بقلم: صبحي غندور – مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن

إذن، انتخاب أوباما في العام 2008 كان صدمة كبرى لجملة “مفاهيم وتقاليد أميركية” متأصّلة تاريخيًّا، لكنّها غير منسجمة أصلًا مع نصوص الدستور الأميركي، ولم تعد لها قيمة لدى الجيل الأميركي الجديد، في ظلّ مجتمعٍ تتزايد فيه أعداد المهاجرين غير الأوروبيين، والذين سيشكّلون خلال عقدين من الزمن غالبية عدد السكّان في الولايات المتّحدة.

هكذا هي الآن أميركا، وهكذا ستكون معاركها الانتخابية القادمة، إذ لن تكون فقط حول الأمور الاقتصادية والاجتماعية التي تطغى أحيانًا على سطح الإعلام، بل حول المسائل المرتبطة بالدين والعرق والثقافات. أي ستكون معارك سياسية حول كيفيّة رؤية أميركا للمستقبل وللاتّجاه الذي سيسير نحوه المجتمع الأميركي.

لقد كان من الصعب في القرن الماضي التمييز بعمق بين برنامجيْ الحزبين الديمقراطي والجمهوري، لكن حتمًا في محصّلة السنوات الأخيرة، أصبحت الخلافات تتّسع بين رؤى الديمقراطيين والجمهوريين لأنفسهم ولمستقبل أميركا ولعلاقاتها الدولية. ووجدنا هذه الفوارق واضحة في الانتخابات الرئاسية الماضية.

ومن المهمّ الانتباه دائمًا إلى أنّ فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية في العام 2016 لم يكن العامل الأساس فيه شخصه ولا طبعًا مؤهّلاته أو خبراته المعدومة في الحكم والسياسة، بل كان العامل الأساس هو الصراع الدفين الحاصل في المجتمع الأميركي بين المتمسّكين بأميركا الأصولية القديمة، التي قامت على الرجل الأوروبي الأبيض البروتستانتي، والعنصري أحيانًا، وبين أميركا الحديثة “التقدّمية” والتي أصبح أكثر من ثلث عدد سكّانها من المهاجرين من إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.

فجماعات “أميركا القديمة”، وهي وإن نجحت في إيصال ترامب للرئاسة في العام 2016، فإنّها لم تستطيع وقف التقدّم الأميركي نحو مستقبل مختلف عن معتقداتها، بسبب طبيعة التغيير الديمغرافي الحاصل داخل المجتمع الأميركي. لكن هذا لا يقلّل من شأن ودور هذه الجماعات، والتي أصبحت “الترامبية” رمزًا لها، خاصّةً في ظلّ الانقسامات الحاصلة داخل الحزب الديمقراطي وعدم توفّر قيادة “كاريزمية” له في هذه المرحلة.

فالمجتمع الأميركي يسير نحو التطرّف بالاتجاهين المتعاكسين لأسباب موضوعية تزداد فعاليتها في هذا القرن الجديد. وما ينطبق على القوانين العلمية الفيزيائية يصحّ أيضاً على المجتمعات والشعوب حيث لكلّ فعل ردّة فعل موازية لقوّته، ولذلك سيقابَل التطرّف اليميني الذي تعيشه الولايات المتّحدة بتطرّفٍ نحو اليسار لدى المعارضين له، وهو أمرٌ يتجاوز بكثير مسألة الانقسامات السياسية والأيديولوجية ليشمل ما هو أخطر على وحدة المجتمع الأميركي وعلى الأمن الداخلي المُهَدد بزيادة غير مسبوقة في اقتناء الأسلحة وفي استخدامها العشوائي في أكثر من ولاية أميركية.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Exit mobile version