في المقالة التَّالية، من مجلَّة الأتلانتيك الأميركيَّة، يحاول الصحفيّ المخضرم جيمس فالو معالجة العمل الصّحفي في إعلام الديمقراطيين والتطرُّق إلى العيوب العديدة التي لعبت دورا في صعود نجم الرئيس دونالد ترامب. بالتحديد، يعالج الكاتب بدعة الحياد الصحفي في أزمنة الاستقطاب بوصفها وضعية سلبيّة تتناقض مع دوره كونه سُلطة تُراقب وتحاسب باسم النَّاس، فانحيازُ الصحفيّ ضروري وحاسم حينما تمتهن السلطة الكذب والخداع وتزييف الحقيقة.
إنَّنا نرى خطأ فادحا، ومأساة ممكنة تتكشَّف الآن. قد تسري هذه الجملة على نواحٍ لا تُحصى في الحياة الاقتصادية والطبيّة والحكومية والبيئية حاليا، لكن ما يجول بذهني هو ما يكاد يكون فشلا أسطوريا في استجابة الصّحافة لحقائق عصر ترامب.
يتصرف العديد من أكبرِ محرّرينا ومراسلينا تأثيرا كما لو أنَّ القواعد التي سادت تحت الرؤساء الأميركيين السابقين لا تزال سارية. لكن هذا الرئيسَ مختلف، والقواعد مختلفة، وما لم تتأقلَم بسرعة، فستكون الصحافة شاهدا على مؤسسة أخرى أخفقت في لحظة من الضّغط الخانق.
بعدد من الطُّرق المهمّة، تُكرِّر المنافذُ الإعلاميّة الخطأ الذي ارتكبه المستشار الخاصّ السابق روبرت مولر. في كتابه حول تحقيق مولر، بعنوان “جرائم وجنح حقيقيّة” (وفي مقالة عبر صحيفة النيويوركر)، يجادل جيفري توبين أن خطأ مولر الفادح كان نوعا من مثالية مكانُها زمن آخر، وحملت ما تحملُ السَّذاجةُ من عواقب. كان مولر على علم بالمعايير الأخلاقية التي سيودّ الحفاظ عليها لنفسه ويصرّ على فريقه الالتزام بها، لكنّه لم يستوعب أنَّ الناس الذين يتعامل معهم يعتقدون أنَّ تلك المعايير للحمقى، لم يتصوَّر مولر أن مدّعيا عاما في منصبه يُمكن أن يُحرِّف فحوى تقريره عن قصد، وهو بالطبع ما قام به بيل بار. أراد مولر أن يتجنَّب مواجهة غيرَ لائقة، أو أن يظهر تحقيقه بمظهر “متصيّد المعلومات”، التي قد يأتي بها السعي وراء استدعاء هيئة محلَّفين من عِلية القوم إلى شهادة ترامب، فلم يتكلَّم مع ترامب تحت القسم، أو على الإطلاق. نظر ترامب وبار وفريقهما إلى هذه اللَّياقة على أنَّها علامة ضعف من الممكن استغلالها.
يجري أمر مماثل حاليا مع العديد من العاملين في الصّحافة. إنَّهم يتصرَّفون مثل مولر، يريدون التأكُّد من أنَّهم يتَّبعون خصائص كانت لتبدو منطقيَّة عند التعامل مع شخصيَّات أُخرى في عصور أخرى، لكنهم الآن يتعاملون مع دونالد ترامب، وهو يرى سلوكَهُم نقطةَ ضعف يُمكن أن يستغلَّها بلا هوادة.
بقدر ما لم يتفطَّن مولر إلى هذه الحقائق حينها، فعل إعلامنا المطبوع والمسموع والمرئي قبل أربع سنوات. تسابقت الشبكات لبثّ خطاباته الحاشدة بلا نهاية بدءا من منتصف العام 2015 صعودا، مانحة إيَّاه من الزَّمن المجَّاني على الهواء ما يُقدَّر بقيمة مليارَيْ دولار أميركي. لماذا خطاباتهُ هو، لا خطابات هيلاري كلينتون أو خطابات بيرني ساندرز؟ لأنَّها عُدَّت بثا تلفزيونيّا رائعا، ولأنَّ التقييمات أخذَت ترتفع في أثناء بثِّ تلك الخطابات. مع مُضيّ السباق، برهنت قنوات الكابل على توازنها المفترَض عبر رصدِ حلقات النقاش السياسية لا مع مَن يُمثِّلون نقاط الآراء المحافِظة ولكن مع المنتمين إلى القبليّة السياسيّة والمتحمّسين حتّى الموت، أشخاص سَيدافعون عن ترامب مهما فعل أو قال. (إحدى هؤلاء هي اليومَ السكرتير الصّحفي للبيت الأبيض، وملخّصاتها الصحفيّة لا تختلف عن تصريحاتها الصادمة سابقا عبر قنوات الكابل). كما أنَّ اختيار المشاركين في حلقات النقاش لم يعكس باقة من وجهات النظر حول السياسات؛ لقد كان بثّا لكوميديا الحياة اليوميّة، مع أشخاص يلعبون أدوارهَم المتوقَّعة الواضحة.
