عرض – نرمين سعيد
أضحت التحالفات بين الدول أساسًا للعلاقات الدولية، بل محددًا لمدى استقرارها أو تذبذبها وفي هذا الإطار صدر كتاب في يونيو الماضي بعنوان “دروع الجمهورية: تحالفات أمريكا بين الأخطار والانتصارات” لكاتبته “ميرا راب هوبر”، ونشرت مجلة “فورين بوليسي” مراجعة للكتاب بقلم الكاتبين “سام وينتر” و “نيكيتا لالواني”.
الكتاب الذي يقدم أطروحة جديدة حول التحالفات الأمريكية يؤكد أن عالم ما بعد كوفيد-19 يتطلب مواءمات وتنسيقات جديدة مع الحلفاء ضد المخاطر المشتركة، وربما تم التأكيد على ذلك في خطبة الوداع التي ألقاها “جورج واشنطن” في سبتمبر من العام 1796 ونشرتها صحيفة “American Daily Advertiser”. الخطبة حملت في طياتها الحديث عن الشؤون الداخلية للبلد حديث النشأة والتحذير من مخاطر الأحزاب السياسية والطائفية، وقد أشار الكاتبان إلى تطرق جورج واشنطن في خطبته إلى الشؤون الخارجية أيضًا حيث أشار بعبارات لا لبس فيها إلى أنه ينبغي على البلاد “الابتعاد عن التحالفات الدائمة مع أي جزء من العالم الخارجي”. وأضاف “واشنطن” أن الأمة التي تنغمس في شعور كراهية أو صداقة دائمين تنتهج نهجًا من العبودية”. وأن كلا الشعورين كفيلان بتقويض مصالحها.
ويوضح الكاتبان فيما بعد وكنتيجة مترتبة على ما تقدم أنه ليس من المستغرب إذًا أن أمريكا وطوال فترة امتدت إلى 165 عامًا لم تكن تمتلك غير حليف واحد هو “فرنسا” وذلك بالرجوع لاتفاق تم توقيعه عام 1778 والذي بموجبه قامت باريس بتوفير الإمدادات العسكرية إلى الدولة حديثة النشأة .
إلا أن الوضع تغير في الفترة بين عامي 1948 و1955 حيث رسمت واشنطن تحالفات أمنية مع ما يقرب من عشرين دولة في أوروبا وآسيا، أما في الوقت الحالي فتمتلك الولايات المتحدة اتفاقيات مع أكثر من 60 دولة حول العالم.
ثم ينتقل الكتاب بعد ذلك لتناول الحقبة المعاصرة من حكم ترامب، ويشير إلى أن ترامب عازم على قلب نظام التحالفات الحالي؛ إذ إن التحالفات في أمريكا الآن أصبحت محاطة بالكثير من الانتقادات، ويشير المعارضون إلى أن تلك التحالفات لم تحقق ولم تنجز أي شيء لأمريكا.
ويرجع الكتاب التغير في النهج الأمريكي فيما يتعلق بالانضمام لمدرسة التحالفات، أنه طوال القرن التاسع عشر لم تكن لدى واشنطن حاجة لرسم خريطة تحالفات لأنها لم تكن تمتلك أي مستعمرات خارجية. ولكن في أعقاب الحربين العالميتين أدت التطورات التكنولوجية للمنظومة العسكرية في العالم إلى شعور الولايات المتحدة بأنها باتت مهددة ومكشوفة للأعداء.
وكانت هذه نقطة التحول التي شهدتها أمريكا، حيث اتخذ القادة السياسيون نهجًا جديدًا تزعّمه “هاري ترومان” الذي قال في أكتوبر من العام 1945 “لا يمكننا الاعتماد مرة أخرى على رفاهية الوقت”، كما قال وزير الخارجية الأمريكي في وقتها “دين أتشيسون” “لم تعد الولايات المتحدة قادرة الجلوس في الردهة ببندقية محملة، في وضع الانتظار “. وفي ذلك التوقيت تحديدًا كان لواشنطن مصلحة ملحة في ردع خصمها المعادي “موسكو” من الهيمنة على أوروبا وآسيا. حتى أنه وبحلول العام 1953 أضحت هذه الفكرة شديدة الوضوح في ذهن الساسة الأمريكيين إلى الحد الذي خلص فيه مجلس الأمن القومي إلى أن التحالفات “ضرورية”، لأن الولايات المتحدة لا يمكنها “تلبية احتياجاتها الدفاعية، حتى بتكلفة باهظة، دون دعم الحلفاء”
وفي فصل آخر، يناقش الكتاب فكرة مفادها أن “مدرسة التحالفات” قدمت لصناع السياسة الأمريكية حلًا مواتيًا لمواجهة الكثير من التحديات، خصوصًا تلك التي تفرضها بكين وموسكو في المعسكر الشرقي، فمن خلال الاتفاقات والترتيبات الأمنية تتمكن واشنطن من الحصول على قواعد مثالية للردع بعيدًا عن شواطئ الولايات المتحدة بآلاف الأميال، وتلك القوة ستمنح واشنطن ميزة نسبية في ردع الخطر ليس فقط عن نفسها ولكن عن حلفائها الذين ساهموا في توفير هذه القواعد المتميزة لها بالأساس.
