المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية :
تصاعد الجدل حول أسباب ودوافع تنامي التطرف بين شباب المهاجرين في أوروبا، وأجريت العديد من الدراسات والاستقصاءات التي حاولت التعرف على الديناميات الاجتماعية المحركة للارهاب، والجذور والمحددات النفسية المهيئة لانغماس شباب يحيا في كنف الثقافة الأوروبية في أنشطة وممارسات ارهابية ضد مجتمعاتهم، وذلك في محاولة للوصول إلى فهم أعمق وتعامل أمثل يحول دون تصاعد الظاهرة في المستقبل، خاصة عقب ما أثير من تساؤلات جوهرية حول ما إذا كانت الحكومات الأوروبية قد فعلت ما يكفي لتعزيز اندماج المهاجرين بشكل عام والمهاجرين المسلمين بشكل خاص في المجتمع الأوروبي، فقد أشار العديد من الخبراء إلى أن الفشل الماضي في دمج المسلمين بشكل كامل في الحياة المدنية والسياسية والاقتصادية الأوروبية قد جعل بعض المسلمين الأوروبيين أكثر قابلية للانجذاب نحو الإيديولوجيات المتطرفة، وتحاول الحكومات الأوروبية الآن الاستجابة لهذه المخاوف بمزيد من الاستراتيجيات التي تسير في مسارين متوازيين، الأول يهدف إلى تعزيز اندماج المسلمين في المجتمع الأوروبي، بينما يهدف المسار الآخر إلى تعزيز الإجراءات الأمنية وتشديد سياسات الهجرة واللجوء لمنع التطرف ومكافحة الإرهاب[1].
أولا: اشكالية السياق المهيىء للتطرف في أوروبا
شهدت العديد من الدول الأوروبية، وخاصة دول أوروبا الغربية، تدفقات ضخمة للمهاجرين المسلمين خلال منتصف القرن الماضي، وعلى الرغم مما تشير له الدراسات من أن نسبة السكان المسلمين في أوروبا تعد صغيرة نسبياً، فإنها تشير أيضًا إلى تزايد أعدادهم نتيجة لاستمرار هجرة المسلمين وارتفاع معدلات المواليد بين المسلمين مقارنة بغير المسلمين في أوروبا، ويطرح هذا الوجود المتنامي مجموعة واسعة من الإشكاليات المتعلقة بالسياسات الاجتماعية والاقتصادية للحكومات الأوروبية، فالإدراك المتنامي بأن بعض شرائح المسلمين في أوروبا قد تكون أكثر عرضة للتطرف والتجنيد من قبل العناصر الإرهابية قد أثار العديد من المخاوف الأمنية والتي تصاعدت بصورة ملحوظة منذ هجمات الحادي عشر سبتمبر 2001[2].
ـ الإرهاب والتطرف الديني في أوروبا
وعلى الرغم من أن الارهاب في أوروبا لم يرتبط تاريخيا بالمسلمين، كما أن الهجومان اللذان وقعا في النرويج في يوليو 2011 من قبل متطرف نرويجي الأصل والجنسية وهو مسيحي يميني متطرف وغيره من هجمات دللت على أن العناصر الارهابية قد تنتمي لأي عرق أو دين أو أيديولوجية سياسية، على الرغم من ذلك فإن أحداثا أخرى مثل تفجيرات مدريد التي وقعت في مارس 2004 وقامت بها خليه استوحت أفكارها من تنظيم القاعدة، ومقتل صانع الأفلام الهولندي ثيو فان جوخ في نوفمبر 2004 على يد متطرف مسلم هولندي، وتفجيرات لندن في يوليو 2005، قد ساهمت في اعادة قضية “التطرف الإسلامي” المحلي إلى واجهة النقاش السياسي الأوروبي[3]. وقد برز الإسلام باعتباره المحور الرئيسي لمناقشات الهجرة والتنوع في أوروبا، وثارت العديد من النقاشات التي ركزت على انفصال المهاجرين المسلمين عن المجتمعات المضيفة، وتغذي هذه النقاشات المخاوف بشأن مدى توافق قيم المهاجرين مع القيم الديمقراطية الليبرالية للغرب، وحول المعتقدات الدينية الأصولية والتطرف “المحلي” الذي