في خضمّ سعيها وراء طقس التوازن، أخذت الشبكات توازِنُ تغطيتَها لمغارِم ترامب الأخلاقيَّة وعيوبه الشخصيّة، التي كانت لتُبرهِنَ على افتقاد للأهلية لدى أي مرشّح آخر لأيّ وظيفة أخرى، بالتحقيق المكثَّف لما أُصِّرَ على كونه مشكلات خطيرة تتعلق برسائل البريد الإلكترونيّ الخاصّ بهيلاري كلينتون. قبل ستة أسابيع على إعلان النتائج، نشر غالوب تحليلا تنبؤيًّا يُظهِرُ أكثرَ ما سمعه الأميركيُّون بشأن كل مرشّح من المرشّحين. فيما يخصُّ ترامب، كانت أكثر الكلمات التي سمعها النَّاس من تغطياته الإعلاميّة كافَّة هي: “خطاب/هجرة/المكسيك”. فيما يخصُّ كلينتون، غطَّت كلمة واحدة على أُخرياتها: “رسائل البريد الإلكتروني”. التَّاليتان على القائمة، أقلُّ تمييزا، وهُما “كذب، ومؤسسة”. (مؤسّسة كلينتون، التي أسّسها بيل كلينتون، كانت محلَّ تدقيق مستمرّ ومتواصل لما يُقال إنّه تعاملات مشبوهة، وكان يقابل هذا التدقيق كشف جديد كلَّ أسبوعين حول إمبراطوريّة ترامب). قبل أسبوع على إعلان النتائج، كرَّست صحيفة نيويورك تايمز كامل النصف العلويّ من صفحتها الأولى لمقالات حول قيام مدير الإف بي آي جيمس كومي بإعادة فتح التحقيق في رسائل البريد الإلكترونيّ، وكان عنوان المقال الرئيسي على الصفحة الأولى للصحيفة: “رسائل جديدة من البريد الإلكترونيّ تدُكُّ حملة كلينتون في الأيَّام الأخيرة للسباق”، ويقول عنوان آخر على الصفحة الرئيسيَّة: “مع تبقّي 11 يوما، ترامب يقول إنَّ الكشفَ عن الرَّسائل يغيّر كل شيء”.
في الأسبوع الماضي فحسب خرج تلويح جديد بتلكَ التغطية، التي تُجمَلُ عادة بعبارة “لكنْ رسائل بريدها الإلكتروني!”. في الأربعاء، الموافق 9 سبتمبر/أيلول، خرجَ إلى الإعلام تسجيل بوب وودوارد لترامب قوله إنَّه فيما تعلَّق بفيروس كورونا، فقد “أرادَ باستمرار التقليل من أهميتّه”، هذا إلى جانب مزاعِم فاضحة من بطانتهِ بأنَّ وزارة الأمن الدَّاخلي كانت تزيِّف معلومات استخباريّة للتقليل من خطر التدخل الرُّوسي في الانتخابات وعُنف جماعات الفوقيّة البيضاء. موضوعيّا، لم يكن أيٌّ من هذه القصص أكثر أهميّة من تحقيق كومي القصير بشأن فضيحة لطالما أخذت أكبر من حجمها. لكن في موسم الانتخابات هذا، حصل كل واحد منها على عنوان عمود صحفيّ خجول في الصفحة الأولى لمجلة التَّايمز. بينما منحت الواشنطن بوست، على العكس منها، اكتشافات وودوارد شريطا على امتداد صفحتها الأولى.
مَن يعرف أي نهاية كانت تنتظر السباق الانتخابي في 2016، وما إذا كان رجل مثل ترامب لينتهي بالمنصب الذي انتهى إليه، لو أنَّ أي عامل من مئة عامل آخر قد سلك طريقا مختلفا. لكنّ العاملَ الأهمَّ كان إحجامَ الصحافة عن الإقرار بما تتعامل معه حقّا: شخص يستخدم الحقد العِرقي أداة صريحة، كذبه وفساده جاوزا كل ما لدى آل كلينتون معا، وما كان لدى معظم الرؤساء السابقين، ومعرفته بالمؤسسة الشاسعة التي هو على وشكِ تسلُّمها أقلّ من تلك التي لدى أي موظّف آخر في الكابيتول هيل بل ومعظَم المهاجرين الذين تمكّنوا من اجتياز امتحان المواطنة الأميركيّة (شديد التطلُّب).
