د. عبدالله فيصل آل ربح
في 23 سبتمبر الماضي، احتفلت المملكة العربية السعودية بالذكرى التسعين لتأسيسها. في مثل ذلك اليوم من عام 1932، أعلن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود عن تغيير مسمى مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها إلى مسمى المملكة العربية السعودية. جاء هذا المسمى بعد 30 عاما من عودة الرياض إلى الحكم السعودي وتشكيلها نقطة الانطلاق لتأسيس المملكة المترامية الأطراف. في الواقع، فإن الحكاية السعودية كانت قد بدأت قبل قرنين من الزمان مع تأسيس الدولة السعودية الأولى، ووصلت إلى مرحلة جديدة بتعيين حفيد الملك عبدالعزيز الأمير محمد بن سلمان رئيسًا لمجلس الوزراء السعودي بالتزامن مع الذكرى التسعين للإعلان عن مسمى المملكة. فبعد عام من تولي والده الحكم، أطلق الأمير محمد سلسلة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية تحت مظلة رؤية 2030. منذ إطلاقها، قدمت هذه الرؤية تصورًا جديدة للهوية الوطنية السعودية (Neo-Saudism). في هذا الصدد، يذهب بعض الإعلاميين إلى أن هذه التغييرات تؤذن بظهور ما يمكن تسميته بـ الدولة السعودية الرابعة.
البدايات المبكرة:
يرجع تاريخ حكم الأسرة السعودية إلى محمد بن سعود (1687-1765) الذي تولى حكم الدرعية عام 1727 مما جعله في نظر المؤرخين مؤسس أسرة آل سعود والدولة السعودية الأولى. وفي عام 1744 اجتمع الأمير محمد بن سعود مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب صاحب الدعوة السلفية الوهابية على اتفاق بنشر الدعوة في بقية أرجاء الجزيرة العربية. وقد أدت مناصرة محمد بن سعود للدعوة إلى تغيير في لقبه من حاكم سياسي (الأمير) إلى ولي أمر شرعي (الإمام). وقد منح هذا التحول الإمارة السعودية الناشئة شرعية دينية مكنتها من بسط حكمها على مناطق نفوذ القبائل المجاورة، مما يتوافق مع ما ذهب له الفيلسوف العربي ابن خلدون (1332- 1406) من “أن العرب لا يحصل لهم المُلك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة.”[1]وقد انتهت حكاية الدولة السعودية الأولى مع غزو قوات إبراهيم باشا – الذي فوضته الإمبراطورية العثمانية – الدرعية في عام 1818.
بعد ست سنوات على سقوط الدرعية، أعاد تركي بن عبدالله الحكم السعودي لوسط الجزيرة العربية وأنشأ الدولة السعودية الثانية التي عُرفت بإمارة نجد في عام 1824. سيطرت إمارة نجد على جزء كبير من شبه الجزيرة العربية، ولم يضعفها غير النزاعات داخل الأسرة الحاكمة التي تزامنت مع التوسع التدريجي لحكم آل رشيد -المنافس الإقليمي للحكم السعودي- حتى تمكن آل رشيد من الاستيلاء على الرياض عام 1891. ولم تطل سيطرة آل رشيد على الرياض لأكثر من عقد من الزمان، ففي يناير 1902، قام عبدالعزيز، نجل عبدالرحمن بن فيصل آل سعود، آخر أمير لإمارة نجد – باسترداد الرياض بعملية سُمّيت بـ فتح الرياض. شكلت هذه العملية البذرة التأسيسية للدولة السعودية الثالثة والتي تم تسميتها في عام 1932 بـ المملكة العربية السعودية.
انتقال السلطة للجيل الجديد:
باحتفال المملكة بالذكرى التسعين لتأسيسها، فإنها تكون بذلك قد تجاوزت في عمرها الزمني النسختين السابقتين لها. فقد استمرت الأولى لمدة 74 عامًا، والثانية لمدة 67 عامًا. وقد اتبعت المملكة نظامًا أفقيًا في انتقال السلطة. فبعد تأسيس المملكة، استمر الملك المؤسس عبدالعزيز ملكًا لعقدين من الزمان، ثم خلفه ستة من أبنائه بالتسلسل. وطوال المدة بين 1932 حتى الآن، كان الانتقال السلس للسلطة بين أبناء ابن سعود المصدر الرئيسي للاستقرار للمملكة العربية السعودية.
