مر العالم في عام 2020 وخصوصاً منطقة الشرق الأوسط وما حوله بأحداث حافلة غيرت الكثير، بدءاً بما سببته جائحة كورونا، إلى الحروب والنزاعات التي تحولت أحداثها بشكل كبير، كالحرب في ليبيا، أو الحرب الأذربيجانية الأرمينية على ناغورنو قره باغ، أو الصراع الدامي في منطقة تيغراي الإثيوبية، وغيرها من المناطق. فما أبرز الصراعات التي سنستمر في مشاهدتها ونواكب تطوراتها خلال عام 2021؟
1- ليبيا
لا تزال الأمور تراوح مكانها في ليبيا مع نهاية عام 2020 ودخول العام الجديد، نعم أن العمليات العسكرية والقتال توقف مؤقتاً بين حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً والتي تتخذ من الغرب الليبي مقر لها، وبين قوات حفتر وأنصاره بالشرق الليبي، وقد استأنفت الأمم المتحدة المفاوضات الهادفة إلى إعادة توحيد البلاد، لكن التوصل إلى سلام دائم في ليبيا سيظل صراعاً شاقاً.
وفي 23 أكتوبر/تشرين الثاني الماضي، قام اللواء المتقاعد خليفة حفتر المدعوم من مصر والإمارات العربية المتحدة وروسيا وفرنسا، وحكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج المدعومة من تركيا، بتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار رسمياً، أنهى المعركة التي اندلعت في ضواحي طرابلس وأماكن أخرى منذ أبريل/نيسان 2019. حيث أسفرت المعارك عن مقتل حوالي 3000 شخص وتشريد مئات الآلاف. وأدى التدخل العسكري التركي المباشر لمساعدة حكومة السراج الشرعية في أوائل عام 2020 إلى عكس نتيجة المعركة ورد هجوم حفتر عن طرابلس.
ولقي وقف إطلاق النار موضع ترحيب، لكن تطبيقه كان متأخراً، وسحب حفتر قواته ومرتزقته من الخطوط الأمامية للمعركة وانسحب من كثير من المناطق، فيما ثبتت حكومة الوفاق الوطني وقف إطلاق النار والتزمت به. ومع ذلك، لا يزال التحشيد العسكري لدى الجانبين متصاعداً وخصوصاً على جبهة سرت، وتواصل طائرات الشحن العسكرية الأجنبية الهبوط في القواعد الجوية الليبية، ما يشير إلى أن الداعمين الخارجيين ما زالوا يعيدون إمداد المعسكرين، وهو ما يعني تجدد المعارك في أي لحظة.
ولا تزال الآمال على التقدم في المفاوضات لإعادة توحيد بلد مقسم منذ عام 2014 مستمرة. وقد جمعت محادثات الأمم المتحدة التي عقدت في نوفمبر/تشرين الثاني 75 شخصية ليبية، تم تكليفهم بالاتفاق على حكومة وحدة مؤقتة وخريطة طريق للانتخابات. لكن المحادثات شابها الجدل حول كيفية اختيار الأمم المتحدة لهؤلاء المندوبين، وسلطتهم القانونية، ومزاعم محاولة الرشوة. وقد وافق المشاركون على إجراء انتخابات في نهاية عام 2021 ولكن ليس على الإطار القانوني الذي يحكم تلك الانتخابات.
ويكمن الخلاف حول تقاسم السلطة في قلب كل المشاكل، حيث يطالب داعمو حفتر بأن تضع الحكومة الجديدة معسكرات قوات حفتر، وحكومة الوفاق الوطني على قدم المساواة. ويعارض خصومه إدراج القادة الموالين لقوات حفتر في أي نظام جديد لا سيما أن بعضهم تلاحقه تهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
كما أن القوى الأجنبية الداعمة لحفتر لديها وجهات نظر متضاربة حول هذه المسألة، إذ تريد القاهرة وأبوظبي الحد من نفوذ أنقرة في ليبيا وتعزيز نفوذها بين السياسيين الموالين لحفتر. فيما تحرص روسيا، التي تدعم حفتر أيضاً على الاحتفاظ بموطئ قدمها في البحر المتوسط ، لكن ليس من الواضح ما إذا كانت تفضل الوضع الراهن الذي يحافظ على نفوذها في الشرق، أم بتفضيل حكومة جديدة كاملة ذات تمثيل كبير لمعسكر حفتر.
