المركز المصري للفكر والدراسات الاسترتيجية:
وصف القادة الأوروبيون الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” بالعديد من الصفات القاسية، بعد قراره بفتح الحدود مع اليونان والسماح للاجئين بدخول أوروبا، وتصاعدت المخاوف من تطلعاته التي اتسمت بالانكشاف في الآونة الأخيرة، فوصفته صحيفة “إي يو أوبسيرفر” (EUobserver) النمساوية بأنه: “يحلم بنوع من الإمبراطورية العثمانية الجديدة، ليس من خلال غزو الدول، ولكن من خلال إقامة تحالفات إقليمية مع حكومات الإخوان المسلمين، مهدت الأرض لها ثورات الربيع العربي”. ولكن تحطم هذا الحلم كثيرًا بعد الإطاحة بالرئيس الإخواني “محمد مرسي”، وهي بداية التحول للانتباه إلى أن الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” لا يتحالف فقط مع الإخوان، بل هو نفسه إخواني.
الرئيس التركي والدعم غير المحدود لجماعة الإخوان المسلمين
تعود علاقة الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” بجماعة الإخوان في مصر (الجماعة الأم) إلى السبعينيات، عندما كان أحد أكثر التلاميذ السياسيين الموثوق بهم لـ”نجم الدين أربكان”، والد الإسلاموية في تركيا، وعندما توفي “أربكان” عام 2011، حضر معظم قادة الإخوان المسلمين جنازته. في هذا الوقت تقريبًا، مع تنامي احتجاجات الربيع العربي، ازداد دعم تركيا للإخوان. بعد فترة وجيزة من تأسيس حزب العدالة والتنمية في عام 2001، منحت جماعات الإخوان المسلمين في جميع أنحاء العالم لأردوغان موقعًا رائدًا في الحركة، نظرًا لنجاح “أردوغان” وحزبه[1]. حافظ كل من “أربكان” و”أردوغان” خلال مسيرتهما السياسية على علاقات عمل مع شبكة الإخوان العالمية. خلال التسعينيات، أطلق “أربكان” سلسلة من المؤتمرات الإسلامية التي سعت إلى حشد قادة الإخوان المسلمين من مناطق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لمواجهة النفوذ الغربي في المنطقة، وعندما شغل “أربكان” منصب رئيس وزراء تركيا في الفترة من عام 1996 إلى عام 1997، تحدث عن تشكيل “حلف شمال الأطلسي الإسلامي”[2].
لقد مثلت تركيا ملاذًا لقيادات جماعة الإخوان المسلمين الهاربين من المحاكمات، فقد أسس قادة الجماعة بعد هروبهم من مصر عام 2013 مؤسسات جديدة في تركيا، وكثفوا من حملات الدعاية لها ببث محطات تلفزيون تهدد مسئولين مصريين ومواطنين أجانب في مصر بالقتل. وبدت المفارقة هنا في أن الحكومة التركية التي تزعم دفاعها عن “حرية التعبير” لجماعة الإخوان تُسكت معارضيها[3]. يمكننا القول إن “أردوغان” ومن معه هم الذين يقودون الآن الإخوان في كل مكان في العالم، ويسعون إلى دعمهم في كل مكان حتى خارج الشرق الأوسط.
في مقال نشرته مجلة “فورين بوليسي” (Foreign Policy)[4] أكدت على جهود “أردوغان” لتوسيع نفوذ الإخوان المسلمين، لا سيما في الغرب. اليوم هو أكبر داعم لهم في أوروبا، بل وتقدم تركيا دعمًا لهم أكثر من قطر. فعلى سبيل المثال، تنامت العلاقات بين حزب العدالة والتنمية والمؤسسات المرتبطة بالإخوان في الولايات المتحدة، فمسئولو الحزب موجودون في فعاليات مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية (كير)، المرتبط بالإخوان، أيضًا تظهر الأسماء التركية بشكل متزايد في مجالس إدارة المنظمات غير الحكومية المرتبطة بالإخوان، وتحول الإخوان إلى أكبر داعمين وناشرين لخطاب “أردوغان” ومن معه في الغرب.
كيف ساهم الدعم القطري والتركي للإخوان في تعزيز الانقسام في أوروبا؟
لفت “تيم كولينز” (Tim Collins)، ضابط بالجيش البريطاني، إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي أن دعم قطر وتركيا للإخوان يعزز الانقسام داخل المجتمعات المسلمة في الغرب، فهم يعطلون الجهود المبذولة لتسهيل اندماج المسلمين، ويعطلون جهود منع التطرف في المملكة المتحدة. وقد كشف مجلس العموم مؤخرًا عن تمويل قطري وصل إلى 125 مليون يورو عبر أوروبا، وشمل ذلك أكثر من 18 مليون يورو ذهبت إلى أقسام في جامعة أكسفورد، بقيادة “طارق رمضان”، حفيد مؤسس جماعة الإخوان، يقول “كول كولينز”: “إن الإسلام المتشدد تهديد للعالم المتحضر”، ويضيف: “لدينا دفاع غير مرئي في بلدنا، وهو مواطنونا المسلمون، ومع ذلك هناك منظمة تعمل على تخريبهم”[5].