بحكم الواقع، فإن المتبقين من أبناء الملك المؤسس يتقدمون في السن. فالملك الحالي، الملك سلمان بن عبدالعزيز يبلغ من العمر 86 عامًا. وبعد فترة وجيزة من توليه السلطة، وتحديدًا في عام 2017، قام الملك سلمان بخطوة نوعية في نقل السلطة إلى جيل أحفاد المؤسس – في خطوة هي أقرب إلى النموذج العمودي في الخلافة – وذلك بتعيين ابنه محمد بن سلمان، المولود عام 1985، وليًا للعهد. ومنذ توليه ولاية العهد، مُنح الأمير محمد بن سلمان صلاحياتٍ واسعة للإشراف على الإدارة اليومية للشأن السعودي. ويشرف الملك المستقبلي على استراتيجية التحول الوطني القائمة على رؤية 2030 التي تشمل إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية محورية، كجزء من برنامج شامل لإعادة هيكلة جزء كبير من النظام المعمول به.
لقد نجح محمد بن سلمان في ترسيخ مكانته كملك مستقبلي من خلال بروزه المتنامي داخل إطار العائلة الحاكمة لدرجة يصعب معها تصور أي شخص آخر غيره عاهلاً قادمًا للبلاد. وعلى الجانب الآخر، تواجه المملكة تحديات اقتصادية كبيرة تشمل الارتفاع السريع في تكاليف المعيشة وتزايد مستويات البطالة بين الشباب. غير أن هذه التحديات كفيلة برفع شعبية ولي العهد بين أفراد الشعب السعودي في حال نجحت سياساته الانفتاحية في معالجة هذه القضايا الهامة. جدير بالذكر أن الشباب يشكلون نسبة عالية جدًا من الشعب السعودي، فوفقًا للهيئة العامة للإحصاء السعودية، فإن 65٪ من سكان البلاد تقل أعمارهم عن 40 عامًا، منهم 46.7٪ أقل من 25 عامًا.
هوية وطنية جديدة/ السعودية الجديدة (Neo-Saudism):
منذ أن أصبح وليًا للعهد في عام 2017، تبنى محمد بن سلمان شكلاً جديدًا للهوية الوطنية يمكن تسميته “السعودية الجديدة” (Neo-Saudism). يهدف هذا التشكيل الجديدة للهوية الوطنية إلى إعادة صياغة المجال العام من خلال التحول من هوية شعبية تتشكل من هويات كبرى عابرة للحدود بشعارات “الأمة الإسلامية” و”القومية العربية” إلى “الوطنية السعودية” – مما يعكس توجُهًا مدروسًا نحو بناء هوية تقوم على الدولة الوطنية. هذا التوجه يراعي المكونين الثقافيين الأبرز للبلاد حيث إن الإسلام بطبيعة الحال الدين الرسمي لمواطني المملكة العربية السعودية، والعروبة هي هويتهم الإثنية ولغتهم الأم. إن التحول الذي يمكن الاصطلاح عليه بـ “السعودية الجديدة” يحثُّ المواطنين على التعامل مع الجنسية السعودية بوصفها هويتهم الأساسية. بالتالي، يمكن اعتبار هذا التحول علامة قوية على تركيز القيادة الجديدة على الشؤون الداخلية للبلاد وإعادة النظر في الالتزامات الإقليمية الثقيلة على مستويات العالمين العربي والإسلامي.
من أبرز ملامح “السعودية الجديدة” إعادة تموضع الأسرة الحاكمة داخل منظومة الحكم، وذلك عن طريق التعامل مع أفراد الأسرة بوصفهم تكنوقراط يشغل الأصلح منهم بعض المناصب داخل الحكومة أو المؤسسات التابعة للدولة مما يقلّص من وضعهم “الاستثنائي”. وثمة عدة شواهد على ذلك، ففي أكتوبر 2016، تم تنفيذ القصاص (الإعدام) في أحد أفراد العائلة المالكة السعودية بعد إدانته بقتل مواطن من عامة الشعب. وفي خطوة تاريخية قامت بها الإدارة السعودية الحالية في نوفمبر 2017، تم إيقاف عدد من أفراد العائلة المالكة – إلى جانب رجال أعمال ومسؤولين حكوميين آخرين – في فندق ريتز كارلتون في الرياض للتحقيق معهم في قضايا متعلقة بالفساد. لقد أوصلت هذه الإجراءات رسالة واضحة للشعب السعودي مفادها أن حكام البلاد الفعليين هم الملك وولي العهد وليس مجمل العائلة المالكة.
