عقب انتهاء الحرب على غزة عام 2014، أشارت التقديرات الإسرائيلية إلى أن حركة المقاومة الإسلامية “حماس” فقدت إثر المعارك التي دامت 51 يوما مئات المقاتلين، وثلثي ترسانتها الصاروخية البالغ عددها آنذاك عشرة آلاف صاروخ، بالإضافة إلى جميع أنفاقها تحت الحدود. ولأن قدرات المقاومة العسكرية فاقت التوقعات خلال تلك المواجهات، وضعت إسرائيل خمسة أهداف إستراتيجية تبتغيها من خوض أية حرب قادمة مع حماس. ويُلخِّص هذه الأهداف “رون بن يشاي”، المراسل العسكري الإسرائيلي في صحيفة “يديعوت أحرونوت” في قائمة تضم: “وقف إطلاق الصواريخ تماما على إسرائيل، واستهداف قادة الفصائل العسكرية، والقضاء على منصات إطلاق الصواريخ بطريقة لا تسمح بإنتاج وإطلاق صواريخ بعيدة المدى، وتقليص قوة حماس السياسية ونفوذها في الساحة الفلسطينية، وأخيرا استكمال تلك المهمات كافة دون المساس بشرعية إسرائيل دوليا”.
في الحرب الأخيرة التي استمرت 11 يوما، وقُتل فيها 257 شخصا معظمهم من غزة؛ لا يبدو أن إسرائيل حقَّقت أيًّا من أهدافها الخمسة الإستراتيجية، حتى إن تصريحات “نتنياهو” بأن ضربات جيش الاحتلال أعادت “حماس” و”الجهاد الإسلامي” سنوات إلى الوراء بدت ضبابية إلى حدٍّ بعيد، ومشكوكا بها في صفوف الإسرائيليين أنفسهم. فلأول مرة منذ زمن طويل تجد دولة الاحتلال الإسرائيلي نفسها في حالة “دفاع” لا “ردع”، كما أن الصواريخ طويلة المدى أثبتت أن المقاومة، الطرف الأضعف في الحرب، بوسعها استهداف “القدس” و”تل أبيب” وتهديد الشريط الساحلي الذي يضم الكثافة السكانية الإسرائيلية الكبرى، علاوة على البنية التحتية الحيوية بأكملها. وفي المقابل، فإن غزة التي خرجت مُدمَّرة من الحرب، بسبب قصف المباني على رؤوس ساكنيها دون سابق إنذار، حصدت حكومتها نصرا سياسيا. بيد أن حماس لم تخرج فائزة سياسيا وحدها، ولم تكن إسرائيل الخاسر الوحيد أيضا، فمَن هُم الرابحون والخاسرون في تلك المعركة؟
تسبَّبت هجمات صواريخ المقاومة الفلسطينية في إغلاق مطارَيْ “بن غوريون” في تل أبيب، و”رامون” في أم الرشراش (إيلات)، وتعطَّلت السياحة تماما، وعُلِّق العمل في حقل “تمار” للغاز الطبيعي، وأُصيبت خطوط النفط بين “إيلات” وعسقلان، وأُجبر سكان المستوطنات على دخول الملاجئ هربا من الصواريخ حتى إشعار آخر. وتوقَّفت كذلك 30% من المصانع والورش عن العمل كليا في المستوطنات الحدودية، وتعطَّلت الدراسة في 70% من المدارس والجامعات، وبلغ إجمالي الأضرار الاقتصادية في الأيام الثلاثة الأولى من الحرب نحو 540 مليون شيكل إسرائيلي (165 مليون دولار)، وهو ما يعادل 55 مليون دولار أميركي عن كل يوم واحد من الحرب.
تُشير التقديرات الاقتصادية الأولية غير الرسمية إلى أن خسائر الاقتصاد الإسرائيلي كاملا قاربت سبعة مليارات شيكل (2.14 مليار دولار)، وهي خسائر تعادل نحو 0.5% من الناتج المحلي الإسرائيلي تكبَّدتها إسرائيل خلال أسبوعين فحسب، في حين توقَّفت خسائرها عند 0.3% من الناتج المحلي خلال عملية “الجرف الصامد” التي استمرت 51 يوما عام 2014، بحسب ما نشرته صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية نقلا عن مصدر في وزارة المالية الإسرائيلية.