في النهاية، لا يعرف إذا ما كان سيندلع القتال مرة أخرى في المستقبل القريب بين معسكري الشرق والغرب الليبي، لأن الجهات الخارجية، مع حرصها على تعزيز نفوذها، لا تريد جولة أخرى من الأعمال العدائية المفتوحة. ولكن كلما طال عدم تنفيذ شروط وقف إطلاق النار، زادت مخاطر وقوع حوادث قد تؤدي إلى العودة إلى الحرب. ولتجنب هذه النتيجة، يجب على الأمم المتحدة المساعدة في صياغة خارطة طريق لتوحيد المؤسسات الليبية المنقسمة وتهدئة التوترات بين الأعداء الإقليميين.
2- اليمن
تسببت حرب اليمن في أسوأ كارثة إنسانية في العالم كما تقول الأمم المتحدة. كما أدى تفشي وباء فيروس كورونا وغيره من الأمراض، إلى تفاقم معاناة المدنيين اليمنيين الذين تطاردهم بالفعل الفقر والجوع والأمراض الأخرى، فيما يحذر كبار المسؤولين في المجال الإنساني مرة أخرى من مجاعة أقسى وأشد في عام 2021.
وقبل عام، كانت هناك فرصة سانحة لإنهاء الحرب، لكن المتحاربين بددوها. حيث كان المتمردون الحوثيون يتحدثون عبر القنوات الخلفية مع المملكة العربية السعودية، الراعي الرئيسي للحكومة اليمنية المعترف بها من الأمم المتحدة بقيادة الرئيس عبد ربه منصور هادي. كما كان السعوديون يحاولون “التوسط” بين الأطراف المناهضة للحوثيين التي كانت تتنافس على عدن، المدينة الجنوبية التي تعتبر العاصمة المؤقتة للحكومة الشرعية، والتي يسيطر عليها قوات المجلس الانتقالي الجنوبي الانفصالي، المدعوم من الإمارات منذ أغسطس/آب 2019.
وكان يمكن أن يكون هذان المساران التفاوضيان معاً بمثابة لبنات بناء لعملية سياسية بوساطة الأمم المتحدة. وبدلاً من ذلك، تصاعد القتال الدامي، لا سيما في مأرب، آخر معقل حضري لحكومة هادي في الشمال. واستغرق الأمر عاماً من المفاوضات السيئة قبل أن تتفق الأطراف المناهضة للحوثيين على كيفية توزيع المسؤوليات الأمنية في الجنوب، وإبعاد قواتها عن الخطوط الأمامية، وتشكيل حكومة جديدة. ومن المرجح أن تواجه المفاوضات المزيد من العراقيل بشأن نقل الحكومة إلى عدن، كما اصطدمت جهود الأمم المتحدة لصنع السلام بالكثير من الجدران وتعرضت للعديد من العراقيل.
وكما تقول مجلة foreign policy الأمريكية، فإن لدى كل من الحوثيين وحكومة هادي أسباباً للمماطلة. إذا انتصر الحوثيون في مأرب، فسيكونون قد سيطروا على محطات النفط والغاز والطاقة في المحافظة، ما يسمح لهم بتوليد الكهرباء والإيرادات التي هم في أمسّ الحاجة إليها. ولا يمكن للحكومة أن تتحمل خسارة مأرب، لكنها تحمل أملاً آخر، إذ قد تصنف إدارة ترامب المنتهية ولايتها الحوثيين كمنظمة إرهابية، ضمن إطار تشديد الخناق على إيران وأذرعها في المنطقة. ومثل هذه الخطوة من شأنها أن تزيد من مخاطر المجاعة من خلال إعاقة التجارة مع اليمن، التي تستورد 90% من قمحها وجميع أرزها، كما أنها ستدق ناقوس الموت لجهود وساطة الأمم المتحدة.
