بعد أحداث اقتحام الكونغرس الأمريكي، حظر تويتر حساب الرئيس السابق دونالد ترامب وعشرات الآلاف من حسابات أنصاره من أعضاء اليمين المتطرف، وتلا ذلك حظر منصة Parler اليمينية أيضاً، والآن هؤلاء إلى الصين وروسيا طلبا للمساعدة، فما القصة؟
لدى مؤسس موقع Daily Stormer المنتمي لتيار النازية الجديدة بعض النصائح لمديري تطبيق Parler، بعدما حُظِرَ التطبيق من الإنترنت الأسبوع الماضي: اطلبوا مساعدة روسيا أو الصين.
إذ أدت الأحداث العنيفة التي شهدتها الولايات المتحدة يوم الأربعاء 6 يناير/كانون الثاني عندما اقتحم أنصار ترامب يقودهم أعضاء جماعات يمينية متطرفة الكونغرس وأوقفوا مؤقتاً جلسة التصديق على فوز الرئيس الحالي جو بايدن في الانتخابات، تحركت شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى التي تتحكم في الفضاء الإليكتروني لحصار أنصار اليمين المتطرف وتجفيف منابع رسائله.
فلم يعد بالإمكان الوصول إلى تطبيق Parler وهو التطبيق المفضل لأنصار ترامب والمؤمنين بنظريات المؤامرة الذين يعتبرهم تويتر وفيسبوك متطرفين للغاية، بعد أن تم حظره من جانب متجري تطبيقات جوجل وآبل ثُمَّ خدمة أمازون للاستضافة السحابية بسبب فشله في كبح المحتوى العنيف والمُهدِّد على المنصة خلال أعمال الشغب التي اتخذت طابع التمرد في مبنى الكونغرس في ذلك اليوم الذي أصبح يطلق عليه الأربعاء الأسود.
وبحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية أعده فيرغوس رايان المحلل لدى المركز الدولي للسياسة السيبرانية التابع لمعهد السياسة الاستراتيجية الأسترالي، كتب أندرو أنغلين على موقع Daily Stormer بعد فترة قصيرة من حظر تطبيق Parler: “أود فقط أن يكون ذلك واضحاً تمام الوضوح. لا توجد شركة إنترنت ستدعم حرية تعبيركم إن كانت وسائل الإعلام تقول إنَّكم لا يجب أن تتمتعوا بحرية التعبير، إلا إن كانت شركة صينية أو روسية”.
فأنغلين نفسه وموقعه Daily Stormer ينتمي لليمين المتطرف، إذ جرى ملاحقة الموقع وإخراجه من الشبكة العنكبوتية عقب مسيرة “توحيد اليمين” المميتة عام 2017 في مدينة تشارلوتسفيل بولاية فيرجينيا. وكان أنغلين قد استخدم الموقع للإشادة بموت السيدة المناهضة للمسيرة هيذر هاير، ما دفع عدداً من المنظمات بينها مُزوِّد خدمات البنية التحتية للموقع Cloudflare إلى إنهاء خدماته، وهو ما أدَّى إلى تعطُّل الموقع (لفترة قصيرة).
لماذا الصين وروسيا؟
تتمتع كلٌّ من الصين وروسيا بمهارة عالية في فرض الرقابة على أي معلومات تعتبرانها غير مقبولة. وتُشغِّل الصين، على وجه التحديد، أكثر أجهزة الرقابة شمولاً وتطوراً في العالم على الإطلاق. ويعكس تحول كليهما على ما يبدو إلى ملاذين آمنين للمحتوى الغربي المتطرف وجود تحالف متنام ومثير للانزعاج بين اليمين المتطرف والحكومات السلطوية.