ها قد مرَّت أربع سنوات، ونحنُ نستفيقُ في فيلم “Groundhog Day” (فيلم تتكرر فيه أيام البطل دون أي تغيير يذكر) إنَّما أبعد ما نكونُ عن الفهمِ الحتميّ المكتسب بشقّ الأنفُس لبيل موراي أنَّ بإمكانه أن يتعلَّم مهارات جديدة بمرور الوقت. بالنسبة إلى موراي، كانت تلك الأشياء هي تعلُّم العزف على البيانو والحديث بالفرنسيَّة. بالنسبة إلى الصَّحافة، في الأيامِ الـ 49 القادمة، فإنَّ هذه قد تتعلّق (من بين أشياء أُخرى) بثلاث من أكثر العادات تدميريَّة عند التعامل مع ترامب. بالمختصر، إنها اعتناقُ المكافئ الخاطئ، أو المساواة بينَ الطرفين، وعقليّة مدير الحملة، أو عقليَّة سباق الخيول، ثمَّ حبُّ المشاهدة، أو السَّعي وراء تقييمات المشاهدات والنقرات.
هل هذه مشكلات مألوفة؟ أجل بالطَّبع! بقدرِ ما كانت مألوفة أغنية “I Got You Babe” وهي تدور كل صباح على ساعة المنبّه في فيلم “Groundhog Day”. وعلى مدارِ السَّنوات القليلة الماضية، كانت موضوع تحليل حريص، مستمرّ على يد أمثال مارغريت سوليفان، المحررة في الواشنطن بوست وآخر محرر عام مؤثّر بحقّ في صحيفة نيويورك تايمز (قبلَ أن تُزيل الصحيفةُ مخطِئة ذلك المنصب)، ودان فرومكن، الذي عمل سابقا في “الواشنطن بوست” ويعمل حاليا في “برس ووتش”، وجاي روزن الذي عمل سابقا في جامعة نيويورك ويعمل حاليا في “برس ثينك”، وإريك بوليرت، الذي يعمل في “برس رَن ميديا”، وغريغ سارجنت، الكاتب في “ذا بلام لاين” بصحيفة الواشنطن بوست، وبريان باتلر، المحرر في “كروكد ميديا”، وإريك ألترمان من كليَّة بروكلين بجامعة مدينة نيويورك، ومؤلّف الكتاب الجديد “كذب في الدَّولة”، واللغويّ جورج لاكوف، الذي قدَّم مفهوم مواجهة الأكاذيب بما سمّاه “شطيرة الحقيقة”، وآخرين غيرهم. عن نفسي، ألَّفت كتابا بعنوان “تفتيت الأخبار” قبل نحو 25 عاما، واستُخرِجَت منه مقالة غلاف للأتلانتك، حول اتجاهات كتلك التي كانت مُلاحظَة آنذاك ثمَّ ما فتئت تنتشر بمرور السنوات.
إنمَّا لأنَّ هذه الاتجاهات مألوفة بالتحديد فهي مهمة. كما أثبَت إد يونغ في آخِر مقالة له حول الجائحة في الأتلانتيك، ومثلَما جادل آدم سيروير، وإبرام إكس. كيندي، وآخرون حول نضالات العدالة العِرقيَّة، فإنَّ من النادر أن تكون المشكلات الجديدة هي ما يعوق طريقنا، بل إنَّها المشكلات القديمة والإخفاقات والنقاط المبهمة والتحيُّزات ذاتها، مرارا وتكرارا.
كيف يُعقل أننا نرى هذه الأنماط من جديد، وكيف نتصرَّف حيالها؟ “تكافؤيَّة الطَّرفين” هذا هو المصطلح الذي يلخِّصُ خوف معظم الصحفييّن مما يبدو أنَّه “الانحياز لطرف” في النزاعات السياسيَّة، والتشوّهات الناجمة عنها.
