وكالات:
دخل فصل الشتاء، ولا توجد مؤشرات حقيقية على أن الحرب في أوكرانيا قد تتوقف قريباً، فما مدى واقعية أن ينهار نظام فلاديمير بوتين في روسيا كما “يتمنى” الغرب؟
هذا السيناريو يعتبر أحد أهم أسباب استمرار الحرب، التي تصفها موسكو بأنها “عملية عسكرية خاصة” بينما يصفها الغرب بأنها “غزو عدواني غير مبرر”، حيث اتبعت إدارة جو بايدن استراتيجية قائمة على عدم اتخاذ خطوات جدية لإنهاء الحرب منذ اندلاعها يوم 24 فبراير/شباط الماضي.
فالأزمة الأوكرانية هي بالأساس أزمة جيوسياسية ترجع جذورها إلى أكثر من 3 عقود عندما انتهت الحرب الباردة بين حلف الناتو بقيادة أمريكا من جهة، والاتحاد السوفييتي بانهيار الأخير وتفككه وتقديم واشنطن وعداً لموسكو بعدم تمدد الناتو شرقاً، لكن ذلك لم يحدث بطبيعة الحال.
هل يواجه نظام بوتين مخاطر تهدّد وجوده؟
رفض الرئيس الأمريكي، جو بايدن، تقديم ضمانات قانونية لموسكو بأن أوكرانيا لن تنضم لحلف الناتو، وفشلت جميع محاولات نزع فتيل الأزمة الجيوسياسية، وهكذا قرر بوتين شن الحرب واجتاحت القوات الروسية أوكرانيا وحاصرت جميع مدنها الكبرى، بما فيها العاصمة كييف، لكن مع مرور الوقت وتدفق المساعدات الغربية على أوكرانيا، بدأت القوات الأوكرانية في تحقيق انتصارات مهمة.
ومع تحول الأمور في ساحة المعركة لصالح الأوكرانيين، وإن اختلف تقييم ذلك التحول بين المعسكرين بطبيعة الحال، ازدادت آمال حكومة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في تحقيق انتصار عسكري وطرد الجيش الروسي من أراضي أوكرانيا بالكامل، بما فيها شبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا منذ عام 2014.
وعلى الرغم من أن المحللين العسكريين الغربيين، وكذلك قادة ومسؤولي الغرب، لا يجاهرون بتبني الموقف الأوكراني كاملا، إلا أن هؤلاء يتحدثون عن سيناريو انهيار النظام الروسي بقيادة بوتين من الداخل، وكيف أن إطالة أمد الحرب تقوي من احتمالات هذا السيناريو، وهو ما يمثل مخرجاً مثالياً من هذه الأزمة برمتها بالنسبة لواشنطن وإدارة جو بايدن بالتحديد.
لكن ما مدى واقعية هذا السيناريو الآن، بعد دخول الحرب في أوكرانيا شهرها العاشر؟ لو أن مسؤولاً أو محللاً روسياً قدم إجابة عن هذا السؤال، فستكون بالتأكيد إجابة تنفي وجود هذا الاحتمال من الأساس، سواء بدافع الولاء لبوتين ونظامه أو حتى بدافع الخوف من العقاب.
وبالتالي فعندما تأتي الإجابة على لسان مسؤول أمريكي سابق في الاستخبارات، متخصص تحديداً في الشؤون الروسية، من الطبيعي أن تصب الإجابة في الاتجاه المعاكس، ولو على سبيل الحرب النفسية. لكن ريبيكا كوفلر، رئيسة شركة “Doctrine & Strategy” للاستشارات والضابطة السابقة في وكالة استخبارات الدفاع بالبنتاغون ومؤلفة كتاب “قواعد بوتين: خطة روسيا السرية لهزيمة أمريكا”، ترى أن سيناريو انهيار نظام بوتين عبارة عن “أحلام يقظة” لا أكثر ولا أقل.
وترى كوفلر أنه مع دخول الصراع الروسي الأوكراني شهره العاشر دون أي مؤشر على قدرة أيٍّ من الجانبين على تحقيق انتصار حاسم، يركز المراقبون الغربيون على الأداء الضعيف للجيش الروسي، والمشاكل الداخلية في روسيا، والادعاء بوجود تشققات في نظام بوتين.
ويأمل الغرب أن تدفع هذه العوامل بوتين إلى إنهاء الحرب على أوكرانيا، حتى أنهم صاروا يعدون الأيام المتبقية على انهيار النظام في موسكو، بحسب ما قالته كوفلر لشبكة Foxnews الأمريكية.