المُثير أن الحكومة الإسرائيلية ستتكفَّل أيضا بدفع تعويضات عن الأضرار التي لحقت بالمدنيين داخل إسرائيل، إلى جانب رواتب الجنود الاحتياط الذين استدعتهم من وظائفهم. وقد كشفت بيانات رسمية أعلنتها مصلحة الضرائب عن تقديم 5200 دعوى قضائية من مدنيين إسرائيليين ضد الحكومة، للمطالبة بتعويضات تصل قيمتها إلى ربع مليار شيكل (67 مليون دولار). وبحسب إحصاء سلطة الضرائب، بلغت تكلفة الأضرار التي لحقت بالممتلكات الخاصة للمستوطنين 33 مليون دولار، بينما بلغت تكلفة العملية العسكرية والقتال لجيش الاحتلال خلال الأيام الأربعة الأولى 500 مليون دولار.
يبدو ثمن المواجهة مع حماس باهظ التكلفة بالنظر إلى نتائجه السلبية على المستوى السياسي والعسكري، والأهم أن الوقت لم يكن في صالح إسرائيل بالنظر إلى حالة الاقتصاد المتأزم بفعل أزمة الديون الداخلية، إلى جانب إرهاق ميزانيتها بسبب تأثيرات تفشي فيروس كورونا، وتضرُّرها بفعل الإغلاق. فقد قفز الدَّيْن العام الإسرائيلي أثناء عام كورونا بنسبة 20%، ليصل إلى 984 مليار شيكل (302 مليار دولار)، وهو الرقم الأعلى في تاريخها منذ 1948، بحسب تقرير رسمي صادر عن وزارة المالية. وبعيدا عن خسائر الاقتصاد جرَّاء كورونا والحرب معا، فما زال هناك نحو نصف مليون إسرائيلي يتلقّون إعانات بطالة، ولا يمكن للحكومة تعويض العجز عبر الضرائب نظرا لتعهُّدها بعدم فرض أي ضرائب جديدة بسبب تداعيات الوباء التي أضعفت الاقتصاد بالفعل.
خلال حرب 2014، تمكَّن نظام الدفاع الجوي الإسرائيلي محلي الصنع والمعروف اختصارا باسم “القبة الحديدية” من تغيير قواعد اللعبة، ووضع حماس ومعها الفصائل الفلسطينية في موقف حرج. فرغم أن المقاومة أطلقت نحو خمسة آلاف صاروخ مستهدفة البلدات الإسرائيلية المحاذية للقطاع وصولا إلى تل أبيب، فإن الصواريخ لم تُحدث أثرا ملموسا يتجاوز دويها المتبوع بصافرات الإنذار، ولم تُغيِّر الموازين بين الطرفين. وتُشير البيانات إلى أن الحركة أطلقت خلال أسبوع واحد من الحرب في 2014 أكثر من ألف صاروخ دون وقوع قتيل واحد بسبب صلابة “القبة الحديدية”، كما سُمح للسكان في جميع أنحاء الجنوب بالاستمرار في الحياة بشكل طبيعي. ويقول جيش الاحتلال الإسرائيلي إن نسبة نجاح النظام الدفاعي الصاروخي خلال تلك الحرب وصل إلى 90%.
مَثَّلت “القبة الحديدية” آنذاك الدرع الصاروخي الأكثر فاعلية، وبل وسرعان ما أصبحت واحدة من أكثر المنظومات الدفاعية المطلوبة للشراء عالميا. وقالت شركة “رافائيل”، المصنعة لتلك المنظومة، إن العديد من البلاد المُعرَّضة لتهديد الصواريخ قصيرة المدى طلبت شراءها؛ مثل كوريا الجنوبية، ودول أوروبا الوسطى. وقد كان أحد هؤلاء الراغبين في شراء المنظومة، بحسب تكهنات وتسريبات نشرتها صحف عربية وإسرائيلية على السواء، دول خليجية عدة تسعى لحماية بنيتها التحتية من الهجمات الإيرانية المحتملة أو الحوثية القائمة بالفعل.