كبار السياسيين الأتراك -كما يقول “كولينز”- يتهمون أوروبا دائمًا بأنها معادية للإسلام ويحثون الأتراك وغيرهم من المسلمين الذين يعيشون في أوروبا على رفض القيم الغربية. على سبيل المثال، أعلن “ألبارسلان كافاكلي أوغلو”، رئيس لجنة الأمن والاستخبارات في البرلمان التركي 2018، أن “أوروبا ستكون مسلمة”، وأضاف: “سنكون فعالين هناك إن شاء الله”. وصرح “أردوغان” بنفسه بأن حدود تركيا تمتد “من فيينا إلى شواطئ البحر الأدرياتيكي، من تركستان الشرقية [منطقة الصين المتمتعة بالحكم الذاتي في شينجيانغ] إلى البحر الأسود”.[6]
ويؤكد موقع “كونسيرفاتيف ريفيو” (Conservative Review) الأمريكي أن “أردوغان” يمثل الآن أكبر تهديد للأمن، ليس فقط في الشرق الأوسط، ولكن أيضًا في بلادنا. في 2 أبريل 2016، ترأس “أردوغان” حفل افتتاح مركز ديانت أمريكا، أكبر مسجد في أمريكا الشمالية، ويقع في لانهام بولاية ماريلاند. وحضر بعض كبار قادة تنظيمات الإخوان المسلمين وتم تصويرهم مع “أردوغان”. المسجد يخضع لرئاسة الشئون الدينية في الجمهورية التركية (ديانت)”، وقد أنفق “أردوغان” 100 مليون دولار على بنائه. يدعم الرئيس التركي أيضًا “حماس” بما يصل إلى عدة مئات من الملايين في السنة، وهو الزعيم العالمي للإخوان المسلمين، وبالتالي فمن الخطأ أن نظن أن مساجده ستروج لنظرة مستنيرة للإسلام؟
يشير الموقع إلى المذكرة التفسيرية للإخوان المسلمين لعام 1991 التي كشفت عنها المباحث الفيدرالية الأمريكية، لفهم أهداف “أردوغان” زعيم الإخوان: الهدف الاستراتيجي العام في أمريكا هو “تمكين الإسلام في أمريكا الشمالية، وتخريب الغرب من داخله بيد المؤمنين وبيد أبنائه. أي: إقامة حركة إسلامية فاعلة ومستقرة بقيادة الإخوان المسلمين تتبنى قضايا المسلمين محليًا وعالميًا، وتعمل على توسيع نطاق الملتزمين”، وأخيرًا يطالب الباحث “دانيال” بوقف أي دعم خارجي للمساجد في الولايات المتحدة.[7]
مِن نشر الأيديولوجيا إلى التجسس
لا تكتفي المساجد والمؤسسات التي يسيطر عليها الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” والإخوان في الغرب بنشر أيديولوجيتهم، ولكنها تعمل أيضًا بالتجسس على معارضيه، لذلك قررت الحكومة الألمانية وضع نشاط (DiTiB) (رئاسة المساجد التركية في ألمانيا) تحت المراقبة، وأوقفت أي تمويل لها[8]، بل وحذرت الشرطة الألمانية أعضاء بالبرلمان من احتمال تجسس المخابرات التركية عليهم، ودعت لجنة الرقابة في البرلمان الألماني إلى “الكشف عن معلومات بشأن الأنشطة التي تقوم بها الاستخبارات التركية داخل ألمانيا، وحذر تقرير للمخابرات الألمانية من أن تركيا أصبحت مركزًا للجماعات الإسلامية المتشددة”، وأن “أردوغان” لديه “تقارب فكري” مع حماس في غزة وجماعة (الإخوان المسلمين) المحظورة في مصر، وطالب التقرير بوقف أي تعاون استخباراتي مع تركيا[9].
وفي النمسا اتهم “بيتر بيلز” (Peter Pilz)، عضو البرلمان النمساوي، تركيا بالتجسس على من يشتبه في أنهم أنصار “غولن” في النمسا، عبر منظمة (ATIB)، وهي منظمة جامعة يرأسها الملحق الديني في السفارة التركية في فيينا، وتشرف على عشرات المساجد في البلاد. قال “بيلز”: “مجموعة أتيب (ATIB) المظلية هي أداة لسياسة الحكومة التركية القاسية وغير المقبولة وغير الشرعية في النمسا، والتي تراقب أيضًا الأكراد الأتراك والسياسيين المعارضين والصحفيين في النمسا”، بل وكشف “بيلز” أنه تلقى وثائق من مصدر تركي تشير إلى وجود “شبكة عالمية من المخبرين” تغطي أربع قارات تقدم تقارير إلى ديانيت[10].