على أي حال، لم يعد اليمن البلد الذي كان عليه في الأيام الأولى للحرب. لقد تشرذمت البلاد مع احتدام الصراع. لا يحتكر الحوثيون والحكومة الأرض أو الشرعية المحلية، إذ إن الجهات الفاعلة الأخرى لديها مصالح ونفوذ وإفساد لأي مسارات، وفي غياب تصحيح المسار، يبدو أن عام 2021 سيكون عاماً قاتماً آخر لليمنيين، مع استمرار الحرب وانتشار الأمراض والمجاعة المحتملة، وتلاشي احتمالات التسوية، وسيزداد جوع ملايين اليمنيين يوماً بعد يوم.
3- إثيوبيا
في 4 نوفمبر/تشرين الأول الماضي، بدأت القوات الحكومية الإثيوبية هجوماً على منطقة تيغراي بعد هجوم قاتل، واستيلاء على وحدات عسكرية اتحادية في المنطقة. وبحلول نهاية تشرين الثاني/نوفمبر، دخل الجيش إلى ميكيلي عاصمة تيغريان. وهجر قادة جبهة تحرير تيغراي الشعبية المدينة، مدعين أنهم يرغبون في تجنيب المدنيين القتال. ولا تزال الكثير من التفاصيل غير واضحة حول هذا الملف، في ظل التعتيم الإعلامي الذي تمارسه حكومة آبي أحمد. لكن من المحتمل أن يكون العنف قد قتل آلاف الأشخاص، بمن فيهم العديد من المدنيين، حيث نزح أكثر من مليون شخص داخلياً؛ فيما فر نحو 50 ألف شخص إلى السودان.
وتعود جذور أزمة تيغراي في إثيوبيا إلى سنوات طويلة. ووصل رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى السلطة في 2018 بعد احتجاجات مدفوعة إلى حد كبير بالغضب المستمر منذ فترة طويلة على الائتلاف الحاكم في ذلك الوقت، والذي كان في السلطة منذ عام 1991. وتميزت فترة آبي أحمد، التي بدأت بجهود كبيرة لإصلاح نظام الحكم القمعي، بفقدان نفوذ قادة تيغراي، الذين يشتكون من كونهم كبش فداء بسبب الانتهاكات السابقة، وينظرون بحذر إلى تقاربه مع العدو القديم للجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، الرئيس الإريتري أسياس أفورقي. ويتهم حلفاء آبي أحمد نخب جبهة التحرير الشعبية لتحرير تيغري بالسعي للاحتفاظ بحصة غير متكافئة من السلطة، وعرقلة الإصلاح ، وإذكاء المشاكل من خلال العنف.
ويعد نزاع تيغراي هو الأكثر مرارة في إثيوبيا، لكن هناك خطوط صدع أوسع. حيث تتنازع المناطق القوية بينما يقاتل مؤيدو النظام الفيدرالي العرقي الإثيوبي معارضي هذا النظام، الذين يعتقدون أنه يرسخ الهوية العرقية ويعزز الانقسام. بينما يلقي العديد من الإثيوبيين باللوم على “جبهة تحرير شعب التغراي” في سنوات من الحكم القمعي، فإن حزب “تيغراي أن” ليس الوحيد الذي يخشى أن آبي أحمد يهدف إلى التخلص من النظام في محاولة لمركزية السلطة. والجدير بالذكر أن منتقدي آبي أحمد في منطقة أوروميا المضطربة – الأكثر سكاناً في إثيوبيا – يشاركون هذا الرأي، على الرغم من انتساب آبي أحمد لعرقية الأورومو.