طوال تلك الفترة، افترضت إسرائيل خطأ بأن أداء صواريخ المقاومة الضعيفة لن يشهد قفزات مُعتبرة في ظل الحصار الخانق. وقد دعم ذلك التصوُّر التقدُّم التكنولوجي المستمر في ترسانة جيش الاحتلال. بيد أن الحرب الأخيرة أثبتت أن ذلك ليس دقيقا، فرغم أن أغلب صواريخ حماس لا تملك نظام توجيه معقدا، وتُطلَق من إطار معدني بسيط، ولا يمكنها اصطياد أهدافها بدقة، فإنها استطاعت تأدية مهمَّة فاقت بها دورها المحدود في 2014، وفاقت كذلك التوقعات كافة الإسرائيلية والعربية على السواء. كانت الثغرة الأولى التي التقطتها المقاومة في نظام القبة الحديدية هي أنه يصل في مرحلة ما إلى “نقطة التشبع”، ومن ثمَّ يمكنه اعتراض عدد محدود من الصواريخ بشكل متزامن، فإذا أطلقت فصائل المقاومة دفعات ضخمة في مكان واحد، فلن تتمكَّن الصواريخ الإسرائيلية من إثبات كفاءتها المعتادة، وهي نُقطة قلبت مسار الحرب، وأوقفت الحياة داخل إسرائيل.
القصور الآخر الذي شاب إستراتيجية المقاومة في حرب 2014 تَمثَّل في قصف منطقة واحدة ضيقة بعدد لا محدود من الصواريخ؛ بُغية إحداث ثغرة في نظام القبة الحديدية، لكن جيش الاحتلال فعَّل نظام إطلاق صاروخين لكل صاروخ حتى يضمن اعتراض أكبر عدد ممكن من الصواريخ في تلك المنطقة المحدودة. أما بعد سبع سنوات، وبسبب تطوُّر تكنولوجيا الصواريخ بعيدة المدى لدى المقاومة، نجحت المقاومة في توسيع دائرة استهداف إسرائيل جغرافيًّا فشملت وسط وجنوب إسرائيل كاملة، ولذا بات صعبا على القبة الحديدة أن تحمي الأجواء الإسرائيلية فوق مساحة جغرافية ممتدة.
تأتي حرب غزة بعد أشهر من توقيع إسرائيل اتفاقات سلام مع الإمارات والبحرين والمغرب والحكومة الانتقالية السودانية، والانفتاح بقوة على السعودية. وقد سعت تلك الأنظمة كافة إلى تعبئة شعوبها العربية من أجل القبول بتلك الصفقات، على اعتبار أن العداء مع إسرائيل لم يعد له موقع في خريطة الصراعات الإقليمية المتنوِّعة الآن، وأنه لا بديل عن السلام لحل الصراع العربي الإسرائيلي. بيد أن اشتعال فتيل الأحداث بدءا من حي الشيخ جراح، وما تلا ذلك من اعتداءات إسرائيلية صادمة عربيا وعالميا، ثم اندلاع الحرب وموجة التعاطف الجارفة مع المقاومة مُقابل تصدُّر العداء مع إسرائيل المشهد في مطلع هذا العقد الجديد؛ وضع تلك الأنظمة في مأزق أمام شعوبها، وجعلها تُمرِّر بصمت حالة التضامن مع فلسطين.