بالتأكيد، فإن الانحياز لطرف هو سلوك جوهري في الصحافة. كل شيء نكتبه أو نبثّه هو شيء نقول إنَّه يستحق مزيدا من الاهتمام عن الأشياء التي لا نناقشها. قالب الصفحة الأولى، ورقيّا أو عبر الإنترنت، وقت الهواء الذي نعطيه للتقارير التلفزيونيَّة أو الإذاعية، نبرة العناوين وزاوية التركيز فيها، وكلُّ شيء على قائمة أدوات الاتِّصال هو انعكاس خيارات. عندما نحقق ونعرضُ القصص الفاضحة، فإننا ننحاز لصالح أهميَّة تلك المواضيع، وصحّة روايتنا. محرر صحيفة من القرن التَّاسع عشر كانت تسمَّى “المانشستر غارديان” آنذاك جادل أنَّ وظيفة الصحيفة هي “رؤية الحياة بوصفها دفقا مستمرّا ورؤية الحياة بوصفها كلًّا واحِدا” في تنويع على البيت الشِّعري للشاعر الإنجليزي ماثيو أرنولد. كلَّ خيار يتمحور حول الاستمرارية والكلّية يُمثِّل انحيازا لطرف دون آخر.
لكن في المسألة الضيِّقة، المحدَّدة والمتعلِّقة بالخلافات الجمهوريّة الديمقراطيَّة، فإنَّ مراسلي الصُّحف والبَثّ منزعجون بعمق من الظهور بمظهر المنحاز. لقد نوقشت هذه المسألة بشكل جيّد جدا على مدى سنوات، على سبيل المثال في رسالة بعنوان “المنظر من اللا مكان”، بقلم جاي روزن في عام 2010، وفي مقالة من دان فرومكين قبل عدَّة أسابيع. أبسط نسخة من هذا الرأي تتمثّل في ارتياح المُراسلين بالاقتباس أوّلا عن طرف ومن ثمَّ الطرف الآخر، فيما يبدو حيادا بين الطَّرفين عندَ عرض اتِّهام من الاتهامات، ومن ثمَّ تكوين استجابة. إنَّه دور مَثَّله جون روبرتس، خلال جلسات الاستماع لتعيينه لمنصب رئيس قضاة المحكمة العليا، بأنَّ دوره قاضيا إنما كان فقط “إحصاء الكُرات والضَّربات” [I]، أو كما تقول العبارة الترويجيّة المضحكة لشبكة فوكس نيوز “نحنُ ننقل، أنتَ قرِّر” (ما على الرّسول إلا البلاغ).
خاض كلُّ واحد في الصَّحافة نقاشات لا تُحصى بشأن حدود الموضوعيَّة، لكنَّ قوَّة الدَّافع الذاتي لا تزال تظهر حتَّى يومنا، في 2020، وبعدد من الطُّرق المختلفة.
بعضُ التغطيات عرض اعتياديّ، واستجابيّ حتى لبيانات يعرفُ المراسل يقينا أنهَّا ليست قرينة الصدق، كما لو أنَّها صادقة. (بالتَّالي، “مكافئ زائف”). أحدثُ الأمثلة الصَّاعقة كان قصَّة للأسوشيتدبرس في 4 سبتمبر/أيلول، بعنوان “نسخ متنافسة من الحقيقة تحدِّد الأسبوع الأوَّل من حملة الخريف الانتخابيَّة”، واستهلَّت:
“نيويورك (أسوشيتدبرس) – على متن قاطرة الحملة الانتخابية مع الرئيس دونالد ترامب، الجائحة انتهت بنسبة كبيرة، الاقتصاد يستعيد عافيته، والقتلة من الغوغاء يتسللون إلى الضَّواحي الأميركية.
مع الديمقراطيّ جو بايدن، الجائحة تتفشى، الاقتصاد لا يُساعد الطبقة العاملة، والعنصريَّة المنظَّمة تهدد حيوات السود في أرجاء أميركا.
سباقُ الأسبوع الأوَّل إلى الانتخابات قدَّم نسخا مختلفة على نحو مُربك من الحقيقة مع ارتحال الرئيس الجمهوريّ ومنافسه الديمقراطيّ من واشنطن وديلوير إلى ويسكونسن وبنسلفانيا، كل واحد من الرجلين في مهمَّة طارئة لبيع رسالة محددة للناخب القلق.
كلُّ هذه الرَّسائل المتضاربة تحملُ في أقلّ الأحوّال نزرا يسيرا من الحقيقة، بعضُها أصدق بكثير من غيره…”.
