كتبت _ هدي العيسوي
قال حسن إسميك رائد الأعمال العربي، إن الغرب استعان بأفكارنا نحن العرب ليحقق نهضة وازدهارا اقتصاديا في كثير من المناسبات التاريخية، مضيفا: “ألم يحن الوقت أن نستفيد من تراثنا الزاخر بالنظريات والمبادئ، ونطبقها لما فيه قوة لاقتصاداتنا وصون لاستثماراتنا وخير لشعوبنا؟”.
وأشار إسميك، إلى المفكر العربي الكبير عبد الرحمن ابن خلدون لتظهر جلية عبقريته وسبقه لأهل زمانه، وزماننا، مؤكدا أن كتابه “المقدمة” يرقى لأن يُصنَّف من أحد أهم الإنجازات الفكرية في العصور الوسطى، إذ يبلغ من الشمول والموسوعية حدّاً يجعله مرجعاً وركيزة للعديد من العلوم مثل التاريخ وعلم النفس والاجتماع والجغرافيا والعلوم السياسية وغيرها.
وذكر أن ما دفعه للعودة إلى كتاب “المقدمة” مستويات الضرائب المرتفعة التي تفرضها بعض الدول العربية على القطاع الخاص، لافتا إلى أن ابن خلدون خصص جزءا مهما من مقدمته للحديث عن موضوع الضرائب، وكان بلا منازع رائد فكرة أن “معدلات الضرائب المرتفعة تقلص القاعدة الضريبية لأنها تقلل من النشاط الاقتصادي”، والتي ارتكزت عليها نظريات كثيرة لاحقة، وقام عليها ما بات يُعرف إلى يومنا هذا بـ “اقتصاديات جانب العرض” التي ركزت على الحوافز والتخفيضات الضريبية كوسيلة للنمو الاقتصادي.
وأشار إلى ابن خلدون أوضح في كتابه أن معدلات الضرائب المرتفعة تقتل الحافز على العمل، وهذا ما أثبتته النظريات الحديثة، والتجارب المختلفة في كثير من الدول، المتخلِّفة والنامية والمتقدمة على حد سواء.
تابع: أن الاقتصاديين يعرفون في العالم كله آرثر لافر ومنحناه الشهير Laffer Curve، الذي يعبر عن علاقةٍ “مفترضة” بين النشاط الاقتصادي ومعدل الضرائب، ويشير إلى وجود معدل ضريبي “مثالي” يزيد من إجمالي الإيرادات الضريبية للدولة، وكلما زادت الضرائب عن هذا المعدل صار التأثير عكسياً فتقل بالمقابل الإيرادات والتحصيلات، ولكن يجهل كثيرون أن جذور هذه النظرية جاءت متضمَنة في مقدمة ابن خلدون الذي أكد على ضرورة التنبه لموضوع الضرائب المرتفعة، بل لقد وصل إلى أن فرضها سيؤدي إلى انهيار الدولة، فيقول:
«اعلم أن الدولة تكون في أولها بدوية… قليلة الحاجات لعدم الترف وعوائده، فيكون خرجها وإنفاقها قليلاً… ثم لا تلبث أن تأخذ بدين الحضارة في الترف وعوائدها… فيكثر خراج أهل الدولة ويكثر خراج السلطان خصوصاً كثرة بالغة… ولا تفي بذلك الجباية فتحتاج الدولة إلى الزيادة في الجباية… فيستحدث صاحب الدولة أنواعاً من الجباية يضر بها على البياعات ويفرض لها قدراً معلوماً على الأثمان في الأسواق وعلى أعيان السلع في أموال المدينة.. وربما يزيد ذلك في أواخر الدولة زيادة بالغة فتكسد الأسواق لفساد الآمال ويؤذن ذلك باختلال العمران ويعود على الدولة، ولا يزال ذلك يتزايد إلى أن تضمحل».
أضاف إسميك؛ “يؤدي فرضُ الحاكم لمثل هذه الضرائب المرتفعة، بحسب ابن خلدون، إلى خنق النشاط الاقتصادي وقتل حوافز العمل والاستثمار، فيؤدي آخر الأمر إلى انخفاض الإيرادات الضريبية.
ونوه بأن هذا لا يعني أن الضرائب غير مهمة، بل هي عند ابن خلدون بأهمية “الانفاق الحكومي” ذاته، وفي هذا التفصيل يمكن اعتبارُ ابن خلدون “كنزياً” قبل أن يولد جون ماينرد كينز بنصف قرن، فقد أدرك أن الإنفاق الحكومي مصدر رئيس لتنمية الاقتصاد، يساعد في نمو الدخل القومي، بالإضافة إلى أن الإيرادات الكافية ضرورية للحكومة للقيام بأدوارها الرئيسة ودعم مواطنيها وضمان سريان القانون والنظام والاستقرار السياسي.
وأوضح أن المشكلة تكمن عندما تتعسف الدول في فرض الضرائب، ظناً منها أن ذلك سيؤمن مصدراً إضافياً يغطي العجوزات في ميزانياتها، مشيرا إلى أن الزيادة الكبيرة في الضرائب ينتج عنها طلبات أكثر لتحصيل إعفاءات ضريبة، وهذه ليست مشكلة على الإطلاق إذا ما قورنت مع زيادة معدلات التهرب الضريبي، من قبيل عدم الإعلان عن الدخل والثروة، أو هجرة الأدمغة وبالتالي فقدان دافعي الضرائب ذوي المهارات العالية والدخل المرتفع، كذلك سيفقد العمال الحافز للعمل عندما يجدون أن مزيداً من الجهد من قبلهم سيزيد من النسب المقتطعة من أجورهم. تتفاقم المشكلة أكثر عند الانتقال من المستوى الفردي إلى مستوى الاستثمار.
