منذ أن بدأ تاريخ تدوين السجلات العسكرية في مصر قبل خمسة آلاف ومائتي عام، تظهر حقيقة أن غالبية التهديدات والتحديات الوجودية التي واجهت الأمة المصرية قد أتت من الاتجاه الشمال الشرقي. إذ كانت إحداثيات المواجهة العسكرية المصرية الاستباقية للتهديدات تبدأ من سيناء ثم الهلال الخصيب حتى شمال سوريا حاليا، وصولاً لنهر الفرات شرقا. إذ تحركت الفيالق المصرية للدولة الحديثة – (1550-1077) قبل الميلاد – انطلاقا من قاعدة أمنية بالأساس مفادها: “ من يسيطر على فلسطين يهدد خط دفاع سيناء الأول، ومن يسيطر على خط دفاع سيناء الأوسط يتحكم في سيناء، من يسيطر على سيناء يتحكم في خط دفاع مصر الأخير”.
من هذه الدراية المعمقة بالجغرافيا السياسية ونقاط التهديد شمالاً وشرقًا وغربًا خاض الجيش المصري في السجلات العسكرية ما لا يقل عن 900 معركة حربية، هُزم في 12 منها فقط، بيد أن الاتجاه الاستراتيجي الذي نال وفرة من الاستقرار لقرون متصلة دون تهديد يرقي لدرجة “وجودي”؛ كان الاتجاه الاستراتيجي الجنوبي. وعلى مدار تاريخ مصر القديمة، والمملوكية والمعاصرة تحديدًا، حيث كان الجنوب جبهة آمنة نسبيًا تتحكم في شبكة مواصلات للتجارة تشمل المنطقة الممتدة من الصومال والشلال الرابع لنهر النيل وصولاً للأراضي المصرية.
بيد أن التطورات المتسارعة في القرن الحادي والعشرين والتي حفزت بروز تحولات أمنية عنيفة واتجاهات سياسية باعثة على الاضطراب وعدم الاستقرار الممتد؛ قد دفعت هي الأخرى بتغيير ما بدا أنه ثابت تاريخي. إذ تحول الاتجاه الاستراتيجي الجنوبي لمصر منذ عقد مضى لمصدر تهديد يرقي لدرجة التهديد “الوجودي”، وذلك للأسباب الآتية والمُرتبة من الأخف للأثقل تهديدًا:
1- تحويل نظام البشير للسودان لمركز دعم لوجيستي للشبكة الإقليمية الراعية للإرهاب العابر للحدود: إذ طغت الأيديولوجية الإسلاموية للبشير على شكل ووظيفة نظامه الذي تسبب في عزل السودان مع النظام الاقتصادي والسياسي المعولم، وتباعاً الاقتراب من المحاور الإقليمية صاحبة المشاريع التوسعية العقائدية. إذ كان نظام البشير يضع جغرافية السودان رهن أدبيات الأممية الإسلامية ومن يجيد توظيف خطاباً يتسق مع إطارها العام.
ولعل في الضوء الذي منحه نظام البشير لتركيا فيما يرتبط بإعادة تأهيل جزيرة سواكن المطلة على البحر الأحمر أواخر عام 2017، مؤشرًا على التقارب مع عنصر في مصفوفة القوي الإقليمية غير العربية التي تتنافس فيما بينها على الاستئثار بملء الفراغ الاستراتيجي الناجم عن انكشاف المنطقة بعد موجات ما يُسمى بالربيع العربي. فأضحي نظام البشير مدرجًا على قوائم الحكومات الراعية للإرهاب منذ عام 1993، وحتى بعد سقوطه بعام.
فضلاً عن تبوء نظامه البشير لمركز الدعم اللوجيستي للتنظيمات الإرهابية المنتشرة بدول الساحل والصحراء، وخاصة تلك التابعة للقوي الإقليمية غير العربية. الأمر الذي هدد المصالح المصرية وخاصة مع صعود جماعة الإخوان الإرهابية للحكم في عام 2012، وما تلي ثورة الثلاثين من يونيو 2013. إذ كشفت التحقيقات المصرية عن تحول نظام البشير لملاذ آمن للقيادات والعناصر الإخوانية الهاربة فضلاً عن تقديم خدمات التدريب لعناصر اللجان النوعية المنوط بها تنفيذ عمليات التفجير والاغتيال.