وفي موضع آخر يشير كاتبا المقال، إلى دفاع “راب هوبر” عن أن استراتيجية التحالفات كانت مثمرة طوال فترة الحرب الباردة، وقد ساهمت في إعادة تأهيل ألمانيا واليابان وتحويلهما إلى ديمقراطيتين متماشيتين مع النظام العالمي الجديد.
كما ساعد نظام التحالف واشنطن على إبقاء حلفائها تحت السيطرة: على سبيل المثال، كبحت واشنطن جماح الحلفاء المؤيدين للشيوعية في آسيا عن طريق تحالفاتها في الشرق الآسيوي. كما ساعدت الضمانات الأمنية الأمريكية في إقناع كوريا الجنوبية وتايوان وألمانيا الغربية بالتخلي عن برامج الأسلحة النووية الوليدة آنذاك.
وحسب “هوبر” فإن النغمة التي عزفت على عدم جودة نظام التحالفات تصاعدت مع وصول ترامب للبيت الأبيض، حيث تم التشكيك في قيمة الناتو، كما تمت السخرية من حلفاء تقليديين لأمريكا مثل أستراليا وألمانيا، وقد كان لهذه النغمة انعكاسًا في سياسات فعلية اتخذها الجانب الأمريكي حيث تحول العداء مع برلين على سبيل المثال لأكثر من مجرد خطاب حينما أذهل ترامب في يونيو الماضي الحكومة الألمانية بالموافقة على خطة لخفض 9500 جندي متمركزين في ألمانيا، وهو تخفيض بأكثر من الربع.
وحسب هوبر أيضًا فإن نهج ترامب يخاطر بقوة الردع العسكري لواشنطن، كما أن الفكرة القائلة بأن التحالفات الأمريكية تجر البلاد لحروب غير مجدية بعيدة عن الصحة، وتدفع الكاتبة بأن واشنطن على سبيل المثال لم تبذل أي مجهود في مقابل تحالفها مع إسرائيل أو السعودية.
وعوضًا عن هدم نظام التحالفات من أساسه تحتاج واشنطن إلى إعادة مواءمة أوضاعها بما يتماشى مع عالم ما بعد كوفيد-19. وفيما يتعلق بوجود أمريكا كعضو في الناتو تقترح الكاتبة مواءمة مبنية على التركيز بشكل أكبر على القدرات الفريدة لكل بلد، على سبيل المثال، يمكن لإستونيا أن توفر الخبرة اللازمة بشأن القانون السيبراني والأمن السيبراني.
كما تتطلب الفترة القادمة الاعتراف بالتحدي الذي يمثله صعود الصين السريع، والذي قد يستلزم تأمين تحالف أمني مع اليابان لتثبيت صواريخ برية وسفينة على طول سواحلها في خطوة رادعة للصين.
وفي فقرة لاحقة، يعود كاتبا المقال ليؤكدا على أن الأفكار التي طرحتها “هوبر” في كتابها وإن كانت واعدة إلا أنها لم تحل معضلة وجود تهديد كبير لنظام التحالف. يتجلى مبدئيًا في تآكل الديمقراطية، إن لم يكن انهيارها، في العديد من الدول الأعضاء في الناتو، بما في ذلك المجر وبولندا وتركيا – التي شهدت علاقاتها مع الولايات المتحدة تراجعًا حادًا في العام الماضي. إلا أنهما يؤكدان أنه وبشكل عام، فقد عزز التهديد الناجم عن كوفيد-19 حجة مؤلفة الكتاب “راب هوبر”، حيث أظهر أهمية نظام التحالف وضرورة تكييف التحالفات مع الغايات الجديدة. خصوصًا بعد أن خلق تفشي الوباء فرصة للولايات المتحدة لتجديد تركيزها على التنسيق مع الحلفاء أو بمعنى آخر لجعل تحالفاتها نقطة محورية في معالجة التهديدات المشتركة، سواءً كانت تحديات عسكرية تقليدية أو مبادرات صحية عالمية، ولذلك فإن تعزيز التحالفات في الفترة القادمة على الأقل ينبغي أن يكون حجر زاوية في سياسات أمريكا الخارجية.