة جيدة للرئيس “ترامب” للنيل من الأجندة الديمقراطية عبر مدخل رفض الإشتراكية. لذا، فإنه بالاستناد إلى هذا المدخل يشن “ترامب” هجومًا واسعًا على “بايدن” بوصفه حاملًا لأجندة اشتراكية تهدد رخاء الولايات المتحدة. إذ قال إن “بايدن ليس منقذًا لروح أمريكا، إنه مدمر الوظائف في أمريكا، وإذا سنحت له الفرصة، فسيكون مدمر العظمة الأمريكية”. وارتباطًا بذلك، يجدد قادة الحزب الجمهوري الأمريكي بين حين وآخر من تحذيرهم بشأن فوز “بايدن”، معتبرين أن البلاد ستصبح تحت سلطة الاشتراكيين.
هـ- تعافي الاقتصاد: عادةً ما يضر الركود الذي يشهده عام الانتخابات بفرص إعادة انتخاب الرئيس المتواجد في البيت الأبيض. فقبل الأزمة الاقتصادية لعام 2020، أعلن “ترامب” أن سوق الأسهم المزدهرة ومعدلات البطالة المنخفضة هي المقياس الحقيقي لنجاحه. لذا، سيحاول “ترامب” خلال الفترة القادمة التركيز على اتجاه الاقتصاد وليس حالته الحالية، زاعمًا أن الاقتصاد في اتجاهه للتعافي رغم التداعيات واسعة النطاق لفيروس كورونا. ومن جانب آخر، فإن إنجازاته الاقتصادية التي سبقت تفشي الجائحة تؤشر إلى قدرته على تجاوز الأزمات الاقتصادية الحالية. وتعتمد نظرة المواطن الأمريكي للأوضاع الاقتصادية المتردية على عاملين؛ الأول: هو مدة الركود الاقتصادي، والثاني: هو تأثيره على سوق العمل.
2- الملفات الخارجية
يبدو أن إدارة “ترامب” تدرك فرصها المتواضعة في تحقيق إنجاز داخلي لديه القدرة على ترجيح كفة “ترامب”. لذا، يبدو أن الملفات الخارجية قد تكون بوابة لتعويض القصور في الملفات الداخلية. وعلى الرغم مما يمكن وصفه بمحدودية تأثير الملفات الخارجية على الناخب الأمريكي، إلا أن تحقيق إنجاز خارجي كبير سيساهم بلا شك في التأثير عليه، أو هدم خطاب المرشح المناسب، على أقل تقدير. في هذا السياق، يمكن بلورة أهم الملفات الخارجية:
أ- إنهاء الحروب الأمريكية: نظرًا لأن الحروب طويلة المدى وبقاء الجنود الأمريكيين في الخارج هو أبرز الأمور التي ترهق وتقلق الشارع الأمريكي، فإن “ترامب” ومنافسه الديمقراطي يدركان ضرورة التركيز على هذه النقطة، عبر إرسال رسالة طمأنة مفادها عودة الجنود الأمريكيين من الخارج، أو تقليل عددهم على أقل تقدير. قطع “ترامب” على نفسه وعدًا انتخابيًا في 2016 بإنهاء وجود القوات الأمريكية في الخارج، إلا أنه استطاع فقط تقليل عدد القوات في بعض الساحات، ويرجع ذلك لكون مسألة سحب القوات مرتبطًا بعدد من الأمور والسمات الخاصة بكل ساحة على حدة. وارتباطًا بهذا، يمكن القول بشكل عام إن التقارب في الرؤى بين المرشحين حول هذا الملف، لن يمثل إضافة حقيقية لفرص فوز “ترامب”.
