المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
تُعتبر الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2020 غير اعتيادية، ليس فقط لأن الاستقطاب وصل فيها إلى مُستويات غير مسبوقة، سواء بين العرقيات أو الأيديولوجيات في المُجتمع الأمريكي، أو لأنها تجري في ظل جائحة كورونا التي تُخيم على القطاع الصحي، بالإضافة إلى الآثار الاقتصادية الناتجة عنها التي تضرب عمق الاقتصاد الحقيقي، لتشكل واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية إن لم تكن الأسوأ على الإطلاق؛ بل لأنه يُتوقع لها أن تكون الأكثر تكلفة في تاريخ الانتخابات الرئاسية على الإطلاق، حيث سيبلغ الإنفاق عليها مستوى 5.16 مليارات دولار بعد استبعاد آثار التضخم، وسيبدو الفرق في حجم الإنفاق، خاصة أن انتخابات عام 2008 بين الرئيس “أوباما” والسيناتور الجمهوري “جون ماكين” قد تجاوز الإنفاق فيها بالكاد حد الـ3.3 مليارات دولار، أما سابقتها في عام 2016 فقد تكلفت نصف ذلك الرقم عند 2.58 مليار دولار، الأمر الذي يستوجب التوقف عنده بالفحص والتحليل، لنتعرف على مصادر هذه التمويلات وتباينها بين المُرشحين.
أولًا- ارتفاع غير نمطي:
تُشير مُعدلات نمو الإنفاق على الانتخابات الرئاسية الأمريكية إلى أن العام الحالي سيشهد مُعدلات نمو غير مسبوقة، على الرغم من أن مُعدّلات نمو الإنفاق مُنذ انتخابات عام 2000 لم ترتفع ما بين انتخابات والتي تلتها عن 30%، فيما شهدت انتخابات عام 2012 تراجع مُعدلات الإنفاق بنسبة 11%، تلتها انتخابات 2016 بتراجع آخر بنسبة 13%. ووفقًا لتوقعات “مركز السياسة المستجيبة” (Center for Responsive Politics)، سوف تسجل انتخابات العام الجاري نموًّا بمُعدل 100% تقريبًا، كما يوضّح الشكل التالي:
معدّلات نموّ الإنفاق على الانتخابات الرئاسية الأمريكية
Source: Center for Responsive Politics, 2020 Presidential Race.
يظهر من الشكل أن توقعات الإنفاق خلال العام الجاري كسرت اتجاه الانخفاض الذي سيطر على السباقين الماضيين، وقد وُجِّه هذا الإنفاق -في مُعظمه- حتى الآن إلى وسائل الإعلام بمُختلف أنواعها، حيث وجهت حملة “بايدن” لوسائل الإعلام ما يقارب 236.8 مليون دولار بنسبة 67.1% من جُملة إنفاقها، فيما اكتفت حملة “ترامب” بإنفاق 221.5 مليونًا بنسبة 61.1% من إنفاقها على الحملات الدعائية. كما دفعت حملة “بايدن” نحو 43.2 مليون دولار كرواتب للعاملين فيها، فيما اكتفت حملة “ترامب” بـ18.5 مليون دولار كرواتب.
ويرجع السبب الأهم في ارتفاع إنفاق حملة “بايدن” عن حملة “ترامب” إلى أن الأول استطاع جمع تمويلات أكثر لحملته وفقًا لـ”اللجنة الفيدرالية للانتخابات” (Federal Election Commission)، حيث وصلت مُجتمعة من كل أوجه التمويل إلى 708.5 ملايين دولار، بينما توقفت حملة “ترامب” عند 595 مليون دولار تقريبًا، لذا كان “بايدن” قادرًا على الإنفاق بمُعدلات أكبر بلغت في إجماليها حتى 20 سبتمبر 484.4 مليون دولار، في مُقابل 455.3 مليونًا، ما أبقى تحت تصرف “بايدن” مبلغ 224 مليون دولار، وهو رقم يفوق ما تبقى لدى حملة “ترامب” الذي بلغ 157.2 مليونًا، وهو ما يُعطي “بايدن” أفضلية، حيث يستطيع توسيع الفارق بينهما في استفتاءات التصويت الأولية، فلطالما أثبتت الانتخابات الأمريكية أن الحملة القادرة على جمع تبرعات أكبر تصل بمُرشحها للبيت الأبيض، وهو ما تكرر على الأقل في سباقات ما بين عامي 2004 – 2012، حيث فاز دائمًا المُرشح الأكثر إنفاقًا، لكن ذلك لا يعني أن “ترامب” قد يتجه للخسارة بشكل مؤكد، فقد سبق له أن أثبت قدرته على الفوز رغم المُخصصات الدعائية الأقل لحملته. ففي انتخابات 2016، جمعت “هيلاري كلينتون” نحو 700 مليون دولار، فيما جمعت حملته نحو 434 مليونًا، لكنه استطاع الفوز عليها وفقًا لبيانات مركز السياسة المستجيبة.
