نجح دونالد ترامب في إحداث ثورة بالمعايير السياسية الأميركية، ونجح في إثارة حماس ملايين المواطنين ودفعهم للمشاركة السياسية بصورة غير مسبوقة، ولا أتوقع أن تنتهي الترامبية حتى مع هزيمة ترامب وخروجه من البيت الأبيض كما تذهب توقعات أغلب نتائج الاستطلاعات.
قبل 4 سنوات مثّل ترامب تيار التغيير، الذي جاء مغردا من خارج دهاليز السياسة الأميركية مدركا أن بلاده والعالم يمران بلحظات استثنائية لا يجوز معها اتباع أساليب تقليدية سواء في الحملة الرئاسية أو في طريقة الحكم.
ومثلت طبيعة شخصية ترامب عنصرا جاذبا لملايين الناخبين ممن اعتراهم القلق على ما يرونه تغييرا سكانيا مقصودا خلال نصف القرن الأخير، والذي جاء نتاجا لهجرة ما يقرب من 60 مليون شخص من دول أميركا الوسطى الكاثوليكية بالأساس وآسيا غير المسيحية، لجعل أميركا ومجتمعها أكثر تنوعا واختلافا عما ألفه الكثير من الأميركيين.
وبلغ عدد سكان أميركا هذه العام ما يقرب من 330 مليون نسمة، منهم 60.4% من البيض مقابل 18.3% من الهيسبانيك (مكسيكيون كاثوليك بالأساس)، و13.4% من السود الأفارقة، و5.9% من الآسيويين، والبقية متنوعة. في ذات الوقت انخفضت نسبة البروتستانت من 50% في 2003 لتصل 36% في 2017، كما تقلصت نسبة المسيحيين إجمالا لتنخفض من 83% إلى 72% في الفترة نفسها، ويرفض الكثير من المتعصبين البيض البروتستانت الاعتراف بواقع أميركا الجديد، حيث يرون في التغيرات تلك تهديدا وجوديا لهم ولأميركا التي في مخيلتهم الجمعية.
قبل 4 سنوات فاز ترامب لمخاطبته جمهورا يشعر بالجرح والهزيمة بطريقة أبوية بها عطف ووعود غير واقعية؛ إلا أنها كانت ضرورية.
ويؤمن التيار المحافظ الواسع المؤيد لسياسات ترامب أن هناك صحوة دينية داخلية يصاحبها دعوات لدور متنامٍ للدين “المسيحي” في المجتمع، وهو ما يمثل انعكاسا أو صدى لأفكار فريق كبير من الأميركيين، الذين يقطن أغلبهم المناطق الريفية أو الجنوب، وضواحي الولايات المحافظة.
نجح ترامب لإدراكه عدم أهمية الإطار الأيديولوجي لأغلب الأميركيين مقابل إدراكه اهتمامهم الكبير (مثل بقية شعوب العالم) بهويتهم وانتمائهم الديني والإثني والعرقي.
قبل 4 سنوات فاز ترامب لمخاطبته جمهورا يشعر بالجرح والهزيمة بطريقة أبوية بها عطف ووعود غير واقعية؛ إلا أنها كانت ضرورية. أرضى ترامب المحافظين الاجتماعيين المتدينين، الذين يمثلون حجر الأساس وسط الفئات المؤيدة للحزب الجمهوري عن طريق الوقوف في وجه سياسات أقرتها إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، ورأوها استفزازية ومعادية لقناعاتهم الدينية مثل تقنيين زواج المثليين أو دعم الجماعات المؤيدة للإجهاض بأموال دافعي الضرائب.
لم تكفِ خطابات ترامب العنصرية والفاشية خلال سنوات حكمه ضد كل ما هو غير مسيحي أبيض كي تثني الجمهوريين عن الاستمرار في دعمه؛ بل يبدو أنها كانت السبب المباشر وراء هذا الاصطفاف.
لم يتفوه ترامب حتى اللحظة بكلمه “آسف” أو “لم أكن أقصد ذلك”، وكان كل ما ذكره كفيلا بإسقاط أي مرشح تقليدي.
أدرك ترامب أهمية إثارة الجدل والحماس في ظل شعبوية يمينية متصاعدة حول العالم، وكذلك حجم الغضب في الداخل الأميركي من اقتصاديات وسياسات العولمة، التي تبنتها واشنطن، ومهدت لها الطريق خاصة مع هجرة المصانع للصين، وعدم توفر بديل للعمالة الأميركية.
وفاز ترامب لأسباب عدة من أهمها نجاحه في تحصين نفسه ضد أي أخطاء أو سقطات، يقول ما يقول، ويخطئ ما يخطئ، وذلك كله بدون حساب.
لم يتفوه ترامب حتى اللحظة بكلمه “آسف” أو “لم أكن أقصد ذلك”، وكان كل ما ذكره كفيلا بإسقاط أي مرشح تقليدي.
“أميركا أولا” و”لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى” و”ضرورة بناء أسوار وحواجز لمنع الهجرة” كلها شعارات لم يخترعها ترامب؛ بل هي موجودة، ولم تختف منذ تأسيس الدولة الأميركية، ولن تختفي حال هزيمة ترامب.
انقسم المجتمع الأميركي، والذي يعكسه تقارب استطلاعات الرأي بين بايدن وترامب، وهو ما يظهر في صورة صراع ثقافي لم تشهد البلاد له مثيلا من قبل، ومهد هذا الانقسام الطريق لفوز ترامب بالرئاسة قبل 4 سنوات، وزاد ترامب من حجم وهوة الانقسام، وجعله مستمرا متوهجا حتى مع التعرض لجائحة حصدت أرواح ما يقرب من ربع مليون أميركي، وأصابت ما يقرب من 9 ملايين آخرين.
ومثّل ترامب وسيطرته على الجمهوريين بصورة كاملة بما فيها تيارات الحزب التقليدية واليمينية المحافظة؛ شهادة ميلاد جديدة في ظل استمرار التغيرات السكانية المعادية للجمهوريين.
قبل أشهر حث القس الشهير جيري فالويل جونيور أتباعه من المحافظين المسيحيين على “التوقف عن انتخاب مرشح طيب قد يكون قائدا مسيحيا مثاليا.. علينا انتخاب قائد محنك مثل ترامب في كل مستويات الحكم؛ لأن الديمقراطيين الليبراليين الفاشيين يلعبون بنا كي ندعم قادة محافظين ضعفاء من أصحاب الأخلاق الرفيعة”.
لا يتوقع أن تُسفر هزيمة ترامب في انتخابات 2020 أو نجاحه، ومن ثم خروجه من البيت الأبيض عام 2024، عن اندثار التيار الفكري، الذي عبر ترامب عنه وامتطاه خلال السنوات الأربع الأخيرة. سيجدد هذا التيار نفسه من خلال فرز عدد من الزعامات، التي دعمت ترامب بشدة، واقتربت منه، واستفادت من كشفه لطبيعة هذه التيارات اليمينية والتعبير الصريح عن هواجسها وتفضيلاتها.
ويبقى عدد من الساسة الجمهوريين ينتظرون خروج ترامب من المشهد لبدء خطوات البحث عن زعامة تيار وُجد ليبقى، شخصيات مثل السيناتور توم كوتن، والمندوبة السابقة بالأمم المتحدة نيكي هيلي، والسيناتور تيد كروز، ووزير الخارجية مايك بومبيو، والسيناتور ماركو روبيو، وبالطبع نائب الرئيس مايك بنس، ينتظرون طي صفحة ترامب ليبدأ التنافس فيما بينهم على تجديد الترامبية لتناسب غياب شخصية ترامب الطاغية.