جُملة “بعضها أصدق بدرجة أكبر من غيره” هي طريقة للتأشير إلى ما يعرفه الصحفيّ يقينا: إنَّ ادعاءات بايدن تقع ضمن مدار وتركيز سياسي طبيعي، أمَّا تلك الخاصّة بترامب فعارية عن الحقيقة. الولايات المتَّحدة ليست على مشارف انتهاء كابوس الجائحة بأي شكل، ولم يكد الاقتصاد يستعيد نصف الوظائف منذ فبراير/شباط، ولا تزال أصعب الفترات تلوح في الأفق، ولا تزال معدَّلات الجرائم في المناطق المدنيَّة قرب معدّلاتها المتدنيَّة في العقود الأخيرة، والجريمة لا تتسرَّب للضَّواحي. لكن القصَّة تُقدِّمهما كونها منظورات محضة “متباينة إلى حدٍّ كبير” مع غمزة وإيماءة مبطَّنة بأنه ليست كل هذه الادّعاءات على القدر نفسه من الحقيقة: “بعضها أصدق كثيرا من غيره”. ماذا يمكن للمُراسل أن يكتب بدلا من ذلك؟ شيء من قبيل: “ترامب يُجري حملته بناء على رؤية مضللة للولايات المتحدة، ويأمل أن يكون بإمكانه دفع ما يكفي من الناس لتصديقها لكي يفوز”. في عصر آخر، كان جهابذة “الموضوعيّة” في وكالات الأنباء ليعتبروا بيانا من هذا النّوع أكثرَ “تدخليّة”، لكنّه أصدق بكثير بالنسبة لحقائق هذه اللحظة، وكان سيبدو بمظهر أفضل من منظور التَّاريخ.
كما برهَن دانيال ديل مرارا وتكرارا، فإنَّ ترامب يكذب في تصريحاته العامَّة عشرات المرَّات يوميا. كذلك يفعل ممثلّوه: الأربعاء المنصرم، زعمت كايلي ميكاني، السكرتير الصحفي للبيت الأبيض، بأريحية في غرفة المؤتمرات الصحفية في البيت الأبيض أنَّ ترامب “لم يُقلِّل أبدا” من تهديد الفيروس، بعد دقائق على إذاعة مراسل السي إن إن بوب وودوارد شريطا مسجَّلا للرئيس يقول فيه إنّه “دائما ما أراد التقليل من أهمية الفيروس”. لقد كان السكرتاريون الصحفيّون والرؤساء السابقون يكذبون حينما كانت الحقيقة غير ملائمة أو محرجة. ترامب يكذب فحسب. كما يُقتبَس عن دان كوتس، مدير الاستخبارات القوميّة السابق في إدارة ترامب، يقول بوب وودوارد: “بالنسبة له، الكذبة ليست كذبة. إنها ما يعتقده وحسب، إنه لا يعرف الفارق بين الكذبة والحقيقة”.
قد لا يُدرك الناس خارج المجال الصّحفي كم من المهمّ، ثقافيّا ومهنيّا، للمراسلين والمحررّين أن يتصرَّفوا بناء على تأثيرات هذا الواقع، أي معرِفَة أنَّ ما يقولُه رئيس أو كبار ممثّليه يحمل صفرا من القيمة الفعليَّة. إن كنتَ تُحاول أن تُخطِرَ الجُمهور، فمن الأفضل ألَّا تنقل ما يقولُه أو يعارضه أو يفعله هذا الرئيس، ما لم تكُن هناك مؤشِّرات خارجيَّة على صحّة أقواله. وما من داعٍ بالتأكيد لتقديم ادعاءات ترامب على أرضية مكافئِة لمعلومات أخرى. مرة أخرى، ذلك لأنَّ السجلَّ يقول إنّه إذا ما تفوَّه ترامب أو ممثّلوه بأمر، فعلى الأرجح أقوالهم عارية عن الحقيقة. لكنَّ الطّبع يغلب التطبُّع، ويظلُّ الحافزُ لإضافة عبارة “يقول بعض النقَّاد إنَّ…” قويا جدا.
خُذْ مثالا آخر كان ينبغي أن يُستفاد منه: في مارس/آذار من العام الماضي، نشر ويليام بار ملخّصا مضللا إلى حدٍّ كبير لتقرير مولر، زاعما أنّه قدَّم شهادة براءة لترامب. وقد صدَّقتهُ كلٌّ من النيويورك تايمز والواشنطن بوست، وعنونت صحيفة النيويورك تايمز “مولر يتوصَّل إلى عدم وجود مؤامرة روسيَّة ضد الولايات المتحدة”، بينما أعلنت الواشنطن بوست “مولر يقول بعدم وجود مؤامرة”. بعدها بعدَّة أسابيع، بعد أن تشكَّى مولر (بكياسة) ضد سلوك بار وصدر التقرير الكامل، أخذَت الصحف والمنافذ الإعلاميَّة تنشر الأخبار حول تحريفات بار المقصودة. بالنِّسبة إلى الواشنطن بوست، كانت واقعة بار حالة شاذّة من نشر خبر يتبنى مزاعِمَ ترامب ظاهريّا. بالنسبة لنيويورك تايمز، فمن سوء الحظَّ أن الأمر كان أكثرَ تمثيلا لآرائه.