ثانيًا- مصادر التمويل:
خلال الانتخابات الأربعة الماضية كان الديمقراطيون في مُعظم الأوقات قادرين على جمع تمويلات أكبر من تلك التي استطاع الجمهوريون جمعها، باستثناء انتخابات 2004 عندما جمع “بوش الابن” مبالغ أكبر من “جون كيري”، ولا تُشكل انتخابات 2020 استثناء آخر من هذه القاعدة، ويوضح الشكل التالي حصيلة الانتخابات السابقة من 2004 – 2016.
تمويل الانتخابات الرئاسية الأمريكية في الفترة من 2004 وحتى 2016
Source: Center for Responsive Politics, 2020 Presidential Race.
يأتي الجزء الأكبر مما استطاعت حملة “ترامب” جمعه من المُساهمين الأشخاص الذين دفعوا تبرعات أقل من 200 دولار، حيث جمعت من هؤلاء نحو 251.9 مليون دولار بنسبة 52.88% من إجمالي ما جمعته حملته، بينما استطاعت حملة “بايدن” جمع نحو 203.6 ملايين من الفئة ذاتها بما يُمثل 37.8% فقط من التمويلات التي جمعتها الحملة. على العكس من ذلك جمعت حملة “ترامب” مبالغ أقل من المُساهمين الكبار، سواء الأشخاص أو الكيانات، وذلك بنحو 222.9 مليونًا بنسبة 46.7% من التمويلات، بينما كانت حصيلة حملة “بايدن” من الفئة ذاتها أكبر، وذلك بما إجماليه 282.5 بنسبة 52.5%، وفقًا لبيانات مركز السياسة المستجيبة.
وبالإضافة إلى الحملتين الانتخابيتين، يوجد ما يُسمى بلجان الإنفاق السياسي المستقلة (independent expenditure-only political action committees) أو “Super PACs”، وتقوم هذه اللجان بجمع تبرعات ومُساهمات من جميع أنحاء البلاد، ولها الحق في أن تُنفق قدرًا غير مُحدد على دعم المُرشح الذي تختاره باستقلال عن حملته، بشرط ألا تُنسق مع حملة المُرشح ولا تعمل بالتعاون معها. وتختلف لجان الإنفاق السياسي المستقلة عن لجان الإنفاق الأخرى في أن هذه الأخيرة لا تُنفق باستقلال، ويجب أن يكون إنفاقها من خلال الحملة الانتخابية. ويُلخّص الشكل التالي ما جمعته أهم ثلاث “لجان إنفاق مستقلة” Super PACs والمُرشح الذي تدعمه:
Source: Center for Responsive Politics, 2020 Presidential Race.
مفاد ما سبق أن لجان الإنفاق المستقلة (Super PACs) الداعمة للمرشح “جو بايدن” كانت قادرة على جمع مبالغ أكبر من تلك التي استطاعت حملة “ترامب” جمعها، لكن -في الوقت ذاته- استطاعت حملة “ترامب” جمع قدر أكبر من المُساهمات من أشخاص تبرعوا بأقل من 200 دولار، وهو ما يعني أن هناك قدرًا أكبر من الأفراد المُستعدين للتصويت له، وهو مؤشر يجب أخذه في الاعتبار، حيث إن التصويت في النهاية تصويت أفراد لا مؤسسات، كما يدل اتجاه الأفراد للتبرع على نية أكيدة للتصويت، حيث إن عددًا كبيرًا من المُصوتين في استطلاعات ما قبل الانتخابات لا يذهبون للإدلاء بأصواتهم، ولعلّ ذلك يُفسر كيف فاز “ترامب” بانتخابات عام 2016 رغم ما أظهرته هذه الاستطلاعات من فارق لصالح “هيلاري كلينتون”.