إذ يتطلَّب تشغيل موقع ما تعاون قائمة طويلة من الخدمات التي تكون غير ظاهرة في كثير من الأحيان مثل خدمات استضافة المواقع. ويُعَد دور المنصات الموجودة على رأس هذه “الكومة” التقنية، مثل فيسبوك وتويتر، في الإخفاق في فرض الخطاب المعتدل دوراً ثابتاً، لكن لم تضطر بعض هذه الخدمات غير الظاهرة إلى الاعتراف بأنَّ إبقاء المواقع المسمومة عاملةً ليس عملاً حيادياً إلا مؤخراً.
وشقَّ موقع Daily Stormer ومنصات قومية بيضاء متطرفة أخرى طريقاً للعودة إلى الإنترنت، يعتمد على عدد متضائل من الممانعين، مثل الرافضين لحرية التعبير في الغرب، وأيضاً، وهو الأهم، الانتهازيين الغامضين في الصين وروسيا. وغايتهم النهائية هي إنشاء المواقع التي لا تعتمد على خدمات من الشركات الرئيسية لاستضافة مواقع الإنترنت وحمايتها، ما يجعل من الصعب تعطيلها. وهو المسار الذي بدأ Parler سلوكه الآن، بفضل شركة حماية المواقع الروسية المملوكة للحكومة DDoS-Guard.
يتمثل جزء رئيسي من استراتيجية موقع Daily Stormer في الحصول على خدمة “نظام أسماء النطاقات” الخاصة به من الصين. ونظام أسماء النطاقات هي خدمة تُعيِّن سلسلة من الأرقام التي تُحوِّل عنوان بروتوكول الإنترنت (IP adress) إلى أسماء نطاقات واضحة للأفراد مثل “foreignpolicy.com”. وكما أشار موقع Ars Technica في عام 2019، فإنَّ نظام أسماء النطاقات الخاص بموقع Daily Stormer “تمتد عبر مجموعة كبيرة من عناوين بروتوكولات الإنترنت الفردية، كلها مُقدَّمة بخوادم من الصين”.
وقال أنغلين في نصيحته لتطبيق Parler إنَّ “العثور على مستضيفين جدد ليس بتلك الصعوبة، كان الأمر سهلاً بالنسبة لي” لأنَّني “لطالما كنتُ داعماً نسبياً لجمهورية الصين الشعبية، أو على الأقل لم أكن مناوئاً لها”. لكنَّه شدَّد على أنَّ أي مواقع يمينية تواصل انتقاد بكين “ستُقابَل بقدر أقل بكثير من الود الذي قابلتُه”.
شعار المرحلة.. عدو عدوي صديقي
وفي حين تزعم المجموعات اليمينية المتطرفة في كثير من الأحيان أنَّها مُعارِضة للحزب الشيوعي الصيني، انعكس الموقف الداعم لبكين في قرَّاء موقع Daily Stormer، مثل الإرهابي الذي نفَّذ هجوم كرايست تشيرش في نيوزيلندا، وهو أسترالي مؤمن بتفوق العِرق الأبيض وتبرَّع للموقع ثلاث مرات في عام 2018، أي قبل عام من قتله 51 مصلياً مسلماً بمسجدين في مدينة كرايست تشيرش النيوزيلندية.
وسافر الإرهابي 6 مرات إلى الصين بين عامي 2014 و2015، وكتب في بيانه أنَّ الصين هي “الأمة صاحبة القيم السياسية والاجتماعية الأقرب” إلي قيمه، وأنَّه معجب بالأمم “غير المتنوعة”. لقد أفسحت المراسي الأيديولوجية المستمدة من الماركسية اللينينية للحزب الشيوعي الصيني المجال أمام نزعة إثنية قومية حازمة، لاسيما في عهد الرئيس شي جين بينغ، ويتجلى هذا الموقف بشكل مخيف للغاية في قمع وإخضاع بكين لملايين الإيغوريين.
تمثل شركات خدمات الإنترنت الروسية خياراً آخر للمواقع المتطرفة مثل Daily Stormer. فبعدما استخدم الموقع نظام نطاق أسماء من الصين، انتقل الموقع إلى نطاق “.su”، وهو نطاق من مستوى النطاقات العليا كان مخصصاً للاتحاد السوفيتي السابق (وما يزال قيد الاستخدام حتى اليوم).