هناك مؤسسة هامة أخرى هي “ميلي جوروس” (Milli Gorus) التي أنشأها في أواخر الستينيات “نجم الدين أربكان”، المرشد السياسي لأردوغان، وهي منظمة إسلامية ذات توجه قومي، وتتبنى العديد من مواقف وأهداف وتكتيكات جماعة الإخوان المسلمين، ولكنها تضيف لمسة عثمانية جديدة إليها، تعمل الحركة منذ فترة طويلة في أوروبا، حيث يقدر عدد أعضائها والمتعاطفين بنحو 300 ألف وتتحكم في مئات المساجد، معظمها في ألمانيا، وتعادي الغرب والديمقراطية وغير المسلمين، يمثل المصري “إبراهيم الزيات” أيضًا تجسيدًا لهذه الديناميكيات، فقد تولى العديد من المناصب العليا في المنظمات ذات الميول الإخوانية في كل من ألمانيا وأوروبا، وحصل على لقب “العنكبوت في شبكة المنظمات الإسلامية” من الاستخبارات الألمانية، وهو أيضًا مسئول تنفيذي في شركة (EMUG)، وهي شركة مقرها ألمانيا تدير أكثر من 300 مسجد في شبكة “ميلي جروس”، وتكشف عن تداخل الإخوان مع الأتراك. “الزيات” أيضًا متزوج من ابنة أخت “أربكان”، التي شغل شقيقها منصب رئيس ميلي جوروس في ألمانيا، وكذلك رئيس مجلس إدارة شركة (EMUG)، وتؤكد “فورن بوليسي” أن فروع الإخوان في جميع أنحاء العالم تتلقى بعد “الربيع العربي” دعمًا ماليًا وسياسيًا قويًا من تركيا، ليحقق “أردوغان” حلمه بزعامة المسلمين في العالم. فكما قال “ياسين أقطاي”، نائب رئيس حزب العدالة والتنمية السابق والمستشار الرئيسي الحالي لأردوغان: “الإخوان المسلمون يمثلون القوة الناعمة لتركيا”.
وفي النهاية يشعر الأوروبيون بقلق متزايد بشأن تداعيات التأثير التركي الإخواني على أراضيهم. لكن التحدي القائم هنا هو أن هذا التأثير مدعوم من دولة قوية لها علاقات تجارية وسياسية وأمنية عميقة مع معظم الدول الأوروبية، ومن الواضح بشكل متزايد أن السفارات والمنظمات الدينية والشركات التركية، التي تعمل بالتنسيق مع شبكة واسعة نسبيًا من الكيانات المرتبطة بالإخوان، تسعى لتحقيق مصالح وترويج وجهات نظر داخل المجتمعات الإسلامية التي هي على مسار تصادم مع الحكومات الأوروبية[11]، كما يشعر الأوروبيون بقلق متزايد أيضًا من استخدام “أردوغان” لسلاح اللاجئين إلى أوروبا دون إرادتها، وأيضًا ما يفعله في البحر المتوسط والشرق الأوسط. فبالنسبة لتركيا، تعد ليبيا جزءًا من خط دفاعها العثماني الجديد واستراتيجيتها لتوحيد الأحزاب والحكومات والميليشيات الموالية للإخوان المسلمين في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل، فالعثمانية الجديدة تسعى إلى إحياء “تركيا الكبرى” التي تجدد نموذجًا حضاريًا كلاسيكيًا للإمبراطورية العثمانية يرتكز على القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية بأراضٍ تمتد من شرق تراقيا (الآن جزء من اليونان)، إلى قبرص، شرق جزر بحر إيجه، وأجزاء من شمال سوريا وشمال العراق وكامل أرمينيا الحديثة وأجزاء من جورجيا وحتى إيران، هناك مراقبون يتوقعون حتمية الصدام مع “أردوغان” ومن خلفه الإخوان، وهناك من ينادي بمعاقبة تركيا بصرامة، والعمل على توحيد معارضي الرئيس التركي معًا، وفك الارتباط الاقتصادي والطرد من خلف شمال الأطلنطي[12]. من جهة أخرى، هناك رؤى أخرى ترجح العمل على استثمار هذا العداء المتصاعد ضد تركيا في الغرب لبناء تحالفات قوية قادرة على مواجهة تحالف تركيا الإخوان.