وألمح رجل الأعمال، أنه يُلاحظ في الآونة الأخيرة أن بعض الدول العربية عالجت بعض ملفات الفساد القديمة عبر فرض ضرائب عالية جدا على القطاع الخاص، واقتطعت حصصاً كبيرة من بعض الشركات، ورغم أن ظاهر هذه الإجراءات مرتبط بالنوايا الحسنة والرغبة بتحقيق العدالة والإصلاح، إلا أنها إجراءات ستؤدي في الغالب إلى إضعاف القطاع الخاص بسبب تفشي هواجس الخوف والقلق، والتي لا تتفق مع البيئة الآمنة للاستثمار من قريب أو بعيد.
وأكد أن الأفضل للدول والمستثمرين، يتحقق بالابتعاد عن تدخل الأجهزة الأمنية، وبالتزام الطرق القانونية والقضاء العادل، والاعتماد على لجان متخصصة تتسم بالنزاهة والخبرة المطلوبة، وذلك لضمان أن لا تؤثر مثل هذه الإجراءات على رجال الأعمال أو تضر بمصالحهم، أما خلاف ذلك فسوف ينعكس سلباً على مجمل الاقتصاد الوطني لهذه الدول، وليس فقط على مصالح المستثمرين وأعمالهم.
وشدد على أهمية أن تعتمد الحكومة مبدأ المسامحة والتصالح في ما مضى من أخطاء، ولا تلجأ للمحاسبة عن الماضي إلا في الحالات المثبتة عبر القضاء وبأدلة مكتملة الأركان، خاصة وأن ما مضى قد مضى، والمهم هو المستقبل وما يضمن مصالح البلد ويحمي اقتصاده من الفساد، عبر قوانين عادلة تُطبق على الجميع دون استثناء، وخاصة المتنفذين والمسؤولين الحكوميين، والذين غالباً ما يؤدي فسادهم في القطاع العام إلى إفساد القطاع الخاص أيضاً، كونه لن يستطيع تفادي المنظومة القائمة أو معارضتها، فإما أن يشارك في الفساد أو أن ينكفئ على ذاته ويتراجع وينحسر.
واستطرد في حديثه: إن الضرائب المرتفعة تعد العدو الأول للقطاع الخاص، ومن غير المرجح أن يخاطر المستثمرون برأسمالهم إذا أُخذت نسب كبيرة من أرباحهم، الأمر الذي سيدفع بالشركات إلى إيجاد طرق لحماية رأسمالها من الضرائب، أو إلى نقل جزء أو ربما كلِّ عملياتها إلى الخارج.
وذكر أن بلجيكا التي تتصدر القائمة العالمية في المستويات الأعلى للضرائب، شهدت هروب الكثير من رجال الأعمال وتفضيلهم العمل في دول أخرى. وعلى صعيد موازٍ نقلت صحيفة الشرق الأوسط عن السياسي الألماني وعضو البرلمان الأوروبي أودو بولمان، قوله حول دراسة أجريت عام 2019: «يحرم التهرب الضريبي الأوروبيين من مبالغ هائلة تصل إلى 825 مليار يورو، وهو رقم مذهل، يقرب من 5 أضعاف ميزانية الاتحاد الأوروبي لهذا العام، أو 1650 يورو لكل مواطن».
ونوه بأن المشكلة تتفاقم وتبلغ ذراها في البلدان ذات الاقتصادات الأضعف والتي تعاني من “اللااستقرار” عموماً، ولا تشهد انتعاشاً كالاقتصاد الأوروبي، فالانكماش إذا ما ترافق مع ضرائب مرتفعة، سيؤدي بلا شك إلى مستويات عالية من الركود تهدد بيئة الأعمال كلها في هذا البلد.
ونوه إلى قول لافر بأن الآثار الاقتصادية لرفع معدلات الضرائب ستكون ضارة في أفضل الأوقات، وستكون أسوأ في خضم الاقتصاد الراكد. ولقد أصبحت هذه النظرية فيما بعد حجر الزاوية في السياسة الاقتصادية للرئيس رونالد ريغان، وأدت إلى واحدة من أكبر التخفيضات الضريبية في التاريخ. وخلال ولاية ريغان، ارتفعت إيرادات الضرائب السنوية للحكومة الفيدرالية من 344$ مليار عام 1980 إلى 550 ملياراً عام 1988، وازدهر الاقتصاد. لقد أثبت لافر من خلال الاقتصاد الأمريكي، نظريته، وأثبت من حيث يدري أو لا يدري نظرية ابن خلدون حول الضرائب.
وقال إنه يأمل بالنسبة للدول التي اختارت رفع الضرائب ومكافحة الفساد بطريقة قاسية، أن تعيد التفكير في خطواتها تلك قبل أن تؤدي بعض هذه الإجراءات القاسية إلى الإضرار بسمعتها العالمية فيما يتعلق باستقطاب الاستثمارات، والتي من المؤكد أنها ستتسبب في هروب رؤس الأموال ودمار القطاع الخاص. أما ما يمكن أن تحققه هذه الإجراءات من وفرات مالية كبيرة وسريعة فإن تأثيرها سيكون قصير المدى قد لا يتجاوز السنتين، ثم تعود المشكلة من جديد، ولذلك فربما يكون الحل الأفضل عبر فتح باب الاستثمار بكل حرية وشفافية، وتطوير القوانين الوطنية الناظمة للمشاريع الكبرى، والحد من التدخل الحكومي فيها.