يمكن أن يؤدي إلى التطرف العنيف، وما تشير له التفسيرات الأصولية للدين من “أيديولوجيا” تتجه بعيدًا عن الحداثة التي تحفز على أقل تقدير الانسحاب من المجتمع وفي أسوأ الحالات العنف ضد المجتمع الأوسع الذي يُنظر إليه المهاجر على أنه يتنافى مع مبادئه الدينية. إضافة إلى ذلك فقد تحول بعض اللاجئين في أوروبا إلى أعداء للغرب وثقافته ووجوده، وعلى الجانب الآخر تحول الغرب بثقافته المغايرة ونمط حياته المختلف وممارساته المنافية لتعاليم الدين (من وجهة نظرهم) إلى عدو في الشرق الأوسط، وهو ما يمكن أن يطلق عليه “الخوف الأيدولوجي” لأنه يتضمن بشكل أو بآخر أشكال من الأيديولوجيات الأخرى: الإسلاموية، والفاشية، ومعاداة السامية وكل الأيديولوجيات القائمة على ممارسة العنف كأداة تغيير سياسي.[4]
ـ المهاجرون المسلمون في الغرب
في الوقت الذي يستخدم فيه المتطرفون الإسلامويون التطرف اليميني للادعاء بأن الغرب معادي وعنيف تجاه الإسلام يوجد على الجانب الآخر المتطرفون اليمينيون يستخدمون التطرف الإسلامي ليجادلوا بخطورة المهاجرين المسلمين على أمن المجتمعات الغربية، إذ يروج المتطرفون الاسلاميون بأن هناك حربا من الغرب ضد الاسلام يتم التدليل عليها من خلال تصاعد دعوات حظر الحجاب في فرنسا وبلجيكا وألمانيا وحظر المآذن في سويسرا في عام 2009 ويستخدمون ذلك كتأكيد على القمع والظلم والعداء للإسلام ويحاولون استخدامه لأغراض الإثارة السياسية والتصعيد[5]، بل أحيانا تسعى التنظيمات الراديكالية إلى تحريض السلطات الغربية على اتخاذ تدابير أكثر تشدداً وقسوة من أي وقت مضى، والتي ينجم عنها فصل الشباب المسلم عن المجتمع وجعله أكثر تقبلاً للرسائل المتطرفة ومحاولات التجنيد، وتساهم النزاعات بين الجماعات في المجتمع والاستجابات السياسية التقييدية في جعل رسائل المتطرف أكثر مصداقية. ومن ثم فإن الشعور بأن المسلمين يواجهون الكثير من المظالم وأن الغرب يسعى لتغيير الإسلام أو تدميره، أو حتى أنه في حالة حرب مع الإسلام ، يمهد الطريق لإضفاء الشرعية على العنف كدفاع عن النفس، وبالتالي يجب على المسلم “الحقيقي” أن يتحمل القتال في وجه العدوان، ويصبح العنف شيئا واجبا، وأخلاقياً أو حتى إلزامياً للدفاع عن عقيدة المرء و”الإخوان” و”الأخوات” المهددين في جميع أنحاء العالم، ومن أجل تصحيح الأخطاء المتصورة يصبح المهاجرون متحمسون أخلاقيا لتبني العنف باسم جماعتهم الدينية ضد المظالم الغربية.[6]
وتواجه الأقلية المسلمة في أوروبا أشكالًا مختلفة من سوء التقدير والاقصاء، وهناك العديد من الدراسات التي توثق المشاعر العامة المعادية للمسلمين، والسلوكيات السلبية حيالهم، وليس فقط الحركات الشعوبية والسياسيون اليمينيون، بل يبدو هذا العداء متضمنا في تصريحات السياسيين الذين يجادلون بأن الإسلام لا يتوافق مع القيم والمعتقدات الغربية، مثل تصريح وزير الداخلية الألماني العلني بأن “الإسلام لا ينتمي إلى ألمانيا”، ويبدو أن المشاعر المعادية للمسلمين أكثر انتشارًا من مشاعر العداء ضد الأجانب بشكل عام في أوروبا[7]، وتتصاعد هذه المشاعر السلبية لتصل إلى حد الخوف المرضي من الاسلام لدى الغرب “فوبيا الاسلام”، والرهاب من المهاجرين المسلمين الذين تم تنميطهم دون تمييز في الغرب بوصفهم تهديدا محتملا وقائما.