السؤال الآن، هو ماذا سيأتي بعد ذلك؟ تقدمت القوات الفيدرالية وسيطرت على ميكيلي والمدن الأخرى بسرعة نسبية. وتأمل أديس أبابا أن تؤدي ما تسميه “عملية إنفاذ القانون” المستمرة إلى هزيمة المتمردين المتبقين. وترفض إجراء محادثات مع قادة جبهة تحرير شعب تيغري. ويقول حلفاء آبي أحمد إن السماح بالإفلات من العقاب للخارجين عن القانون الذين يهاجمون الجيش وينتهكون الدستور يعتبر خيانة. وتعين الحكومة المركزية الآن حكومة إقليمية مؤقتة، وأصدرت أوامر اعتقال بحق 167 من مسؤولي وضباط الجيش التيغرايين، ويبدو أنها تأمل في إقناع التيغرايين بالتخلي عن حكامهم السابقين. ومع ذلك، فإن الجبهة الشعبية لتحرير تيغري لا يزال لديها شبكة شعبية قوية.
وفي 2021، سيكون التحرك نحو حوار وطني لمعالجة الانقسامات العميقة في إثيوبيا أمر بالغ الأهمية بالنسبة لآبي أحمد الذي يبحث عن بقاء أطول في السلطة. وفي غياب ذلك، فإن التوقعات قاتمة بالنسبة لتلك البلاد ومحيطها الإفريقي.
4- الصراع الإيراني الأمريكي
أدى اغتيال القائد الإيراني قاسم سليماني وثاني أهم رجل في البلاد بعد خامنئي في كانون الثاني/يناير 2020، إلى رفع درجة التوترات الأمريكية الإيرانية نحو نقطة الغليان. وفي النهاية، كان رد إيران على اغتيال سليماني محدوداً نسبياً، ولم يختر أي من الجانبين التصعيد المباشر، على الرغم من أن حدة التوتر ظلت مرتفعة بشكل خطير.
ويمكن للإدارة الأمريكية الجديدة تهدئة واحدة من “أخطر المواجهات في العالم”، لا سيما من خلال العودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015 ، المعروف أيضًا باسم خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA). لكن القيام بذلك بسرعة، وإدارة العلاقات مع المملكة العربية السعودية وإسرائيل – وكلاهما معارض بشدة لإيران – ثم الانتقال إلى محادثات حول قضايا إقليمية أوسع، لن يكون عملاً عادياً أمام إدارة جو بايدن.
وتضمنت سياسة إدارة ترامب تجاه إيران ما سياسة ما سمّته “الضغط الأقصى”، وهذا يعني الخروج من خطة العمل المشتركة وفرض عقوبات قاسية من جانب واحد على إيران على أمل تقديم طهران تنازلات أكبر على برنامجها النووي، وتخفيف نفوذها الإقليمي في المنطقة، بل وحتى – كما يأمل بعض المسؤولين الأمريكيين- الإطاحة بالنظام في طهران.
ودمرت العقوبات الأمريكية الاقتصاد الإيراني لكنها لم تحقق شيئاً آخر كتراجع طهران أو كسر شوكتها، وطوال فترة رئاسة ترامب، نما برنامج إيران النووي بشكل متزايد غير مقيد بخطة الاتفاق النووي. وتمتلك طهران صواريخ باليستية أكثر دقة من أي وقت مضى وربما أكثر من ذلك.
ونمت التوترات الإقليمية بشكل أكبر بعد اغتيال سليماني، سواء في الأراضي العراقية ضد المصالح الأمريكية، أو تلك الهجمات على أهداف صناعة الطاقة السعودية المنسوبة على نطاق واسع إلى طهران، ما أدى إلى نشوب نزاعات متعددة. وفي النهاية، لا شيء يشير إلى أن النظام الإيراني معرض لخطر الانهيار، على الرغم من الاحتجاجات الدورية من السخط الشعبي.