أثبتت الانتقادات التي طالت تلك الحكومات إثر الحرب أن القضية لا تزال تحتفظ بجذورها العميقة في المجتمع العربي. والأهم من ذلك أن العدوان الإسرائيلي على غزة في أسبوعين فقط أطاح بسمعة إسرائيل التي بُذلت جهود حثيثة على مدار سنوات لتلميع صورتها ومن ثمَّ تمرير اتفاقات التطبيع بمباركة شعبية. على سبيل المثال، واجه المجلس العسكري السوداني، الذي يحكم البلاد مؤقتا منذ أواخر 2019، توترا في الشارع السوداني الرافض لاتفاق التطبيع الموقَّع العام الماضي. وبعدما اندلعت مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين، دفعت كل تلك الأحداث رئيس المجلس، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، إلى الدفاع عن نفسه مهاجما العدوان الإسرائيلي، ومُلمحا في الوقت نفسه إلى أن اتفاق التطبيع يمكن إلغاؤه.
أما الاستثناء الوحيد من الدول التي راجعت موقفها من التطبيع -ولو بتصريحات دعائية- أو لاذت بالصمت فكانت الإمارات التي واصلت السعي لفتح الأبواب مع تل أبيب وتطويق غزة، مما أفقدها وحدها دون غيرها رصيدا معنويا كبيرا، فبات نظامها محط سخرية وغضب شعبي كبير. لقد انطلق قطار التطبيع الإماراتي-الإسرائيلي بسرعة شديدة العام الماضي، ومن ثمَّ بدا صعبا إيقافه فجأة حين اندلعت الحرب أو تغيير مساره لحفظ ماء الوجه، وسيكون على أبو ظبي أن تواجه، ربما لسنوات، مآلات تراجع شعبيتها عربيا بسبب موقفها الأخير، وعزوفها حتى عن تقديم الدعم المادي المرجو منها بالمقارنة مع مصر، ذات الوضع الاقتصادي الأصعب والحمل الأثقل، التي خصَّصت رغم صعابها نصف مليار دولار.
همَّشت الحرب أيضا كلًّا من محمود عباس والسلطة الفلسطينية، بل ولعلها دقَّت المسمار الأخير في نعش شرعية الجناح التقليدي في حركة فتح الآخذ في التدهور والتآكل على مدار العقدين الماضيين. لقد كان الرئيس الفلسطيني يأمل أن تقود المصالحة الفلسطينية بين غزة والضفة إلى إعادة فرض سيطرته الإدارية على القطاع، غير أنه حلم يبدو الآن أصعب من أي وقت مضى في لحظة يعي فيها جميع الفلسطينيين أهمية سلاح المقاومة في المعادلة بمواجهة إسرائيل. لقد فوجئ عباس والاحتلال الإسرائيلي معا بأن بذور الانتفاضة لا تزال حاضرة وممكنة في الضفة والداخل الإسرائيلي على السواء، وأن وحدة الملف الفلسطيني التي تشرذمت بسبب التفكيك الدبلوماسي للقضية الفلسطيني خلال الأعوام الماضية سرعان ما دبَّت فيها الحياة من جديد، راسمة إيقاعا مشتركا للمقاومة في غزة والعصيان المدني في صفوف عرب 48 والانتفاضة ضد الاستيطان في الضفة؛ وهو إيقاع بدت معه السلطة غريبة عن الشارع الفلسطيني أكثر من أي وقت مضى.
قبل حرب عام 2014، عانت حركة حماس من عزلة سياسية فرضتها القاهرة وحلفاؤها عربيا عقب صعود الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى سُدة الحكم، تزامنا مع ضغط خليجي بسبب علاقة حماس بجماعة الإخوان المسلمين. ولم تكن الأمور في الداخل بأفضل حالا من الخارج؛ فحالة الإفلاس المالي التي عانت منها الحركة بدت واضحة في عجزها عن دفع الرواتب الشهرية للموظفين المدنيين، وهو ما دفعها اضطرارا آنذاك إلى المصالحة مع حركة فتح، الخصم اللدود لها، في حين سُلِّط الضوء على أوجه عدة لأسلوب إدارة الحركة سياسيا لقطاع غزة، بشكل جعلها تبدو مجرد وجه آخر للسلطة الفلسطينية التي تسعى لمصالحها الخاصة على حساب القضية الفلسطينية.
