تلقت الولايات المتحدة 347 توصية، من بينها العديد من التوصيات الدولية التي اتفقت على وجود مظاهر لانتهاكات عديدة لا تتعامل معها الحكومة الأمريكية بجديه؛ مثل تنامي جرائم التمييز والعنصرية في المجتمع الأمريكي ضد المواطنين من أصول إفريقية وعربية.
وهي من المرات القليلة والنادرة التي تتعرض فيها الولايات المتحدة لمثل تلك الانتقادات الحقوقية من جانب أطراف دولية عديدة أرادت توجيه رسالة واضحة للولايات المتحدة بأن تنتبه إلى حقوق الإنسان الأمريكي قبل أن تقدم دروسًا فيها للآخرين. وهو أمر تزامن بشكل مدهش مع تولي إدارة بايدن التي أشهرت سيف حقوق الإنسان في وجه العالم منذ اليوم الأول وصدور تقرير الخارجية الأمريكية عن حقوق الإنسان في العالم والراصد لانتهاكات حقوق الإنسان من وجهة نظر الخارجية الأمريكية.
أعطى المشهد النادر داخل المجلس الدولي لحقوق الإنسان انطباعًا بأن السحر قد انقلب على الساحر؛ فالولايات المتحدة تمارس التدخل في الشؤون الداخلية للدول عبر حقوق الإنسان، وتستغلها كأداة للضغط السياسي، وترد عليها الدول بنفس الطريقة مع رصد نادر لانتهاكات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة داخل الأمم المتحدة.
وكانت المراجعة الأخيرة للولايات المتحدة قد بدأت في يناير 2020 بإنشاء مجموعة عمل تتألف من ثلاثة أعضاء تم اختيارهم عشوائيا في مجلس حقوق الإنسان وهي ألمانيا وجزر الباهاما وباكستان. وتم تكليف مجموعة العمل بمسؤولية تجميع المعلومات من منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الإقليمية وجماعات المجتمع المدني وتضمينها في تقرير نهائي صدر في ديسمبر.
وتضمن التقرير أيضًا توصيات من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بشأن الإجراءات التي يعتقدون أنه يتعين على الولايات المتحدة اتخاذها لتحسين سجلها. وبينما يحق للولايات المتحدة قبول التوصيات أو رفضها فإنها يتم تضمينها جميعًا في التقرير النهائي والذي يشكل سجلًا دائمًا. وفي عام 2015، دعمت الولايات المتحدة (كليًا أو جزئيًا) 75% من 343 توصية تم تقديمها خلال المراجعة السابقة الخاصة بها.
وأوصت الصين الولايات المتحدة بمكافحة التعصب الديني المتزايد والعنف الناجم عن كراهية الأجانب. أما إيران فقد انتقدت الولايات المتحدة لاغتيالها قاسم سليماني، وانضمت روسيا إلى المراجعة الدورية لسجل الولايات المتحدة في مجال حقوق الإنسان، حيث دعت الولايات المتحدة إلى ضمان حرية التعبير وحرية الإعلام، وخلق ظروف عمل آمنة للصحفيين.
اللافت أن مراكز الأبحاث الأمريكية رفضت تلك الانتقادات، ووصفت عملية المراجعة الدورية الشاملة بالعملية المعيبة التي تؤدي إلى معادلات أخلاقية خاطئة، إذ يتم الحكم على ديمقراطيات مثل الولايات المتحدة على قدم المساواة مع أنظمة وصفتها بالاستبدادية مثل كوبا والصين.
ودعت تلك المراكز إدارة بايدن الى العمل على ما أسمته إصلاح منظومة المراجعة الدورية الشاملة لحقوق الإنسان والتي انطلقت عام 2006، لمتابعة وفاء كل دولة بالتزاماتها وتعهداتها في مجال حقوق الإنسان وتتكرر كل خمس سنوات، وتخضع فيها كل دولة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة البالغ عددها 193 للمراجعة الدورية الشاملة، على أساس دورة تناوبية.
