وكالات :
تملك جدتي وشماً في وجهها لازمها طوال حياتها، كنت في طفولتي أسألها كثيراً عنه ولكنها لم تكن تجيبني، لَطالما ضاقت جدتي ذرعاً بأسئلتي الكثيرة، وحين كبرت رأيت أن أغلب نساء قريتها يملكن وشماً في وجوههن، قالت لي إحداهن مرة إن الوشم قديماً كان يشكل بديلاً عن الحلي مثل الذهب والأساور، وأخبرتني أخرى أن بعض الجدات كنّ “يدقُننه” لبناتهن خوفاً عليهن من الحسد والأمراض النفسية، وفيما بعد أدركت أن للوشم جذوراً تاريخية كبرى، تتعلق بروح الإنسان ومعتقداته، ومن خلال هذا المقال سوف أخبركم أكثر عن هذا الفن القديم الذي عرفته كل الحضارات الإنسانية:
له جذور تمتد إلى عصور ما قبل التاريخ.. ما هو التاريخ الأنثربولوجي للوشم
يعتبر الوشم من الظواهر الاجتماعية التي عرفتها الإنسانية منذ عصور ما قبل التاريخ، فمنذ سنوات موغلة في القدم قام البشر بالنقش على أجسادهم حتى يخبرونا المزيد عن هويتهم وثقافتهم. يقول عالم الأنثروبولوجيا لارس كروتاك- وهو باحث مشارك في قسم الأنثروبولوجيا في المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي التابع لمؤسسة سميثسونيان- إن العثور على أقدم دليل على الوشم البشري كان عبر جثة محنطة لرجل من العصر الحجري الحديث، تعود إلى 5300 عام قبل الميلاد.
وكان رجل العصر الحجري يمتلك 61 وشماً، منها أربعة خطوط على الجذع، صليب خلف ركبته اليمنى، وحلقتان حول معصمه اليسرى، ويرى بعض العلماء الأنثروبولوجيين أن الوشم ظهر في المجتمعات البدائية الطوطمية، والتي كانت تتألف من عشائر وقبائل صغيرة، وكان لكل قبيلة من هذه القبائل الصغيرة طوطم خاص بها، وهو عبارة عن حيوان أو نبات، أو أحد مظاهر الطبيعة مثل البرق والرعد، تتخذه القبيلة رمزاً لها.
وفي بداية ظهوره كان الوشم يحمل دلالات دينية وسحرية، ترمز إلى الانتماء إلى القبيلة أو العشيرة؛ إذ اعتُبر بمثابة تعويذة تحمي الشخص من الأرواح الشريرة، كما استُخدم أيضاً من أجل طرد الشياطين التي تسكن الجسم وتسبب له الآلام.
في مصر القديمة كان الوشم دينياً وفي الصين كان وصمة عار.. اختلاف دلالات الوشم عبر الثقافات
خلال عام 2016 عُثر على مومياء فرعونية تحمل ثلاثين وشماً، منها وشم لأزهار اللوتس على فخذيها، والأبقار على ذراعها، ووشم لقرود البابون على رقبتها، أما على كتفها وظهرها فتبرز عينا حورس، وأثناء اجتماع الجمعية الأمريكية للأنثروبولوجيا الحيوية في أتلانتا، بولاية جورجيا، ذكرت آن أوستن، عالمة الآثار البيولوجية في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا، والتي عرضت وشوم المومياء، أن تلك الوشوم تحمل دلالات دينية، خاصةً أن الأبقار ترمز إلى الإلهة حتحور، إحدى أهم المعبودات في مصر القديمة، وأضاف فريق البحث أن الوشوم على ذراع تلك المرأة ربما كانت بقصد إبعاد الروح الشريرة.
مومياء فرعونية تحمل وشم
وحول انتشار فن الوشم في مصر القديمة يقول عالم الآثار الفرنسي سدريك جوبيل إن الوشم في مصر القديمة كان منتشراً بين النساء، وكان مرتبطاً بالدلالة الدينية، طلباً لحماية الآلهة؛ فهناك وشم البقرة، رمز الإلهة حتحور، وهناك عين حورس، التي تحمي الجسد من الشرور، ولدينا أيضاً زهرة اللوتس، التي ترمز إلى الميلاد، والثعبان الذي يجسد التجدد.
وبخلاف دلالته الدينية في مصر القديمة كان الوشم في بلاد الإغريق يستعمل من أجل تمييز العبيد عن الأحرار، وفي اليونان القديمة كان الوشم وصمة عار تميز المجرمين، وكان يُستخدم أحياناً من أجل وضع عبارة “الضريبة مدفوعة” على جباه العبيد، وفي الصين كان الوشم يستعمل كعقوبة على الأعمال الإجرامية، إذ يتم وشم المجرم على وجهه لتحذير الآخرين منه.
وفي مطلع القرن الرابع الميلادي، وبعد أن اعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحية أمر بحظر الوشم على الوجه، لأنه مخالف لتعاليم الدين المسيحي، وفي التاريخ الحديث عاد الوشم وصمةً للعقوبة، حين استخدمه النازيون في معسكرات الاعتقال؛ حيث كان كل سجين يوشم برقم خاص به.