استمرار صعود محمد بن سلمان:
في 27 سبتمبر2022، أصدر الملك سلمان قرارًا بتعيين الأمير محمد بن سلمان رئيسًا للوزراء وشقيقه الأمير خالد بن سلمان وزيرًا جديدًا للدفاع. بهذه الخطوة الإجرائية، فإن الملك يفوّض ولي العهد الشاب – بشكل فعلي – لإدارة الشؤون اليومية للمملكة. جدير بالملاحظة أن الجمع بين منصبي ولي العهد ورئيس الوزراء ليس مرجحًا لأن يكون ساريًا في المستقبل. إن المرسوم الملكي واضح بهذا الشأن، إذ ينص على أن تعيين محمد بن سلمان على رأس الحكومة يمثل استثناءً للمادة 56 من النظام الأساسي للحكم التي تنص على أن “الملك هو رئيس الوزراء”. وهذا الاستثناء له ما يبرره قانونًا بموجب المادة 65: “للملك تفويض بعض السلطات إلى ولي العهد بموجب مرسوم ملكي”. بالتالي، فإنه من المرجح أن يحتفظ محمد بن سلمان برئاسة الوزراء لسنوات إن لم يكن لعقود قادمة، حيث من المفترض أن يعود المنصب إلى الملك المستقبلي بشكل قانوني عند مبايعته.
خلال الفترة القريبة الماضية، أثار الصعود المستمر والسريع لمحمد بن سلمان مجموعة من الأسئلة الصعبة والموضوعية من قبيل: هل تبشر هذه التطورات بالتحول إلى الدولة السعودية الرابعة؟ إذا كان الأمر كذلك، فما هو دور الأسرة الحاكمة في هذه الدولة الجديدة؟ هل من الوراد أن تعود السعودية إلى الوضع الذي كانت عليه قبل رؤية محمد بن سلمان؟ وأخيرًا، كيف ستبدو المملكة العربية السعودية في يومها الوطني المئة عام 2032؟
الدولة السعودية الرابعة:
لا تحبذ النخبة الحاكمة في المملكة استخدام مصطلح “الدولة السعودية الرابعة” وذلك لأن الإدارة الحالية تنظر لما تقوم به على أنه إصلاحات للأنظمة وليست بوارد خلق تغييرات جذرية لنظام الحكم. وقد صرّح ولي العهد أنه معني بتطوير المملكة وليس تحويلها إلى دولة جديدة. ففي مقابلته مع ذي أتلانتيك في أبريل الماضي، “رفض محمد بن سلمان الإيحاءات التي تشير إلى أن هذا النظام قد عفا عليه الزمن ويمكن استبداله بنظام ملكي دستوري”. وقد بنى الأمير موقفه على نظرته لدوره المتصور في الحفاظ على النظام السياسي والاجتماعي للبلاد، حيث صرّح بأن فكرة تغيير النظام الحالي (أي الملكية المطلقة) ستمثل خيانة للعقد الاجتماعي بين العائلة المالكة والمجتمع السعودي.
وفي سياق إعادة الهيكلة المندرجة تحت بند إصلاح نظام الحكم وليس تغييره، فإن الإدارة الحالية تقلّص من سلطة أفراد الأسرة الحاكمة من خلال إعطاء الأولوية للتكنوقراط لشغل المناصب القيادية في الوزارات وأجهزة الدولة. ويبقى التصميم على مكافحة الفساد يمثل الشاغل الأكبر في إصلاحات محمد بن سلمان. يضاف إلى ذلك التغيير الكبير في تقييد نشاط الشرطة الدينية وتقنين إنفاذ قوانين الأخلاق العامة من خلال تبني سياسات أكثر انفتاحًا تعطي للمرأة مزيدًا من الحقوق ومساحة أكبر من الحرية الشخصية. إن فتح هذه المساحة للحريات الشخصية في الفضاء السعودي العام يجعل من الصعب تخيل عودة المملكة إلى حقبة ما قبل رؤية محمد بن سلمان. بالطبع، فإن هذه التغييرات لم تكن لتحدث أبدًا لولا تعزيز محمد بن سلمان لسلطته التي مكنته من اتخاذ القرارات الحاسمة اللازمة في هذا الاتجاه.