في الأسبوع الماضي، بعدما كتبَ جيفري غولدبرغ في الأتلانتيك حول نعت ترامب للمحاربين القدامى في الجيش “بالحمقى” و”الفشلة”، نشرت الواشنطن بوست مقالة حول الادّعاءات تحت عنوان “ترامب يقول إن جرحى وقتلى الحرب في الجيش الأميركي فاشلون. بحسب تقارير”. بينما قدَّمت التايمز القصَّة كما لو أن الخبر يدور حول اعتراضات ترامب:
“ترامب يُنكِر بشدّة قوله إنَّه نعت الجنود الموتَى “بالفشلة” و”الحمقى””.
العنوان الفرعيّ كان لافتًا أيضا:
“التقرير، في الأتلانتيك، قد يكون إشكاليا للرئيس لأنَّه يعتمد على دعم معتبر من الجيش في أوراق إعادة انتخابه”.
هذا يعني أن الخبر كان يتعلَّق بما قد تعنيه اعتراضات ترامب سياسيّا. لقد قُدِّمت الحكاية كونها طريقةً لتفادي الظهور بمظهر المنحاز، مع أنَّها منحازة عمليّا. وإليكُم ما ظهَرَ لي عند العودة إلى الخبر للتأكّد منه:
“ترامب يواجه استياء شعبيا عقب ما يُقال إنه ملاحظات ساخرة أبداها من الجنود الموتى. تقرير في الأتلانتيك قال إن الرئيس نعت الجنود المقتولين في المعارك بالحمقى والفاشلين. وقد أنكرَ المزاعِمَ بحزم، لكن بعض المقرّبين منه قالوا إنَّ تعليقاته تتسق مع تعليقات سرّية أخرى ألقاها كانت تزدري الجنود”.
قبل عقود من الزمن في كتاب “تفتيت الأخبار”، كتبت حول النزوع الذي يكاد يكون غير قابل للمقاومة لتحويل جوهر أي شيء إلى الطريقة التي سوف يبدو فيها من وجهة نظر سياسية ذات تأثير. مثلما يتمكّن المعلِّق الرياضيّ الحفاظ على حياده بين الفِرَق، مع التعبير عن آراء قاطعة حول طريقة الدِّفاع أو إذا ما كان تكتيك الهجوم الخاطف فعّالا، يتمكّن الكُتَّاب السياسيون من أن يتجنّبوا الانحياز بالتعبير عن أحكامهم بالتعليق التكتيكي.
هذا يثيرُ حكاية أُخرى بشأن أشخاص يُعانون الأَمَرَّين في الرغبة المُلِحّة لمساواة الطرفين، مثل العبارة الأسلوبيّة “قد يُثير تساؤلات”، فلنأخذ قصَّة نُشرت الأسبوع الماضي في النيويورك تايمز حول دوغلاس إيموف، زوج كامالا هاريس، وإليكُم العنوان الرئيسي والعنوان الفرعيّ في القصَّة:
هل تقف السيرة المهنيّة لدوغ إيمهوف عائقا أمام حلف بايدن/هاريس؟
يمتلك السيد إيمهوف، زوج السيناتور كامالا هاريس، سجلا طويلا مُحرِّكا قضايا لاثنتين من كبريات شركات البلاد، مما يفرض صراعات محتمَلة قد تتطلّب التدقيق.
لاحظ اللَّمسات الواردة في التقديم التي تبدو بأنَّها لا تنحاز لطرف على حساب آخر، لكنَّها تنحاز في الواقع:
السؤال المطروح في العنوان بذاته يُقرِّر أنَّ القضيَّة المحتمَلة جديرة بالملاحظة.
“يفرض صراعات محتملة”، مجددا عدم الانحياز لطرف بالتزامن مع الإعلان عن وجود خطب ما.
“قد يتطلب التدقيق”. كان هذا أيضا هو التقديم الذي انتهجته كل التقارير تقريبا فيما يخص بريد هيلاري كلينتون. إحقاقا للحق، لعلّها موجودة، لكنني لم أجد مقالات تُقدَّم على شكل استكشافات فيما إذا كان حصول العلامة التجاريَّة لإيفانكا ترامب على الموافقة في الصين أو ترويج أقارب جاريد كوشنر لأعمالهم التجارية في الصين، يمكن أن يفرض “صراعات محتملة”.
