وكالات:
بعد يوم واحد من احتفال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعيد ميلاده السبعين، تعرّض جسر القرم أو “جسر كيرتش” الممتد من روسيا إلى شبه جزيرة القرم، وهو أحد أبرز وأهم مشاريع بوتين، لانفجارٍ هائل صباح السبت، 8 أكتوبر/تشرين الأول 2022، مما أدى لوقوع ضرر كبير على أحد جانبيه، إلى جانب اشتعال حريق كبير في عربات سكك حديدية أعلى الجسر. فما هو جسر القرم؟ وما أهميته ورمزيته بالنسبة لروسيا وزعيمها بوتين؟
انفجار جسر القرم.. ما الذي حدث؟
في الساعة السادسة من صباح يوم السبت، بينما كانت عربات لصهاريج الوقود تعبر جسر القرم، انفجرت شاحنة وأوقعت دماراً في أحد جانبي الطريق الموازي للجسر، حيث قالت وكالات الأنباء الروسية، نقلاً عن اللجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب: “اليوم في الساعة 6.07 صباحاً (03.07 بتوقيت غرينتش) انفجرت سيارة مفخخة، مما أدى إلى اشتعال النار في 7 ناقلات نفط كانت تنقل بالسكك الحديدية إلى شبه جزيرة القرم”.
وأظهرت اللقطات التي نُشرت على قنوات تليغرام الروسية ووكالات الأنباء لحظة الانفجار شاحنة، إلى جانب سيارتين كانتا في وسط الانفجار، مما أدى إلى تدمير جزء من الجسر ووقوعه في البحر.
بينما لم يتضح على الفور سبب الانفجار، إلا أن ميخايلو بودولاك، مستشار الرئاسة الأوكرانية، ألمح ضمنياً إلى مسؤولية كييف، حيث غرد قائلاً: “جسر القرم هو البداية. يجب تدمير كل شيء غير قانوني، ويجب إعادة كل شيء مسروق إلى أوكرانيا، ويجب طرد كل شيء يخص الاحتلال الروسي”.
ما أهمية جسر القرم بالنسبة لروسيا؟
يعد جسر القرم أطول جسر بنته روسيا، وهو أطول جسور أوروبا، حيث تم بناؤه بأوامر من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وافتُتح في عام 2018، ليكون رابطاً رئيسياً لنقل المعدات العسكرية للجنود الروس الذين يقاتلون في أوكرانيا، خاصة في الجنوب، وكذلك نقل القوات هناك.
ويمثل خط السكك الحديدية جزءاً من جسرين متوازيين، يعبران مضيق كيرتش الذي يربط بين كراسنودار في روسيا بشبه جزيرة القرم، الذي بنته روسيا بعد غزوها لشبه جزيرة القرم وضمها في عام 2014. وبطول يبلغ حوالي 19 كم، افتتح الرئيس بوتين الجسر البري في عام 2018، وافتتح جسر السكة الحديد الموازي له بعد ذلك بعامين.
يعتبر جسر القرم رمزاً كبيراً لروسيا وطريق إمداد لوجستي مهم في شبه جزيرة القرم ومناطق جنوب أوكرانيا التي ضمتها روسيا إليها مؤخراً. وحافظت روسيا على أمان الجسر، على الرغم من القتال في أوكرانيا، لكنها هدّدت كييف بالرد الانتقامي إذا تعرض الجسر للهجوم.
ما الضرر اللوجستي الذي لحق بروسيا الآن؟
يقول محللون إن استهداف أوكرانيا لهذا الجسر يحمل رسالة كبيرة داخلياً وخارجياً، مفادها أن المناطق التي ضمتها روسيا إليها سابقاً أو لاحقاً ليست آمنة، ولا يستطيع الجيش الروسي حمايتها بأي شكل كان.
وتترك الأضرار التي لحقت بخط السكة الحديد الذي يسير على جسر القرم، على وجه الخصوص، القوات الروسية في جنوب أوكرانيا، مع خط إمداد واحد فقط للسكك الحديدية – بين كراسنودار وميليتوبول – وهو في نطاق هجمات أوكرانيا.
وقد يؤدي الانفجار إلى نقص في الوقود في شبه جزيرة القرم، ففي أعقاب الانفجار مباشرة، أفادت تقارير بأن سكان شبه الجزيرة هرعوا إلى محطات البنزين قلقين من نقص الوقود، كما تقول صحيفة The Guardian البريطانية.
يقول المحلل العسكري والجنرال الأسترالي المتقاعد ميك رايان في سلسلة من التغريدات في تويتر، “إن إسقاط جسر مثل هذا يتطلب الكثير من المتفجرات والتصميم الجيد للهدم، وبصفتي خبيراً في المتفجرات، فإن ما حدث يحتاج لوقت طويل للتخطيط، لأن هذا الجسر من أصعب جسور الخرسانة المسلحة التي يمكن إسقاطها”.
وخلال الحرب المستمرة منذ 9 أشهر في أوكرانيا، افترضت روسيا أن القرم – بما في ذلك جسر كيرتش – كانت خارج نطاق استهداف القوات الأوكرانية. لكن في الشهرين الماضيين، ضربت سلسلة من الانفجارات مواقع في شبه جزيرة القرم، بما في ذلك قاعدة ساكي الجوية البحرية، وسط تزايد ثقة كييف بأنها تستطيع استعادة شبه جزيرة القرم من روسيا.