2- اتساع رقعة انتشار الإرهاب في شرق ووسط وغرب أفريقيا: حيث حل إقليم الساحل والصحراء كثاني أكثر أقاليم العالم تعرضاً للعمليات الإرهابية في مؤشر الإرهاب العالمي. ولا سيما في مصفوفتين “مالي – النيجر – تشاد” و بين “النيجر – بوركينا فاسو – مالي”، وتتصل هذه المناطق بالميدان الليبي وحوضه الجنوبي، المرتبط عضويًا بالأمن القومي المصري.
3- تسرب نفوذ القوى الإقليمية غير العربية والدولية في أفريقيا: ولا سيما في إقليم شرق أفريقيا الذي يشرف على أكثر الطرق والوجهات البحرية المزدحمة بقوافل التجارة (المحيط الهندي – بحر العرب – خليج عدن – البحر الأحمر). حيث سارعت القوى الدولية والإقليمية على تثبيت قواعد عسكرية لها في تلك المنطقة تعمل على تنفيذ خطط تأمين “رؤوس الجسور” والانتشار العسكري الديناميكي في الدائرة الإقليمية. إذ ضمت المنطقة قواعد ونقاط عسكرية لكل من “الولايات المتحدة – روسيا – الصين – إيران – تركيا – إسرائيل – بريطانيا – فرنسا”.
4- التعنت الإثيوبي في مسار المفاوضات حول “سد النهضة”: إذ تخوض الدولة المصرية منذ عقد من الزمن مفاوضات للتوصل لـ “اتفاق ملزم وقانوني وشامل” بين مصر والسودان وإثيوبيا، حول آلية عمل وتشغيل السد الإثيوبي بما لا يضر بمصالح دولتي المصب، ويُراعي حق الدول في التنمية المستدامة. وفي هذا الإطار وقعت مصر على اتفاق إعلان المبادئ، مارس 2015، الذي نص في ثالث بنوده العشر على “عدم التسبب في ضرر ذي شأن: سوف تتخذ الدول الثلاث كافة الإجراءات المناسبة لتجنب التسبب في ضرر ذى شأن خلال استخدامها للنيل الأزرق/ النهر الرئيسي”. وأدخلت مصر كل من الولايات المتحدة والبنك الدولي والاتحاد الأفريقي، كوسطاء للتوصل لاتفاق قانوني وملزم يُراعي عدم الإضرار بالحصة المصرية من مياه النيل، والتي تحصل إثيوبيا على عشرة أضعافها من مياه الأمطار فقط. إلا أن إثيوبيا مضت في الملء الأول للسد في يوليو 2020، وشرعت في الاستعداد للملء الثاني، بما يخالف كافة البنود التي وقعت عليها في إعلان المبادئ 2015، والذي نص في بنده الرابع على ” الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد الملء الأول لسد النهضة والتي ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة، بالتوازي مع عملية بناء السد”.
مما تطلب تنفيذ استراتيجية مصرية في العمق الجنوبي تُراعي مهددات الأمن القومي مجتمعة، وليس كل مهدد على حِدًة، بما يجنب الوقوع في فخاخ تكتيكية ميدانية تعمل على تشتيت الجهود الدبلوماسية والاستخباراتية وتحجيم قدراتها على التعامل الاستباقي، وارتكزت الاستراتيجية المصرية على:
1- إعادة دمج مصر في القارة الأفريقية وجدانيًا بعد فترة من الارتداد للداخل: شهدت القارة الأفريقية انعزالاً مصريًا تدريجيًا منذ محاولة اغتيال الرئيس الراحل حسني مبارك في أديس أبابا، يونيو 1995. مما سمح للقوى الإقليمية الأخرى بملء الفراغ والتحرك ضمن هامش أوسع من الحركة، ومواجهة أقل قدر من المقاومة والمنافسة. وجاءت إعادة الدمج من خلال “ترأس مصر للاتحاد الأفريقي – إطلاق حملة 100 مليون صحة للضيوف الأفارقة في مصر – إنشاء صندوق ضمان مخاطر الاستثمار في أفريقيا – مضاعفة أنشطة الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية في أفريقيا – تقديم المساعدات أكثر من مرة سواء طبية وإغاثية لعدة دول أفريقية، ومنها جنوب السودان والسودان وجيبوتي والكونغو”.
2- تكثيف المناورات العسكرية مع دول الاتجاه الجنوبي: وفي هذا الصدد أجرت مصر مناورات وتدريبات عسكرية مع تجمع دول الساحل والصحراء في يونيو 2019، وبقاعدة محمد نجيب العسكرية. وذلك لرفع القدرة العسكرية لتلك الدول، بالإضافة إلى نقل الخبرات في مجال مكافحة الإرهاب الذي يستشري في دول المنطقة، خاصة بعد توطن العديد من التنظيمات الإرهابية.