ثانيا: فوبيا “المهاجر المسلم” والمجتمعات المستقطبة في أوروبا
أشارت دائرة الأمن والاستخبارات الدنماركية (PET) مبكرا (في عام 2007) إلى أن أكبر تهديد لدول مثل الدنمارك، كما هو الحال في معظم الدول الأوروبية، يأتي من مجموعات صغيرة، غير متطورة من الشباب المسلمين المتعاطفين مع إيديولوجية الجهاد العالمية التي ينتمي إليها تنظيم القاعدة، وبإمكانهم العمل بشكل مستقل، وبدون أي سيطرة، أو دعم وتخطيط من الخارج، فهؤلاء الأفراد قادرون على اختيار الأهداف والتخطيط والتمويل وتنفيذ الأعمال الإرهابية بأنفسهم، وأطلقت عليهم اسم “المتطرفون المحليون” “Home grown extremists”.[8] ويُعرَّف الإرهاب المحليHome grown terrorism بأنه عبارة عن أعمال عنف توجه في الغالب (وليس دائما) ضد أهداف في البلدان الغربية التي ولد أو نشأ فيها الإرهابيون لتحقيق أهداف سياسية أو أيدولوجية أو دينية.[9]
وقد لعبت الصورة النمطية للمهاجر وتحديدا المهاجر المسلم في أوروبا دورا محوريا في تعزيز حالة الخوف المرضي (الرهاب) لدى قاعدة عريضة من مواطني دول الاتحاد الأوروبي من خطورة المهاجرين وهو ما أدي إلى ما يمكن وصفه ب”فوبيا المهاجرين” وما يترتب عليه من انتشار ظاهرة التمييز العنصري في هذه الدول، وتتمثل ملامح الصورة النمطية السائدة في كون المهاجر[10]:
الصورة النمطية للمهاجر المسلم في أوروبا
- يؤمن بدين مغاير للدين المسحي وبالتالي فهو يمثل خطرا دينيا يتعين التوجس منه والحذر إزاءه، والواقع أن هذه الصورة التي تمثلتها أذهان العامة من المسيحيين تعد بمثابة صدى للدعاية المحمومة التي قادتها البابوية أثناء الحروب الصليبية.
- المهاجر هو حامل لمضامين ثقافية ولنمط من العادات والتقاليد التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنسجم مع الثقافة الغربية.
- المهاجر يمثل خطرا ديموجرافيا، ويأتي هذا الخطر من مصدرين اثنين، أولا ارتفاع معدل المواليد بين عناصر الهجرة الإسلامية، وثانيا الانخفاض “المزعج” للمواليد الجدد بين السكان الأوروبيين، خاصة في ظل التوقعات التي يروج لها باحتمال أن تتحول بعض المدن الأوربية إلى مدن ذات أغلبية مسلمة ما بين 2020 و2025.
- المهاجر هو مصدر للعنف والإرهاب والتطرف، وقد تعززت هذه الصورة عقب الممارسات الترهيبية التي ضربت أقطاب العواصم الغربية ورسختها التصورات الاستشرافية العنصرية التي جعلت من المهاجر المسلم إرهابيا يعشق القتل وقتل الرؤوس.