وفي الأسابيع الأخيرة، أدى اغتيال أكبر عالم نووي إيراني، محسن فخري زادة، حيث نُسبت مسؤولية تصفيته إلى إسرائيل، إلى زيادة التوترات ودفع إيران إلى التهديد بتوسيع برنامجها النووي بشكل أكبر. ويبدو أن واشنطن وبعض حلفائها في المنطقة مصممون على إلحاق أقصى قدر من الألم بإيران وتقييد مجال المناورة لإدارة بايدن القادمة. ولا تزال مخاطر المواجهة قبل مغادرة ترامب لمنصبه قائمة حيث تستهدف الميليشيات الشيعية الموالية لإيران الأهداف الأمريكية في العراق.
وأشار بايدن إلى أنه سوف يوافق على الانضمام مجدداً إلى الاتفاق النووي إذا استأنفت إيران الامتثال، ثم يسعى للتفاوض على اتفاق جديد يشمل التعامل مع الصواريخ الباليستية والسياسة الإقليمية لطهران. وقد أشارت طهران إلى أنها مستعدة أيضاً للالتزام المتبادل بالاتفاق النووي القائم. ويبدو أن هذا هو الرهان الأكثر أماناً والأسرع، على الرغم من أن عوائق كثيرة ستظهر بين الطرفين بسبب العراقيل التي وضعتها إدارة ترامب.
لكن يمكن لإدارة بايدن أن تضع ثقلها الدبلوماسي الكامل وراء مثل هذا الجهد، وإذا عاد الطرفان إلى خطة العمل الشاملة المشتركة، فسيتمثل التحدي الأكبر في معالجة التوترات الإقليمية والاستقطاب الذي سيواصل، والذي إذا تُرك سيتفاقم بشكل كبير، ويمكن أن يثير الصراع بشكل أخطر في الخليج العربي، وبالتالي لا بد لإدارة بايدن من حثّ إيران ودول الخليج العربية على الدخول في حوار جاد لتقليل التوترات الإقليمية ومنع اندلاع الحرب.
5- التنافس الروسي التركي
ليست روسيا وتركيا في حالة حرب، وربما هما الآن في حالة تعاون، ومع ذلك كثيراً ما تدعم أنقرة وموسكو الأطراف المتعارضة، كما هو الحال في سوريا وليبيا والقوقاز. وغالباً ما يرى الأتراك والروس بعضهم البعض كشركاء، ويقسمون الخلاف حول قضية واحدة من المناقشات حول الأخرى، ويتعاونون حتى عندما يتصارع حلفاؤهم المحليون عليها. ومع ذلك، يُظهر إسقاط تركيا لطائرة روسية في عام 2015 بالقرب من الحدود التركية السورية وقتل عشرات الجنود الأتراك في غارات جوية شنتها قوات النظام السوري، المدعومة من روسيا في عام 2020، أن خطر المواجهات غير المتوقعة بين الطرفين مرتفعاً. في حين أثبت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين حتى الآن براعتيهما في إدارة مثل هذه الحوادث، فإن أي خلاف قد يؤدي إلى تفاقم الصراعات التي تورط فيها كلاهما.
وتتجلى تناقضات العلاقات بين أنقرة وموسكو في أوضح صورها في سوريا. وكانت تركيا من بين أشرس الخصوم الأجانب لبشار الأسد وداعماً قوياً للمعارضة. في غضون ذلك، ألقت روسيا بثقلها خلف الأسد وتدخلت في عام 2015 لتحويل الحرب بشكل حاسم لصالحه. منذ ذلك الحين، تخلت تركيا عن الإطاحة بالأسد، وبدت أكثر اهتماماً بمحاربة المجموعات الكردية المسلحة، كوحدات حماية الشعب (YPG)، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني (PKK)، الذي يشن حرباً ضد تركيا منذ ما يقرب من أربعة عقود والذي قامت أنقرة والولايات المتحدة وأوروبا بتصنيفه كمنظمة إرهابية.