لماذا يعد استهداف جسر القرم أمراً غير سهل عسكرياً؟
حاولت أوكرانيا بالفعل استهداف الجسر من قبل، ففي 19 أغسطس/آب الماضي، قال مسؤولون روس إن طائرة من دون طيار مفخخة حاولت استهداف الجسر، لكن أنظمة الدفاع المضادة للطائرات الروسية أسقطتها، في حين لم يصدر تعليق رسمي من الحكومة الأوكرانية على ذلك الحادث.
وفي 21 أبريل/نيسان الماضي، قال أوليكسي دانيلوف، قال أمين مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني، عندما سئل عن احتمالات مهاجمة جسر كيرتش: “لو كانت لدينا القدرة العسكرية على القيام بذلك، لكنا فعلنا ذلك”، لكنه أضاف: “إذا كانت هناك فرصة لتحقيق هذه الغاية، فسنحققها بالتأكيد”.
وتقول مجلة Forbes الأمريكية في تقرير نشر في مايو/آيار الماضي، إن قطع جسر بهذا الحجم يمثل تحدياً كبيراً، فهو يمتلك دعامات من هياكل خرسانية وفولاذية ضخمة، وتظهر الهجمات على الجسور المماثلة لجسر القرم، أنه لا يمكن إسقاطها بأي شيء، سوى ضربة مباشرة برأس حربي ضخم.
وهناك سلاح مخصص لإسقاط مثل هذه الجسور يمتلكه سلاح الجو الأمريكي، وهو سلسلة من القنابل الموجهة التي يبلغ وزنها 2000 رطل، ومع ذلك فإن نجاح ذلك ليس مضموناً، كما اكتشف الطيارون الأمريكيون ذلك خلال حرب الخليج في عام 1991.
لماذا يُعد استهداف جسر القرم ضربة موجّهة لبوتين شخصياً؟
يحمل جسر مضيق كيرتش رمزية كبيرة بالنسبة لروسيا وبوتين، فهو غاية في الأهمية على الصعيدين الاستراتيجي والسياسي. وقد تم تشييده بتكلفة تزيد على 3 مليارات دولار، بل إن بوتين بنفسه قاد شاحنة افتتاح الجسر في 15 مايو/آيار 2018.
وكان ربط جزيرة القرم الاستراتيجية بالبر الروسي حلماً قديماً منذ زمن القياصرة في روسيا، وأيضاً في زمن الاتحاد السوفييتي، وجاء بوتين ليحقق ذلك الحلم بنفسه، لذلك يُعد هذا المشروع، بشكل واضح، مشروعاً شخصياً للرئيس الروسي.
والقرم تمتلك أهمية استراتيجية كبيرة لدى روسيا، فهي تتموضع في البحر الأسود على مقربة من مضيقي البوسفور والدردنيل اللذين يربطانه بالبحر الأبيض المتوسط من جهة، والقوقاز، بما في ذلك شمال القوقاز الروسي، من جهة أخرى.
وعلى مدى التاريخ كانت القرم تعتبر ملتقى للمصالح الاستراتيجية لدول عدة، في مقدمتها روسيا وتركيا، والدول الأوروبية الكبرى. وسجّلت الحربين العالميتين الأولى والثانية، وقوع معارك شرسة في مدينة سيفاستوبول، المقر التاريخي لقواعد أسطول البحر الأسود الروسية.
وتذكر المصادر التاريخية، أنه خلال الحرب العالمية الثانية، قامت ألمانيا ببناء طريق فوق مضيق كريتش، وتحديداً في العام 1943، حيث بدأ بناء طريق مشترك وجسر للسكك الحديدية في أبريل/نيسان 1943، ولكن قبل الانتهاء منه، ومع تلقيها الخسائر الفادحة في الحرب، فجّرت القوات الألمانية المنسحبة الأجزاء المكتملة من الجسر، ودمرت الطريق حتى لا تستفيد منه القوات السوفييتية.
وفي عام 1944، شيد الاتحاد السوفييتي 4.5 كيلومترات من جسر للسكك الحديدية عبر مضيق كيرتش. لكن ذلك الجسر، شوهته أخطاء التصميم والبناء، وقد سقط بسبب تدفق الجليد في فبراير/شباط من عام 1945، وسرعان ما تم رفض اقتراح لإصلاحه وتم تفكيك بقايا الجسر. ومنذ ذلك الحين وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، توالت المحاولات السوفييتية لبناء جسر فوق مضيق كيرتش، لكن باءت جميعها بالفشل بسبب نقص التمويل أو التخطيط غير الجيد.
لكن منذ صعود الرئيس الروسي لسدة الحكم، وضع نصب عينيه إعادة وصل روسيا بالقرم كأهمية قصوى، وبدأت محاولات ذلك في عام 2010، حيث وقعت روسيا وأوكرانيا مذكرة تفاهم لبناء جسر عبر مضيق كيرتش، لكن تم تعليقها في عام 2013. وبعد ذلك عاد الطرفان للاتفاق على مشروع بناء للجسر يستمر على مدار 5 سنوات بتكلفة تتراوح بين 1.5 و3 مليارات دولار. لكن في الأشهر التالية، انهارت المفاوضات الثنائية حول الجسر بسبب الثورة الأوكرانية التي أطاحت بالنظام الموالي لروسيا مطلع عام 2014.
لكن بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في مارس/آذار 2014 وسط تدهور حاد في العلاقات الأوكرانية الروسية، تحقق الحلم الروسي، وأصبح مشروع جسر مضيق كيرتش جزءاً أساسياً من الخطط الروسية لدمج الأراضي التي تم ضمها إلى روسيا، وهو ما حدث بعد سنوات قليلة بالفعل.