قد يرى البعض أن هذه الإصلاحات الاجتماعية نحو الانفتاح لم يتم اختبارها للتأكد من قبول المجتمع السعودي بها، لا سيما وأنها قادمة من أعلى هرم السلطة. في هذا الصدد، تكشف بعض الاستطلاعات عن دعم شعبي متزايد بشكل مطرد لمثل هذه الإجراءات. فقد أظهر استطلاع للرأي أجراه معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى (WINEP) عام 2021 أن 39٪ من المواطنين السعوديين يفضلون تطبيق التفسير المعتدل للإسلام، هذه النسبة تشكل ارتفاعا ملحوظا مقارنة بـ 27٪ في عام 2017. وخلال العام الجاري شهد التأييد ارتفاعًا جديدًا وصل إلى 42٪ وفقًا لأحدث برنامج WINEP. وفي حال استمرت نظرة الشارع السعودي في هذا الاتجاه، فإنه بحلول عام 2030 سيكون غالبية السعوديين داعمين النمط الذي يميل لليبرالية.
بالنسبة للحكومة، فإنه من الصعب التنبؤ بالهيكل المستقبلي للإدارة السعودية وهوية من يشغل المناصب السيادية في السنوات المقبلة، بما في ذلك منصب ولي عهد الملك القادم.
ومع ذلك، يتمتع محمد بن سلمان بسجل حافل في تمكين أفراد العائلة المالكة الشباب الآخرين من خلال تعيين بعضهم في مناصب حكومية عليا وإسناد مهام دبلوماسية لبعضهم الآخر. إن الوزراء الحاليين الذين يتولون حقائب الدفاع والداخلية والخارجية والحرس الوطني السعودي، إضافة لسفراء المملكة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، كلهم أمراء سعوديون شباب تم تمكينهم تحت إدارة ولي العهد الحالي. وعليه، فإن تعيين محمد بن سلمان في منصب رئيس الوزراء سيؤدي إلى تعزيز الآفاق المستقبلية للجيل القادم من العائلة المالكة.
خاتمة:
في عامها التسعين، تشهد السعودية اختلافًا كبيرًا عما كانت تبدو عليه قبل عقد من الزمان. إن ارتفاع نسبة تمكين الشباب والمرأة داخل المجتمع السعودي يفوق كل المراحل السابقة التي عاشتها البلاد. إن الاتجاه السائد حاليًا بين السعوديين يتمحور حول تبني خطاب “الدولة الوطنية” بدلاً من تبني الخطابات الأممية سواء الديني/الإسلامي أو القومي/العربي. ومن أبرز تجليات هذا التحول استخدام الشباب السعوديين – على وسائل التواصل الاجتماعي – لغة تتبنى الهوية السعودية بشكل يصل إلى مستوى الشوفينية. إن هذا التوجه أمر مفهوم، إذ إن أي خطاب شعبي جديد يبدأ بشكل حماسي، لكنه ما يلبث أن يهدأ بعد الوصول إلى نقطة التشبع باستيعاب الخطاب الجديد بين مختلف شرائح المجتمع. هذا بالضبط ما ينطبق على خطاب “السعودية الجديدة” (Neo-Saudism) الذي نلمس تجلياته بوضوح في حماس الشباب السعوديين على وسائل التواصل الاجتماعي.
إن التحدي الأكبر لهوية “السعودية الجديدة” (Neo-Saudism) يتمثل في تبنيها كمبدأ تنظيمي اجتماعي وسياسي وطني يعيد تشكيل الاقتصاد السعودي بما يتماشى مع رؤية 2030. ولتحقيق الأهداف المحددة في الرؤية، سيحتاج السعوديون لما يتجاوز مجرد العمل على تنفيذ سياساتها المعلنة إلى تبني مبادئ اقتصاديات ما بعد الحداثة، الذي تدعمها مبادئ الليبرالية الجديدة وتمكين المجتمع السيبراني الذي يقوم على الفضاء الإلكتروني.
إن التبني الفعّال لهذه المبادئ سيساعد المملكة على تحقيق أهدافها المتمثلة في تنويع اقتصادها لمرحلة ما بعد النفط عن طريق فتح باب المنافسة في السوق المحلية، وتشجيع التنافس بين العمالة الوطنية والوافدة، وتعزيز نمو التجارة الإلكترونية على المستوى الوطني. إن هذه التغييرات الجذرية في الاقتصاد السعودي كفيلة بتشجيع عددٍ كافٍ من السعوديين على تبني قيم ريادة الأعمال وأخلاقيات العمل اللازمة لتوليد دعم شعبي طويل الأمد لإصلاحات محمد بن سلمان السياسية والاجتماعية.