وأوقف اتفاق مارس/آذار 2020، الذي جمع موسكو وأنقرة، جولة القتال الأخيرة في إدلب، آخر جيب يسيطر عليه المعارضون للنظام في شمال غرب سوريا، وأظهر مدى حاجة القوتين التركية والروسية لبعضهما البعض.
وتدرك أنقرة أن هجوماً آخر للنظام على إدلب خلال 2021، يمكن أن يدفع بمئات الآلاف من السوريين إلى تركيا، وهو أمر يتوقف على الدعم الجوي الروسي الذي من المستبعد تمريره في القريب. لكن لا يزال الوضع الراهن هشاً، الحرب السورية لم تنته بعد، ولا يزال شن هجوم آخر تدعمه روسيا في إدلب ممكناً.
وفي ليبيا أيضاً، تدعم روسيا وتركيا طرفين متعارضين. ويدعم المرتزقة الروس قوات حفتر، بينما تدعم تركيا حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً والمتمركزة في طرابلس. ولا يزال وقف إطلاق النار الهش ساري المفعول منذ أكتوبر. لكن ليس من الواضح على الإطلاق ما إذا كان الاتفاق يمكن أن يضمن عدم منح روسيا موطئ قدم تسعى إليه في تلك البلاد.
وتدخلت روسيا وتركيا في الحرب الأخيرة في ناغورنو قرة باغ بين أذربيجان وأرمينيا. ولدى روسيا تحالف عسكري مع أرمينيا لكنها تجنبت الانحياز الكبير لها وتوسطت في النهاية في وقف إطلاق النار الذي أنهى القتال. بالمقابل قدمت تركيا الدعم الدبلوماسي والعسكري لأذربيجان، حيث ساعدت الطائرات بدون طيار التركية في تدمير الدفاعات الجوية الأرمنية (روسية الصنع). وعلى الرغم من التنافس بينهما في جنوب القوقاز، فازت كل من موسكو وأنقرة هذه المرة بالاتفاق. ونشرت روسيا قوات حفظ السلام وزادت نفوذها بشكل كبير في المنطقة. فيما لعب تركيا دوراً مهماً في انتصار أذربيجان وستستفيد من الممر التجاري الذي أنشأته اتفاقية وقف إطلاق النار.
ومن المفارقات أنه مثلما تتنافس موسكو وأنقرة في عدد متزايد من ساحات القتال، فإن علاقاتهما أقوى مما كانت عليه في وقت سابق. وتعد “صداقتهما” هي أحد معالم العالم الجديد الذي تقاوم فيه القوى غير الغربية بشكل متزايد الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وتكون أكثر حزماً وأكثر استعدادًا للدخول في تحالفات متقلبة.
وشهدت روسيا تصاعد التوترات مع الغرب على خلفية الحروب في أوكرانيا وسوريا واتهامات بالتدخل في الانتخابات وتسميم المعارضين على أراض أجنبية وكذلك العقوبات الأمريكية والأوروبية. وتستاء تركيا من دعم الولايات المتحدة لوحدات حماية الشعب الكردية، ورفض تسليم فتح الله غولن – الرجل المتهم بتدبير محاولة انقلاب في عام 2016 – فضلاً عن الصدامات مع أوروبا وتحيز الأخيرة لليونان في صراع شرق المتوسط. وتغلف العقوبات التي فرضتها واشنطن رداً على شراء أنقرة واختبارها لنظام الدفاع الصاروخي الروسي S-400 هذه التوترات.
ومن خلال إبرام الصفقات الثنائية في مناطق الصراع المختلفة، ترى كل من روسيا وتركيا إمكانية تحقيق مكاسب لكلاهما. ومع ذلك ، فإن الروابط الناشئة عن الفرص لا تدوم دائمًا. مع قرب قوات كل منهما من الخطوط الأمامية المتعددة ، تكثر نقاط الاشتعال المحتملة. قد يؤدي التراجع في العلاقات بينهما إلى حدوث مشاكل لكلا البلدين وأكثر من منطقة حرب.