ومن الخبر نفسه، في الجزء المتعلّق بارتباط إيمهوف بشركة قانونيّة، هي “DLA Piper”، التي تمتلك ذراعا من جماعات الضغط أيضا:
يظل من غير الواضح ما إذا كان السيد إيمهوف سوف يستمرّ بممارسة القانون بأي صفة، لكن الحفاظ على رابط بشركة لديها ممارسات تحشيد وضغط مزدهرة في واشنطن ومكاتب في أماكن مثل موسكو والرياض قد يكون إشكاليا. ويبحَثُ النقّاد حاليا في قوائم وكيله لدى (DLA) وشركة سابقة، إذ تضمَّنت ممثّلين ينظر إليهم بعين الشكّ المصوّتون التقدّميّون الذين يعتمد عليهم الديمقراطيّون للمساعدة في الإطاحة بالرئيس ترامب.
“يظلَّ من المبهم/ قد يكون إشكاليا/ النقّاد يعملون حاليا على تلميع/ ينظر إليه بعين الشكّ المصوّت التقدّمي”؛ هكذا ينحاز المرء ويُعبِّر عن أحكامه الخاصّة مع الظهور بمظهر مَن لا يفعل ذلك. وثمَّة جُمل أخرى تحمل التأثير ذاته: “من المقابلات، تتشكّل صورة بأن”؛ عندما ترى تلك الجملة أو شيئا ما يُشابهها، تُدرك أنك تُصادف شخصا كان يجب أن يكتب التَّالي: “بدأت أعتقد” أو “من الأخبار المنقولة التي وردتني”، لكنه يعملُ ضمن قيود تجعل جملة مثل “تتشكّل صورة بأنَّ” تبدو جملة “موضوعيّة” أو “مما وردني” تبدو حُكما، كما أنَّها طريقة تجعلك تبدو كما لو أنك لن ترحَم أيًّا من الطرفين.
إليكم إيضاحا حديثا لمدى القوّة التي بلغها الميل نحو سباق الخيول الآخذ بالتزايد: في الأحد الماضي، 12 سبتمبر/أيلول، أجرَت صحيفة نيويورك تايمز استطلاعا للآراء يُظهر تقدُّم بايدن بتسع نقاط في ولاية مينيسوتا، وكان العنوان على مقالتها حول الولاية كالتالي: “مينيسوتا: البعض يرى هامشا لترامب”. أو كما حدث البارحة، مثلما لاحظ مات فايسر من الواشنطن بوست ضمن تغريدة، عندما ألقى جو بايدن خطابه حول التغير المناخي، ثمَّ تلقّى من الصحافة ثلاثة أسئلة: عمَّ سيكون خطابه في فلوريدا في اليوم التَّالي؟ لماذا تتدنَّى أرقامه في أوساط الناخبين ذوي الأصول الإسبانية؟ وهل ستُحارب بضراوة أكبر؟ كما جادلت في مواضع كثيرة من كتاب “تفتيت الأخبار”، فإنَّ أسئلة من هذا النّوع كثيرة في غمرةِ هوس المراسلين السياسيين بأسئلة مُرتجَلة.
وأقترح التَّالي: اتباع نصيحة وردت في مقالة لدان فرومكين، أو أخرى كتبها جاي روزن، بشأن كيفيَّة التخلّي عن حجّة تكافؤيّة الطرفين وتوجيه القدرات التحليلية التي تنزع باتّجاه التعليق التكتيكي بهدف القول بوضوح إنّ شخصا ما يُمارس الكذب وشخصا آخر لا يفعل ذلك، والإفصاح عمّا هو على المحكّ. يجادل روزن أيضا أن الإعلام مطالب بتشكيل “فريق محاكاة تهديد” بهدف التنبؤ بالجهود المبذولة لتقويض الانتخابات القادمة، فما هو على المحكّ أكثر من مجرّد سباق آخر.
تسلية المشاهدة دائما ما ستجلب جمهورا أكبر من جمهور الأخبار. خلال عامَيْ 2015 و2016، ثبتَ أنَّ مُعدِّي البرامج التلفزيونية يعجزون عن مقاومة الجماهير التي تجلبها عروض ترامب. أمَّا الآن فقد اختفى عنصر الجِدَّة من تلك العروض، وبات جمهورها مقتصرا على المخلصين. لكنْ لم يزل بوسعك أن ترى الاستهواء لتغطية كل ما يفعله، مباشرة، والأهمَّ من ذلك، التسلّي بآخر مُزحة أو فورة غضب له. إن أعظم ميزة إستراتيجية يمتلكها ترامب هي التضليل: إجبار أو إغواء العقل الجماعيّ لنسيان ما حدث بالأمس، إذ تُطلَق ألعاب ناريَّة جديدة اليوم. بينما ظلّت مأساة القنصليّة الأميركية في بنغازي، ليبيا، عندما كانت هيلاري كلينتون تعمل وزيرة للخارجيّة تظهر في الأخبار لسنوات، وخضعت على الأقلّ لعشر جلسات استماع في الكونغرس. مرَّت أقل من ثلاثة أشهر منذ آخر مرة ظهرت فيها الرشوة الروسيّة لقتلة الجنود الأميركيين في أفغانستان، بجانب شح التغطية الإعلاميَّة للخبر.