رغم أن حماس عام 2014 تضرَّرت بشدة بسبب طول الحرب التي دُمِّرت فيها البنية التحتية، وهُدِمت فيها العديد من الأنفاق، إلى جانب استنزاف الترسانة العسكرية للفصائل، فإن اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل كان بمنزلة نصر في نظر مؤيديها، ورفع نسبيا من شعبية الحركة داخل القطاع مقارنة بحركة فتح، لا سيما أن اللوم على سوء الأحوال يقع على عاتق إسرائيل وعدوانها المتكرر.
قبل أيام من المواجهة الأخيرة، كان الرئيس الفلسطيني المنتهية ولايته، محمود عباس، قد قرَّر تأجيل الانتخابات البرلمانية الفلسطينية، بدعوى التفاوض مع إسرائيل للسماح للفلسطينيين بالتصويت في القدس الشرقية المحتلة، وهو الاستحقاق الذي كان من المقرر مشاركة الحركة فيه لأول مرة منذ آخر انتخابات عام 2006. وكان أحد دوافع التأجيل هو خشية عباس من هزيمة محققة إذا ما أُجريت الانتخابات في وقت يواجه فيه تحديات من خصوم سياسيين كُثُر بشكل يُضعف فرص نجاح فتح تحت قيادته. بدورها، استفادت إسرائيل من التأجيل، من أجل الحفاظ على الوضع السياسي القائم والحيلولة دون تعطيل مسيرة الاستيطان أو اندلاع حرب جديدة، بيد أن سياساتها في الضفة سرعان ما أفضت إلى ما كانت تخشاه بالفعل؛ فوقعت حرب جديدة خسرت معها رصيدا غير مسبوق منذ الانتفاضة الثانية.
لن يكون ارتفاع أرصدة حماس بعد الحرب في صالح أيٍّ من عباس وفتح وإسرائيل بطبيعة الحال، ومن ثمَّ يُرجَّح أن السلطة الفلسطينية ستُرجئ ملف إجراء انتخابات في أي وقت قريب ما دامت المؤشرات على الأرض تُشير إلى أنها ستخسرها بسهولة. ويُعزِّز تلك الفرضية أن الرئيس الفلسطيني نفسه لم يضع حدًّا واضحا للتأجيل حينما أعلنه، كما أن إسرائيل تُعلن صراحة أنها لن تسمح لحماس بالحصول على نفوذ سياسي يُضاف إلى ترسانتها العسكرية التي فرضت بها نفسها في أي معادلة دولية للحل السياسي، وهو ما يدفع حماس للضغط أكثر فأكثر لإجراء الانتخابات في أقرب وقت ممكن، وتقديم نفسها ممثلا للفلسطينيين أصدق في صلته بالشارع من فتح على أقل تقدير.
رغم رفض نتنياهو التوصُّل إلى هدنة مع حماس لوقف إطلاق النار، راهنت الحركة على الضغط الدولي الذي مورس على الحكومة الإسرائيلية، لا سيما والوساطة المصرية قد لعبت دورا لصالحها هذه المرة. وقد مَثَّل إعلان الهدنة اعترافا ضمنيا في الأخير من تل أبيب بأنه لا يمكن الوصول إلى حل سياسي دون أن تكون حماس على رأس طاولة المفاوضات. وقد يقود ذلك تدريجيا إلى مرحلة تستدعي المطالبة برفع اسمها من قوائم المنظمات الإرهابية التي وصمتها بها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أواخر عام 2019. غير أن تحوُّلا كهذا مرهون بمدى رغبة الوسطاء العرب الأبرز في الأزمة الآن، وعلى رأسهم مصر، وتصوُّراتهم لمسار القضية الفلسطينية بعد تلك الحرب الوجيزة والمفصلية في آنٍ واحد.
رفعت الأحداث الأخيرة أرصدة القاهرة السياسية، فيما بدا أنه استعادة للدور المصري القديم في إدارة الملف الفلسطيني، بعد أحداث كادت تُنهي دور الوسيط التاريخي لمصر في القضية الفلسطينية. فقد مَثَّل امتطاء الدول الخليجية قطار التطبيع نقلة أفقدت مصر الورقة التي تمتَّعت بها لعقود في الوساطة العلنية بين الدول العربية وإسرائيل.