أما بالنظر إلى المستوى القطاعي فإن القطاعات التي تدعم كلا المُرشحين مُختلفة تمامًا، وهو ما ينعكس على انحيازات كلا المُرشحين ويُبرزها كذلك، حيث إن التدفقات النقدية القطاعية إما تتجه إلى مُرشح بسبب دعمه الفعلي للقطاع، أو لأنها تحاول الحصول على هذا الدعم في المُستقبل لدى وصوله للحكم. ويوضّح الشكل التالي أهم خمسة قطاعات ساهمت سواء للحملة أو للجان الإنفاق المستقلة الداعمة لكل مُرشح:
Source: Center for Responsive Politics, 2020 Presidential Race.
يتّضح من الشكل أن مُعظم تمويل حملة “ترامب” من زاوية القطاعات أتى من المُتقاعدين، ويلاحظ أن أشد مؤيدي “ترامب” من كبار السن البيض شديدي التعصب في ولايات الجنوب (تكساس، وفلوريدا) اللتين ساهمتا بالفعل بالجزء الأكبر من التبرعات له بنحو 94.3 مليون دولار، فيما ساهمت الفئة نفسها من المُتقاعدين لبايدن، لكن أغلب الظن أنهم من الأقليات والملونين، ويحصل باقي القطاعات التي ساهمت لترامب بالفعل على دعمه وعلى رأسها القطاعان العقاري والطاقة الأحفورية، بعد أن شهد القطاعان تحولًا عنهما في سنوات “أوباما”، وما يعد به “بايدن” من دعم أكبر للطاقة المُتجددة والصناعات التكنولوجية. في الوقت ذاته، ينحاز لبايدن قطاعات المُثقفين، وأهمها المُعلمون والمُحامون وكذلك المُستثمرون في أسواق الأوراق المالية الذين يرون فيه عامل استقرار يحمي استثماراتهم، وبديلًا لترامب شديد التقلب الذي يُشكل خطرًا داهمًا على استثماراتهم رغم ما أحرزته أسواق المال في عهده من نمو غير مسبوق.
لعل آخر ما ينبغي النظر إليه في جانب مصادر التمويل هو ديموغرافيا الممولين، التي تُظهر ارتفاع مُساهمات السيدات في حملة “بايدن” عن “ترامب”، حيث ساهمت النساء بإجمالي 170.6 مليون دولار بنسبة 46.2% من إجمالي التبرعات، فيما ساهمن بنحو 112.07 مليونًا وبنسبة 37.3% فقط لحملة “ترامب”، وهي نتيجة غير مُفاجئة بعد مواقف “ترامب” العدائية من السيدات وحملات النقد التي وُجهت له لطريقة تعامله مع السيدات في العموم وزوجته على وجه الخصوص.
زاوية أخرى يجب النظر إليها في جانب الإنفاق وهي النفقات الموجهة إلى إعلانات مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة بعدما أثير من جدل حول تأثيرها على نتيجة انتخابات 2016 وصل للقول بأنها كانت العامل الحاسم في فوز “ترامب”. وفي هذا الصدد، يلاحظ أن حملة “ترامب” أنفقت مبالغ أكبر على إعلانات مواقع التواصل الاجتماعي بلغت 186.2 مليون دولار، وجهت مُعظمها لموقع “فيسبوك” بنحو 107.9 ملايين، فيما دفعت لموقع “جوجل” نحو 78 مليونًا، فيما اكتفت حملة “بايدن” بإنفاق 115.1 مليونًا، استحوذ “فيسبوك” منها على 72.5 مليونًا، و42 مليونًا وُجهت لجوجل. ولعلّ في ذلك ما يُفسر -في جزء منه- ارتفاع مُساهمات الأفراد لحملة “ترامب” عن “بايدن”، إذ تتميز وسائل التواصل الاجتماعي بالقدرة على الحشد والتأثير عن طريق الاستهداف بقدر أكبر من وسائل الإعلام العادية.
استنادًا إلى ما سبق، يتضح اختلاف آليات عمل الحملتين وقطاعات الموالين لهما مما انعكس على المبالغ المُجمعة والفئات التي دفعتها، وهو ما سينعكس في النهاية على نتيجة الانتخابات، خاصة في ضوء ما أثبته “ترامب” خلال الانتخابات الماضية من كفاءة في الإنفاق رغم انخفاض قدرته على جمع التبرعات.