ب- الصين: على الرغم من الاتفاقية الأولية التي وقّعها “ترامب” مع الصين، إلا أن مصلحته تكمن في تبني خطاب متشدد تجاهها، لكون هذا الخطاب صاحب صدى واسع بين الناخبين. إذ يلقي الأمريكيون باللوم على بكين بشكل متزايد في الفشل للتصدي للجائحة ومنعها من الانتشار حول العالم. بعبارة أخرى، فإن التركيز على مهاجمة الصين سيوفر لـــ”ترامب” أمرين، التغطية على الفشل في إدارته للأزمة، بجانب تحجيم قدرة “بايدن” على استخدام خطاب مناهض للصين يتجاوز الخطاب الذي يتبناه “ترامب”. لكنه في الوقت ذاته لن يتجه إلى أبعد من ذلك حتى لا يخسر أصوات قطاع الأعمال الذي تضرر من الحرب التجارية بين واشنطن وبكين.
ج- ملف سد النهضة: تدخلت واشنطن كراعٍ للمفاوضات التي تجري بشأن سد النهضة بين الأطراف الثلاثة (مصر، وإثيوبيا، والسودان)، بناءً على طلب مصر ووفقًا للمادة العاشرة من إعلان المبادئ الذي وقع في 23 مارس 2015. اتجهت بعض التحليلات إلى وضع الدافع الشخصي لدى “ترامب” الذي يرغب في تعزيز صورته الخارجية، وبلورة دوره الدبلوماسي. إلا أن رفض أديس أبابا التوقيع على الاتفاق مثّل إحراجًا للرعاية الأمريكية والدبلوماسية الأمريكية، الأمر الذي دفعها إلى الإعلان عن تعليق جزء من مساعداتها المالية إلى إثيوبيا ردًا على قرارها بدء ملء خزان السد قبل التوصل لاتفاق مع مصر والسودان بشأن مشروع سد النهضة. إلا أنه يمكن القول إن هذا الملف لن يكون ذا تأثير حاسم في المشهد الانتخابي، إذ يشهد درجة عالية من التفاوت والتباين في الرؤى في الأوساط الفكرية داخل الولايات المتحدة، وكذا في الشارع الأمريكي.
د- إعادة هندسة عملية السلام: حاول “ترامب” منذ وصوله لسدة الحكم أن يلعب دورًا مؤثرًا لكنه مختلف في عملية السلام، وارتباطًا بهذا أعلن عن خطة السلام المسماة “صفقة القرن”، التي أثارت الكثير من الجدل وقوبلت بالرفض من البعض. لذا، التزم بمسار جديد لعملية السلام المتجمدة لسنوات عبر دفع دول المنطقة للتطبيع مع إسرائيل بطريقة توفر لها فرصة الاندماج السلس في المنطقة وتقليل فرص الصراع. ظهر أول ملامح المسار الجديد في توقيع اتفاق السلام بين الإمارات وإسرائيل، ثم أعقبتها زيارة وزير الخارجية “مايك بومبيو” التي بدت كمحاولة أمريكية جديدة لتطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل، إلا أن المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير أعلن أن الحكومة الحالية ليست مفوضة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل. وأخيرًا، الإعلان عن التطبيع الكامل للعلاقات بين البحرين وإسرائيل. إلى أن وصل الأمر إلى الحديث عن قيام نائب رئيس لجنة الخارجية والدفاع بالبرلمان النرويجي بترشيح “ترامب” لجائزة نوبل للسلام لعام 2021، مستشهدًا بدوره في التوسط بشأن تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وعليه، يتضح أن هذا الملف سيكون الأكثر تأثيرًا في المشهد الانتخابي.
وختامًا، يتضح من العرض السابق أن الأيام الحاسمة التي تسبق البداية الفعلية لعملية الانتخابات في 3 نوفمبر ما زالت مرشحة لوقوع أحداث مؤثرة في مسار السباق الرئاسي. لذا، يتضح أن “ترامب” عليه التركيز على بعض الملفات الداخلية بالرغم من صعوبة تحقيق إنجاز مؤثر، على أن يتم تعويض هذا القصور من خلال تحقيق انتصارات خارجية تبرز أهمها في إعادة هندسة عملية السلام من خلال دفع دول المنطقة للتطبيع مع إسرائيل.