“أرى أن الحديث عن الإطاحة الوشيكة بالرئيس بوتين من السلطة هو مجرد أمنيات يفكرون فيها، ولذلك 3 أسباب. أولاً: الوضع الداخلي في روسيا متدهور بالفعل، إذ دفعت التعبئة العامة للقتال في أوكرانيا، التي تُعد الأولى في روسيا منذ الحرب العالمية الثانية، الآلاف من الرجال في سن التجنيد للفرار إلى خارج البلاد”، بحسب كوفلر.
نعم.. روسيا تواجه تحديات، ولكن!
وأضافت المحللة الأمريكية أن الجنود الروس على الخطوط الأمامية يشكون من نقص الزي العسكري، وعدم كفاية التدريب، والطعام غير الصالح للأكل. وهناك احتجاجات مناهضة للحرب في الشوارع الروسية، بالإضافة إلى بعض الأعمال التخريبية.
“لكن كل هذا ليس بالأمر الجديد في روسيا، فهناك تسامح شعبي مع تجاوزات الحكومة والإجراءات القسرية وغياب التنظيم. ولا تنجز الحكومة الروسية أي شيء بسلاسة ونظام، حتى أصبح العجز ونقص الموارد أمراً طبيعياً بالنسبة لهم منذ عقود، وخاصة في الجيش”، بحسب كوفلر.
وترى المحللة الأمريكية أنه من غير المرجح أن تصل المعارضة الحالية لبوتين في روسيا إلى الكتلة الحرجة اللازمة للانتفاض شعبياً، مرجعة ذلك إلى أن “الخوف هو العامل الرئيس في ذلك، حيث تشتهر الحكومة الروسية بقمعها الوحشي للمعارضة منذ أيام الاتحاد السوفييتي، كما لا توجد آلية حقيقية لتداول السلطة وإنشاء نظام أفضل”.
ما مدى شعبية بوتين داخلياً؟
تقول كوفلر إن تأييد بوتين انخفض بنسبة 8% تقريباً منذ مارس/آذار الماضي، “لكن لا يزال 75% من الروس يوافقون على قراراته، ويثق به 78.7%، وفقاً لوكالات استطلاعات الرأي في روسيا، والتي يعتبرها محللون غربيون محل ثقة”.
وتصف المحللة الأمريكية التقارير بشأن ظهور أصوات معارضة في الدائرة المقربة من بوتين بأنها “إما غير موثوقة أو مبالغ فيها”. ففي أكتوبر/تشرين الثاني الماضي، وردت تقارير أمريكية تقول إن بايدن تلقى معلومات استخباراتية حساسة تشير إلى أن أحد المقربين من بوتين يلومه على سوء إدارة الحرب في أوكرانيا.
وتضيف: “تم تفسير هذه المعلومات على أنها مؤشر على وجود بوادر انتفاضة في الكرملين، لكني أستبعد قدرة المخابرات الأمريكية على اختراق الدائرة المقربة لبوتين وجمع معلومات سرية من أحد أعضائها”.
ومن خلال خبرتها الاستخباراتية بشأن روسيا، قالت كوفلر إن “دائرة المقربين المحيطين ببوتين، وهي دائرة صغيرة، تتكون من زملاء سابقين يثق بهم منذ عمله في جهاز المخابرات الروسية، وعندما كان مسؤولا كبيرا في سانت بطرسبرغ”.
“يتمتع هؤلاء المخلصون المحيطين ببوتين بحياة أفضل بكثير مما يمكن أن تقدمه وكالة الاستخبارات المركزية في أمريكا لهم، نظير التجسس لصالح واشنطن، كما أنهم يعرضون أنفسهم لمخاطر عالية جدًا في حالة انكشاف أمرهم، لأن بوتين سيتخلص فورًا من أي شخص يثبت عليه ذلك”، بحسب كوفلر، مضيفة أن الأشخاص المقربون من بوتين يعيشون تحت المراقبة والحماية الدائمتين، وتخضع جميع اتصالاتهم للرقابة باستخدام نظام تقني يسمى سورم SORM.
وفسرت المحللة الأمريكية الانتقادات العلنية التي وجهها بعض المقربين من بوتين للإدارة الروسية للحرب في أوكرانيا، وبالتحديد يفيغني بريغوزين، مؤسس الشركة الدفاعية الخاصة فاغنر أو مرتزقة فاغنر، والملقب بطباخ بوتين، والثاني رئيس جمهورية الشيشان، رمضان قديروف.
كان بيرغوزين وقديروف قد انتقدا بشكل علني الجنرالات الروس بعد الانتصارات التي حققتها القوات الأوكرانية في خاركيف، ثم خيرسون وقرار الانسحاب منها، لكن المحللة الأمريكية فسرت ذلك بأنه “انتقاد للجيش الروسي؛ لأنه لم يكن وحشياً بما فيه الكفاية في أوكرانيا”، مضيفة أن قديروف وبريغوزين “حليفان مقربان من بوتين ولن يقفا ضده أبداً، وحتى لو فعلا فستصبح الأمور أسوأ في أوكرانيا، وليس أفضل”.