دونالد ترامب ضعيف في استقاء المعرفة من الكتب، لكنّه حاذق جدا في إدارة الانتباه. والتحدّي الذي يواجهه المراسلون والمحررون إنَّما يكمن في إبقاء الانتباه مُسلَّطا على موادّ “أخبار الأمس” التي ستكون مهمّة غدا، فيما يخصّ حالة الاقتصاد وموضع أميركا من العالم وبُنَى الحُكم الديمقراطيّ. إن الأمر يتعلق برؤية الأشياء بوصفها دفقا مستمرّا ورؤيتها بوصفها كلًّا واحِدا، أي أن نكون أكثرَ شبها بماثيو أرنولد، وأقلَّ شبها بقط يُطارد نقطة من ضوء الليزر”.
عندما يُنادي مستشار رئاسي أُدين بعدد من الجنح ثمَّ أفلَت من العقاب بفضل تدخّل مباشر من ترامب بتطبيق “القانون العرفي” في حال جاءت نتائج الانتخابات ضدَّ ترامب، فإنَّ ذلك لا ينبغي أن يكون خبرا ليوم واحد فقط. وروجر ستون الذي أطلَق ذلك النداء الأسبوع الماضي معروف بتمثيليّاته الانفعاليّة. لكننا إن كنّا قد تعلّمنا شيئا حول ترامب ورفاقه، فهو التشكيك في حقائقهم مع الإيمان التامّ بنيّاتهم. كذلك الأمر مع جهود ترامب نزع الشرعيّة سلفا عن أي صوت لا يصبّ في صالحه. إنَّ عزفه اللا منتهي على نغمة “النظام مهترئ، أيَّها الرفاق، النظام مهترئ” يبلغ من التدميرية أنْ تكون له سابقة واحدة فقط في التَّاريخ الأميركي الحديث كلّه. كانت هذه النقطة محل إصرار من الرئيس الأميركيّ قبل أربع سنوات، حتى مالت كفّة أصوات المجمع الانتخابي لصالحه. لا يمكننا أن نتأكد مما هو أكثر تدميرية حاليا: رئيس يحثّ طيفا واسعا من الجمهور جهرا على التشكيك بالعمليّة الانتخابية، أو أن يرحّب ذلك الرئيس نفسه بالتدخّل الأجنبي بتلك العمليّة. وكلاهما خطوات باتّجاه السلطويّة والخطر، والوعي بهما يُمكن أن يُشكِّل عمليّة التغطية الصحفية يوميا. حول ضعف التغطيّة الإعلامية كتبت مارغريت سوليفان مؤخرا: “إنَّ التاريخ لن يرأف بنا”. لكن لا يزال هناك وقت للتكيُّف.
كل مؤسسة أميركية تخضع للاختبار حاليا، من الشرطة إلى خدمات البريد، من القضاء إلى أنظمة التصويت، من الصحة العامّة إلى التعليم، ومن مجالس بلديات المدن إلى مجلس الشيوخ الأميركي، جميعُهم يرزحون تحت الضغوط التي لم نكن نتوقّعها، يتحمّلون الضربات من كل مكان دفعة واحدة. وقد يعتمدُ مستقبل البلاد على استجابتنا نحن لهذه الضغوط.
إنَّ المؤسسة التي أنا جزء منها، ألا وهي الإعلام، تخضع للاختبار الآن. إنَّ الصحافة ليست الجزء الوحيد من الأزمة المؤسساتيّة في أميركا، لكنّها جزء مهمّ من المأزق الذي نحن فيه، ومن الأمل بالخروج منه.
فمنذ ميلادِ الصَّحافة وهي متثاقلة الخُطى ومضطربة وارتجاليّة. نحن في أحسن أحوالنا نلتقطُ الأمور على حقيقتها بوتيرة عاديّة، وبشكل تزايدي، لكننا نلتقط كثيرا من الأشياء على عكس ما هي عليه. معظمنا في هذه المهنة يبذل أقصى ما لديه من قدرات متواضعة، لكنَّ أي أمل بالقيام بشيء أفضل يعتمد على القدرة على التعلُّم. سرعان ما ستظهر السَّاعة 6 صباحا، ثمَّ سيبدأ المنبّه بغناء “I Got You Babe” مرة أخرى، لكن اليوم يمكننا القيام بالأمور على نحو أفضل.
____________________________________________________________________
هذا المقال مترجم عن The Atlantic