العلاج والزينة وطرد الأرواح الشريرة.. حول الأغراض التي يُدق الوشم من أجلها
في رحلاته إلى جزر المحيط الهادئ، وثَّق الكابتن جيمس كوك، مستكشف البحرية الملكية البريطانية، مشاهداته التي رصدها بين سكان تلك الجزر، وأولى الكابتن جيمس كوك اهتماماً بالغاً لفن الوشم، وذكر أن أوروبا الحديثة لم تعرف فن الوشم، حيث حُظر من قبل البابا هادريان الأول في منتصف القرن السابع الميلادي؛ لأنه تشويه لخلق الله، وتدنيس للجسم البشري، وفي الوقت الذي توقف فيه الوشم في أوروبا كان منتشراً للغاية في بعض المجتمعات المحلية في آسيا وإفريقيا.
وحين وصل الكابتن كوك مع طاقمه إلى شعوب جزر بولينيزيا، التي تسكن على امتداد المحيط الهادئ، فوجئ هناك بأن الوشم عادة مقدسة لا يمكن أبداً انتهاكها، وهناك استمع كوك إلى السكان الأصليين، واندهش من قصص الأشخاص الموشومين بسبب حكاياتهم الشعبية وتفاصيلهم المدهشة، تلك الحكايات الشعبية لم تكن تقتصر فقط على شعوب المحيط الهادئ.
في مصر القديمة كانت الوشوم تستخدم كتميمة من أجل الحمل والولادة، ولهذا كانت غالبية الوشوم تتركز في منطقة الفخذين، وفي شبه الجزيرة العربية وضع قدماء العرب وشماً على وجه المريض وعلى جانبي رأسه؛ حتى لا يشعر بالصداع، وحتى لا يعاني المريض من آلام في العمود الفقري أو المفاصل كانت الوشوم تُدق على اليدين والقدمين والظهر، ويُقال إن هذه العادة منتشرة حتى يومنا هذا في بعض مناطق العراق.
أما في القبائل الإفريقية فكان الوشم يُستخدم في العلاج والطب الشعبي، وخاصة أمراض العيون، وفي قبائل أخرى كان الوشم يستعمل من أجل طرد الأرواح الشريرة، أو لمنع الحسد، وفي بعض القبائل المحلية تستخدم النساء الوشم من أجل الزينة، فحتى يومنا هذا ما زالت النسوة في صعيد مصر يرسمن الوشم أسفل ذقونهن كنوع من التجمل والزينة، وعادة ما تحمل رسوم الوشم دلالات شعبية قديمة؛ فالنخلة ترمز إلى الخصوبة والإنتاج، والسمكة ترمز إلى الوفرة والخير الكثير، أما العصفور فيجسد الخير والحياة.
شوكة عظام الأسماك في مصر القديمة وعصا الخيزران في آسيا.. أهم الأدوات التي تستخدم للوشم
في مصر القديمة كان هناك نوعان من أدوات الوشم؛ النوع الأول عبارة عن 7 إبر معدنية من النحاس تُربط في عصا خشبية، والنوع الثاني شوكة عظام الأسماك، وفي كل الثقافات القديمة كان الوشم يُدق بطريقة مؤلمة للغاية، ففي مصر القديمة على سبيل المثال كان يجب أن يُحرق الجلد أو يُجرح بعمق، ومع التئام تلك الجروح يظهر رسم الوشم.
وفي مشاهداته التي رصدها عن شعوب المحيط الهادئ، ذكر الكابتن جيمس كوك أن شعب الماوري كان يرسم على وجهه باستخدام الإزميل، وفي جنوب آسيا اشتهرت رسومات اليانترا البوذية، والذي هو وشم سحري يمنح قوة غامضة، ويُدق بواسطة عصا خاصة من الخيزران، أما الشعب البولينزي فقد كان يستخدم إبرة تُسخن في النار ومطرقة لثقب الجلد، وفي ثقافات قديمة أخرى استخدمت أشواك الورد وأسنان سمك القرش وعظام البجع.
من الوشم إلى التاتو.. كيف تطوّر الرسم على الجسد بمرور السنوات
من خلال فن الوشم، نحن نشاهد نظاماً معقداً للمعنى مرتبطاً بالقيم والمعتقدات، وفي الوقت الذي كان فيه الوشم يجسد في الماضي قيم المجتمع، والبحث عن رضا الآلهة، فإن التاتو في العصر الحديث أضحى فناً فردياً، يعكس الرغبة في التعبير عن الذات.
فالوشم مثل الثقافة، يتغير باستمرار، ويتطور بمرور السنين، ومع تغير الثقافة فقد تغيرت كذلك أغراض الوشم، فحالياً يستخدم الشباب التاتو لأسباب جمالية، وأحياناً لأسباب عاطفية، وفي أوقات أخرى قد تكون الأسباب سياسية، علامة على التمرد، وفي الوقت الحاضر تطوّرت تقنية التاتو، ولم يعُد يؤلم مثل الماضي، خاصةً بعد ظهور التاتو بالليزر، وحتى عملية إزالته لم تعُد صعبةً مثل الماضي، خاصةً بعد تطور التكنولوجيا وعلوم الطب.
وفي وقتنا الحالي تستخدم بعض النساء التاتو من أجل مقاومة المرض واستعادة الثقة بأنفسهن وأجسادهن، فمريضات سرطان الثدي على سبيل المثال يخضعن لرسم التاتو حتى يشعرن بالسيطرة على أجسادهن، وأن المرض لم يتمكن منهن بالكامل، وعليه يعتبر الوشم أو التاتو بمفهومه العصري الحالي واحداً من أعمق بيانات السيرة الذاتية، والتي تنقل قدراً هائلاً من المعلومات دون كلمة واحدة، مَن نحن، وماذا كنا، وماذا نطمح أن نكون، ما رغباتنا ومخاوفنا؟ وكما يقول الممثل الأمريكي جوني ديب “جسدي هو صحيفتي، ووشومي هي قصتي”.