قد تكون النتيجة الأكثر خطورة للتأكيد على أن اللاجئين يشكلون خطراً أمنياً على الدول الغربية هو التأثير الاستقطابي الذي تحدثه هذه القضية على المجتمعات الديمقراطية، واستغلال وسائل الإعلام اليمينية أي صلة بين المهاجرين والعنف، في الوقت الذي يقلل فيه اليساريون في الغالب من التهديدات المحتملة للمهاجرين، ففي الولايات المتحدة اتجه دونالد ترامب في حملته الانتخابية إلى التركيز على ما يمكن وصفه بإثارة القلق تجاه الغرباء، وفي أواخر عام 2017، قام الرئيس الأمريكي في نهاية المطاف بإصدار قرار حظر السفر على أشخاص من عدة بلدان (غالبيتهم من المسلمين)، فقد كان رهاب الأجانب موجودًا أيضا في الحملة التي أدت إلى استفتاء بقاء المملكة المتحدة ضمن الاتحاد الأوروبي (Brexit) في عام 2016. وفي أوروبا، أدى تدفق أكثر من مليون لاجئ في عام 2016 وحده إلى تنشيط الحركات اليمينية المتطرفة وزيادة شعبية الأحزاب السياسية القومية، مثل حزب الجبهة الوطنية في فرنسا، وحزب البديل من أجل ألمانيا (AFD) الذي فاز في انتخابات البرلمان، ليمثل أول حزب قومي متطرف يفوز بمقاعد في البرلمان منذ الحرب العالمية الثانية، حيث حصل على 90 مقعدا وحل في المرتبة الثالثة في الانتخابات الألمانية التي جرت الأحد 24 سبتمبر 2017، مما أدى إلى موجة احتجاجات قام بها مناهضين للفاشية ثارت في شوارع برلين،[11] وفي ديسمبر 2017، سار الآلاف من المتعصبين البيض واليمينيين المتطرفين من مختلف البلدان في وارسو ببولندا، بشعارات مناهضة للهجرة ولافتات تتضمن اساءة موجهة إلى المسلمين في أوروبا، وهذا الاستقطاب الناشئ والذي من المتوقع أن يترتب عليه بالضرورة قيام كل طرف بشيطنة الطرف الآخر يشكل تهديدًا أكبر لاستقرار القارة من الأخطار التي تزعم وجودها داخل حركات اللاجئين نفسها.[12]
وعلى الجانب الآخر، أظهرت المسوح التي أجريت في أوروبا عامة أن السياق المجتمعي الأوروبي الأقل ترحيباً بالمهاجرين يرتبط بهوية دينية ومعتقد ديني أقوى، وأشكال أكثر صرامة للسلوك الديني بين المهاجرين المسلمين، والشباب المسلم، وبتوسيع نطاق “نموذج تحديد الرفض” في مجال علم النفس الاجتماعي إلى المجال الديني وجدت دراسات مختلفة في أوروبا أن الرفض والإقصاء مرتبطان بانتماء أقوى للمجموعات المسلمة وزيادة المشاركة في الممارسات الدينية، علاوة على ذلك، فإن السياق العدائي قد يعزز المعتقدات الأصولية ويدعم التطرف كشكل من أشكال المقاومة ضد مجتمع مضيف غير داعم، حيث تسمح الهوية الإسلامية للشباب المسلم بالتعبير عن استيائهم بطريقة متماسكة ومنظّمة.[13]
وتشير جميع النماذج النظرية تقريباً إلى أهمية إدراك المهاجر للقبول والاحترام والانتماء والاعتراف، وأن ثقافة الشكوك والمراقبة، ومشاعر التحقير والإذلال تحفز التشويش المجتمعي وفك الارتباط بالسياق وهو ما قد يجعل شباب الأقليات المسلمة أكثر تقبلاً للمعتقدات الأصولية والتطرف، وأن شعور الرفض والإذلال يحفز البحث عن الإدماج والكرامة، وتقدم الإسلاموية رداً على سعي الفرد للانتماء والاحترام ومخرجاً للإحباطات الناتجة عن شعور المهاجر بكونه مواطن من الدرجة الثانية يعيش في مجتمع غربي معادٍ لا مكان فيه للمسلمين[14].
خلاصة القول، فإن أوروبا اليوم تقف في مفترق طرق نتج عن ازدواجية مضطربة مقسمة بين حاجتها للبقاء مخلصة لقيمها وحرياتها ومبادئها الديمقراطية، والحفاظ على الحرية والعدالة والحاجة لحماية مواطنيها من الإرهاب الجديد، وصعود القادة والأحزاب اليمينية التي تطالب بالنقيض، وتعزز عودة “سياسات الخوف”. والحقيقة إن استثارة الخوف من عدو حقيقي أو متخيل يجب أن تتم كراهيته وقتاله هو أمر شائع سواء بين الإسلاميين المتطرفين أو الشعبويين المتطرفين في الولايات المتحدة وأوروبا، وتلك هي الأرض التي يجري تمهيدها للتغيير السياسي، ولعل الخطاب الذي يحض على الكراهية هو أقوى ناقل للكراهية من الجيل الثاني أو الثالث من المهاجرين الشباب في الغرب إلى الشباب في الشرق الأوسط، فتعزيز شعور الكراهية ضد عدو محدد تؤجج حربًا خطيرة، وغير تقليدية يعززها الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.