وحتى السبت 16 يناير/كانون الثاني، كانت شركة DDos-Guard المملوكة لروسيا تقدم “حماية مُوزَّعة ضد هجمات الحرمان من الخدمة” لشركة استضافة المواقع VanwaTech الموجودة في واشنطن، والتي كانت بدورها توفر خدمات استضافة لموقع Daily Stormer ومنتدى 8kun، الذي كان معروفاً سابقاً باسم 8chan وجرى ربطه بتفوق العِرق الأبيض والنازية الجديدة ومعاداة السامية والعديد من عمليات إطلاق النار الجماعية ومواد استغلال الأطفال.
قطعت شركة DDos-Guard العلاقة مع شركة VanwaTech عقب تحقيق أجرته صحيفة The Guardian البريطانية أظهر أنَّ الشركة الروسية “كانت مُسجَّلة بموجب شراكة محدودة، وهو هيكل مالي في اسكتلندا يسمح لغير المقيمين بإنشاء شركات دون إجراءت تدقيقية كبيرة”. ووفقاً لمجلة Vice، يشمل العملاء الذين يتعاملون مع الشركة الروسية وزارة الدفاع الروسية، وجهاز الأمن الفيدرالي الروسي.
وحتى الآن، لا تجري عملية ملاحقة المواقع المسمومة بهدف حظرها على الإنترنت إلا على نحو ظرفي أو في مناسبات معينة، وعادةً لا تتم إلا عقب حادثة عنف مرتبطة بنشاط على تلك المواقع على الإنترنت. وحتى آنذاك، يتطلب تعطيل تلك المواقع أن تُقرِّر قائمة طويلة من الخدمات التي تُشكِّل “الكومة” التقنية، بصورة مشتركة أن تفعل ذلك.
كتب ماثيو برنس، المدير التنفيذي لشركة Cloudflare، في تدوينة تشرح قرار شركته بالتوقف عن تزويد خدمات نظام أسماء النطاقات وخدمات الوكالة (proxy) لموقع Daily Stormer عام 2017، أنَّه يمكن لأيٍّ من الخدمات المكونة للكومة التقنية هذه أن “يُنظِّم المحتوى على الإنترنت. السؤال هو: أي منها ينبغي عليه ذلك؟”. وتوسَّل برنس عملياً في تلك التدوينة، وتدوينة أخرى كتبها في عام 2019، الحكومات أن تتدخّل وتقدم إرشاد تنظيمي.
والأمر كله يعيد طرح الجدال المتعلق بالخط الفاصل بين حرية التعبير والدعوات المحرضة على الكراهية والعنف والعنصرية، وهو ما يبدو أنه لب الصراع القائم حاليا فيما يتعلق بالحرية المطلقة التي تتمتع بها شركات التكنولوجيا العملاقة التي تتحكم في الإنترنت بشكل عام.
لكن حتى لو نجحت الحكومات الغربية عموما، والأمريكية خصوصاً، في وضع إرشادات صارمة لبث المحتوى على الإنترنت لتجفيف منابع اليمين المتطرف، فإنه من المرجح أن تستمر المواقع المتطرفة والهامشية في البحث عن ملاذ في نطاقات اختصاص قضائي أخرى مثل روسيا أو الصين، حيث يمكنها بسهولة مقاومة الضغط القانوني والسياسي والدبلوماسي.
وبالنسبة لأنغلين، يبدو الخطر قريباً. فكتب على موقعه ذات مرة: “نصيحتي الوحيدة هي: اذهبوا وتحدثوا إلى الصينيين. ربما لن ينظروا إلى المحتوى الذي تنشرونه، وربما سيدعمونكم في كلتا الحالتين، حتى لو كنتم مناهضين للصين، لأنَّكم تقفون ضد الحكومة الأمريكية. لا أعرف. لكن ليس لديكم أي خيارات أخرى”.