ماذا يعني ذلك لاحتمال حدوث انقلاب ضد بوتين؟
أما السبب الثالث وراء اعتبار أن “أمنية” الغرب بأن ينهار النظام الروسي، ما هي إلا أحلام يقظة في حقيقة الأمر، فهو كون احتمال حدوث انقلاب ضعيفاً للغاية، حيث إن بوتين لم يتخذ قرار شن الحرب على أوكرانيا بمفرده، مضيفة أن هذا لا يعتبر “حالة شاذة في روسيا، بل هو أساس القيادة الروسية. بوتين شخص استبدادي بصورة نموذجية”.
وأضافت أن استراتيجية القتال الروسية في أوكرانيا تطورت، بما في ذلك استهداف البنية التحتية، بأوامر من بوتين “لكن القرار نفسه اقترحته هيئة الأركان العامة في الجيش الروسي”.
عملية تدمير البنية التحتية الحيوية في أوكرانيا، والتي تركت 80% من البلاد دون تدفئة وكهرباء ومياه شرب، هي نتاج لما يسمى بـ”العملية الإستراتيجية لهزيمة البنية التحتية الحيوية للخصم”، بحسب كفلر، التي ترى أن “هذه هي الطريقة التي تحارب بها روسيا – فهي لا تحاول تقليل الخسائر أو تجنب الوفيات بين المدنيين”.
وعلى سبيل المثال، تعمّد ستالين عدم إجلاء المدنيين من المدينة قبل معركة ستالينجراد (خلال الحرب العالمية الثانية، عندما هاجمتها قوات ألمانيا النازية)، لأنه كان يعتقد أن الجنود سيقاتلون بقوة أكبر عندما تكون المدينة مأهولة وليست مهجورة.
ويشترك بوتين وأولئك الذين قد يعارضونه في هذه الرؤية، لذلك في عام 2016، أنشأ بوتين فرعاً خاصاً، للحرس الوطني من أجل حماية نظامه، ويتكون هذا الفرع من جنود النخبة الذين لديهم خبرة طويلة من العمل بوكالات الأمن، وتتمثل مهمة هذا الفصيل في ضمان النظام العام والسلامة، والتعاون مع وكالة الأمن الداخلي الروسية، للدفاع عن الدولة.
ويشتهر أعضاء الحرس الوطني بالقسوة والعنف المفرط أثناء تفريق الاحتجاجات السلمية، واعتقال وضرب أعضاء المعارضة والنشطاء المدنيين، كما اختار بوتين حليفه الوفي وزميله في المخابرات السوفياتية، فيكتور زولوتوف، لقيادة الحرس الوطني، وبدأ الأخير حياته المهنية كحارس شخصي في الاستخبارات الروسية في السبعينيات.
وفي أوائل التسعينيات، عمل زولوتوف حارساً شخصياً لرئيس بلدية سانت بطرسبرغ آنذاك، أناتولي سوبتشاك، ثم للرئيس بوريس يلتسين، وبالطبع لبوتين نفسه، الذي كان آنذاك نائب عمدة سوبتشاك. ويعتبر زولوتوف أحد أقرب المقربين لبوتين، وهو مسؤول بشكل مباشر عن سلامة بوتين الشخصية.
وتختتم كوفلر تحليلها بالقول إن “المحللين الغربيين يطبقون معايير السلوك الغربية على روسيا ونظام بوتين، ثم يتوصلون إلى استنتاجات تستند إلى العقلية الغربية. هذه أحدى أنواع الفخاخ المعرفية في التحليل الاستخباراتي وتُعرف بـ”التصور المماثل”، لكن بوتين، وكبار مساعديه، والشعب الروسي لا يفكرون أو يتصرفون مثل الأمريكيين”.
الخلاصة هنا هي أن نظام بوتين لا يواجه احتمالات انهيار داخلي كما “يتمنى” بايدن وحلفائه الغربيين، وهي “الأمنية” التي بنى على أساسها الرئيس الأمريكي استراتيجيته المرعبة في التعامل مع الأزمة الأوكرانية، بحسب تحليل نشره موقع Responsible Statecraft الأمريكي بعد 3 أسابيع فقط من بداية الحرب.
وملخص تلك الاستراتيجية هو استفزاز روسيا وجر بوتين إلى الهجوم على أوكرانيا لتصبح أشبه بالمستنقع الأفغاني الذي أدى إلى تفكك وانهيار الاتحاد السوفييتي، فهل أساء بايدن تقدير الأمور هذه المرة؟