فقدت القاهرة أيضا أثناء العقد الماضي موقعها كونها وسيطا حصريا بين الفصائل الفلسطينية، وذلك نتيجة دخول دول إقليمية أخرى على خط الوساطة. فقد التقطت الفصائل الفلسطينية إشارة المستجدات السياسية الجديدة، واتجهت قيادات من حركتَيْ فتح وحماس صوب تركيا التي تبوَّأت موقعا مهما في ملف المصالحة، وخلال فترة قصيرة أدلت قطر بدلوها كذلك في الملف الأمني عبر مباحثات تهدئة مع الإسرائيليين، فيما احتفظ الإيرانيون برابطة تسليح المقاومة.
خلال الحرب الأخيرة، قلبت القاهرة الطاولة وخالفت التوقعات، فوظَّفت دبلوماسيتها واستخباراتها سعيا نحو اتفاق لوقف إطلاق النار دون ضغط على الفصائل الفلسطينية في غزة وأبرزها حماس. وحدها كانت القاهرة سبَّاقة أيضا على الأرض بوفودها الأمنية ومساعداتها الإنسانية، في حين تأخَّر آخرون أو آثروا الدعم بتصريحات ليس إلا. وبينما انخرط الخليج في التطبيع العام الماضي، وعادت المياه إلى مجاريها بين إسرائيل وأنقرة، وبدا أن القضية الفلسطينية فقدت زخمها المعتاد؛ استفادت القاهرة من تراجع اهتمام معظم الدول بفلسطين، وربح النظام المصري صورته أمام الشعب الفلسطيني وأهل غزة، كما حاز بالطبع ما أراد من خلال المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس الأميركي جو بايدن مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ومَثَّلت اعترافا علنيا بمركزية القاهرة في ملف لا يزال مهما للأميركيين، لتستعيد مصر سريعا أوراقا عدة إلى حافظتها الإقليمية.
انعكست المكاسب المصرية أيضا في تراجع الزخم الذي فرضه التطبيع سلبا على الدور المصري أثناء رئاسة ترامب. فقد سار التطبيع الذي أفقد مصر دورها الإستراتيجي بوتيرة متسارعة وبذرائع عدة مثل السلام والتركيز على الخطر الإيراني، والأهم حماية الفلسطينيين ومنع ضم باقي أراضيهم بضغط عربي، وهو ما لم يتحقَّق بالطبع خلال الفترة الأخيرة. فلا إسرائيل توقَّفت عن عمليات الاستيطان، ولا مارست الدول الخليجية ضغوطا للإيفاء بوعودها، وهي تطورات أوقفت قطار التطبيع ولو مؤقتا، ورفعت حالة الاستهجان الموجَّهة ضده في الشارع العربي إبَّان الحرب الأخيرة.
كل تلك التحوُّلات لم تصب في صالح حماس والمقاومة الفلسطينية فحسب، بل لعبت لصالح النظام المصري أيضا. وإن كان وقوف النظام المصري مع المقاومة في جهة واحدة خلال تلك الأزمة قد شَكَّل مفاجأة للكثيرين، فإن الأيام القادمة ستُثبت إلى أي مدى ستتوطَّد تلك العروة بين القاهرة وغزة رُغم العلاقات السيئة سابقا بين الطرفين، وعند أي نقطة ستفترق أهداف النظام المصري مع حركة المقاومة، والأهم كيف سيستفيد الطرفان من المساحة المشتركة المتزايدة بينهما للحصول على أوراق جديدة تُعزِّز موقعهما الإقليمي. على خلفية أنغام “تسلم الأيادي” تقدَّم موكب عباس كامل، مدير جهاز المخابرات المصري ومدير مكتب السيسي سابقا، في موكب خاص في غزة بالأمس، قبل أن يجمعه بيحيى السنوار عناق حار، وصورة تشي بأن نقطة الافتراق لم تأتِ بعد، وأن هنالك المزيد من الأوراق التي يستعد الطرفان لحيازتها من ذلك الانفتاح السياسي غير المسبوق بينهما.