فيما دعا تقرير نشرته مجلة “ناشونال إنترست” إلى إصلاح عملية المراجعة الدورية الشاملة، ومراجعة نهج العضوية. وأشارت إلى أنه مع اعتزام إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن الترشح لانتخابات مجلس حقوق الإنسان العام المقبل، هناك طريقتان يجب على بايدن أن يدعمهما من أجل إصلاح المجلس:
أولاً: يجب أن تحدد الجمعية العامة للأمم المتحدة عضوية مجلس حقوق الإنسان من خلال التصويت بنظام الاقتراع العلني، وليس الاقتراع السري كما هو الحال حاليًا؛ نظرا لأن إجبار الدول على الإعلان عن أصواتها يمكن أن يثنيها عن دعم المنتهكين ويؤدي إلى وجود بعض المساءلة في البنية التحتية لحقوق الإنسان الأممية.
ثانيًا: يجب أن تكون هناك معايير أساسية لعضوية المجلس، وأن توضع على أساس نتائج تقرير الحرية العالمية السنوي الصادر عن مؤسسة “فريدوم هاوس ” والذي يقدم من وجهة نظرها نهجًا موضوعيًا قائمًا على الأدلة لتصنيف الدول بناء على مدى إتاحتها للحقوق السياسية والحريات المدنية.
وبعد وضع معايير العضوية، يجب على المجلس تمكين مجموعات العمل التي تقوم بعملية المراجعة الدورية الشاملة من فرض عملية تدقيق لتوصيات الدول الأعضاء. وهذا يشمل تطوير معايير صارمة لتحديد ما إذا كانت التوصيات صالحة أو ينبغي إلغاؤها بسبب المصالح السياسية لأي دولة. وأشارت المجلة إلى أن إصلاح المجلس لن يكون سهلًا؛ فقد حاولت الإدارات السابقة وفشلت.
الغريب أن مراكز الابحاث الامريكية تعاملت مع الانتقادات الحقوقية الدولية الموجهة للملف الحقوقي الأمريكي بطريقة مغايره لما تطالب به دول العالم حينما تتلقى مثل تلك التوصيات الدولية، حيث تدعو دائما إلى تطبيقها بشكل فورى وتهاجم من يرفضها لأسباب تخصه، بل رفضت من الأساس أن تحاسب الولايات المتحدة ووضعتها في مرتبه أعلى من الدول الأخرى في الأمم المتحدة، وهو ما يخل بمبدأ التكافؤ والمساواة بين الدول أمام أجهزة الأمم المتحدة.
ولم تكتفِ بذلك، بل دعت إلى تغيير قواعد اللعبة داخل الأمم المتحدة بوضع معايير للعضوية تضمن أن توجه الولايات المتحدة اللوم للدول الأخرى دون أن تتلقى ملاحظة واحدة على ملفها الحقوقي، ناهيك عن تحديدها مؤسسة فريدوم هاوس الأمريكية القريبة من الخارجية الأمريكية لتكون هي من يحدد الدول الحرة والديكتاتورية. وهو مقياس مخل بكل معايير الأمم المتحدة ويحمل تجرؤًا سافرًا على دور المفوضية السامية لحقوق الإنسان المعنية بقياس التقدم في مجال حقوق الإنسان داخل كل دولة وفق معايير اتفق عليها العالم عند إطلاق آلية المراجعة الدورية الشاملة.
ما تطرحه مراكز الأبحاث والتفكير من خطط لتغيير شكل آلية المراجعة الدورية الشاملة يحمل كثيرًا من الخطورة على الوضع الدولي، ويسمح بمزيد من توجيه وتسييس الملف من قبل الولايات المتحدة بتحويل تلك الآلية إلى سلاح تشهره في وجه دول لا تدور في فلكها، أو تفرض على دول أخرى قيمًا اجتماعية لا تقبلها، وهو أمر يفرغ الآلية من مضمونها، ويضعف خطط التطور المتدرج لمنظومة الحقوق والحريات داخل غالبية دول العالم واستقرت عليها الأمم المتحدة عند وضع تلك الآلية لتحقيق تقدم في حقوق الإنسان كهدف من أهداف الألفية.