واستطاعت مصر أن تحيي التعاون العسكري بين دول تجمع الساحل والصحراء في عام 2016 من خلال اجتماع وزراء الدفاع، وخرجت الاجتماعات بالعديد من التوصيات وأهمها أن تقوم مصر بإنشاء المقر الخاص بمكافحة الإرهاب، وتم الانتهاء منه، بالإضافة إلى تدريب ألف ضابط في مجال مكافحة الإرهاب. وانتقل مستوى المناورات العسكرية مع دول الاتجاه الجنوبي فور تنفيذ أول مناورة عسكرية مع السودان في نوفمبر 2020 “نسور النيل”، وتباعاً مناورات “حماة النيل” مايو 2021. وتعد الأخيرة المناورات الأضخم والأشمل في تاريخ السودان وشملت تشكيلات من القوات البرية والبحرية والجوية وعناصر القوات الخاصة.
3- التطويق: بالنظر لمحصلة التحركات المصرية خلال الخمسة أشهر الأخيرة حيال الملف الإثيوبي، نجد أن التعاطي المصري الرئيسي يرتكز على تقديم الحلول الدبلوماسية والسياسية، مع حرمان إثيوبيا من التحرك ضمن المجال الحيوي المصري لإضعاف أي من مصفوفات التحالفات والشراكات التي شكلتها القيادة المصرية خلال السبع سنوات الماضية. ومع تأمل خريطة التحرك المصري (الأدوات الديبلوماسية + اتفاقات التعاون الأمني والدفاعي)، نجدها تتضح كما في الصورة التالية:
إذ ارتكز التعامل المصري على تشكيل تحالف إقليمي قوي يهدف إلى دعم التكامل الاقتصادي والتعاون الأمني. وضمن هذا الإطار جاء التحرك المصري صوب (جيبوتي – كينيا – السودان – بوروندي – أوغندا). بعقد اتفاقات للتعاون الأمني والدفاعي والاستخباراتي. حيث بدت إثيوبيا أمام مقاربة تصعب معها طموحات الصمود بموروث متواضع من التكامل الاقتصادي مع دول جوارها في وقت باتت تشهد فيه إثيوبيا هشاشةً داخلية ترجمته أحداث الاقتتال الأخيرة على الحدود بين منطقة عفار والمنطقة الصومالية في إثيوبيا أسفرت عن مقتل 100 على الأقل، في أحدث تفجر للعنف قبل انتخابات عامة مقررة في يونيو. فضلاً عن استمرار الوضع الإنساني المتأزم في إقليم تيجراي والسماح الإثيوبي للقوات الإريترية بالبقاء في مناطق التيجراي والتحكم في شبكة موصلاتها وارتكاب جرائم حرب. ليُقرب التطويق المصري القاهرة بمصدر التهديد، بما يتيح لها مزايا “التحرك الاستباقي”.
“لكل قرن جيوبوليتيكيته الخاصة، وإلى اليوم فإن نظرتنا إلى الحقائق الجغرافية مازالت ملونة بمفاهيمنا المسبقة المستمدة من الماضي لتلك الحقائق”. هكذا قال “هالفورد ماكيندر” أحد أعلام حقل الجغرافيا السياسية، الذي أشار لارتباط الماضي بمفاهيم حقائق اليوم.
وبجانب ماكيندر، أسس كل من “ألكسندر فون همبولت” و “كارل ريتر” للعلاقة الثلاثية المتبادلة بين الإنسان والدولة والمحيط الطبيعي. فبحديث الجغرافيا السياسية يأتي نهر النيل كارتباط وجداني بين مصر كدولة وتاريخها السحيق، وبين نهر النيل، وجوهر الحضارة المصرية وقيمها التي تحتل مساحة ليست بالهينة من مخزون الوعي لدى الشعب المصري.
وبحديث وقائع التاريخ والحقوق التاريخية؛ فإن مياه النيل كما شكلت أعظم حضارة شهدها الإنسان في وادي النيل، يبدو أنها تصيغ تساؤولاً جديدًا حول مدى القدرة على بناء القوة الشاملة للقاهرة وإعادة صياغة التحالفات بين دول المنطقة بما يحفظ ذلك الارتباط الوجداني بين مصر والنهر الخالد.