وكالات
في حوار عابر مع إحدى الناشطات الإيرانيات الداعمات للاحتجاجات التي اندلعت في إيران منذ 16 سبتمبر الماضي، قال الرئيس الأمريكي جو بايدن، خلال تجمع انتخابي في 4 نوفمبر الفائت، أن “الاتفاق النووي في وضع الميت”، مشيراً إلى أن “الولايات المتحدة الأمريكية لن تعلن وفاة الصفقة”.
اللافت في هذا السياق، هو أن هذه التصريحات لم يكشف عنها إلا في 21 ديسمبر الجاري، أي بعد نحو شهر ونصف من إدلائه بها. ويعني ذلك أنه كان هناك مغزى من تأجيل الكشف عن هذه التصريحات، ثم في الإعلان عنها بعد ذلك. وربما يمكن تفسير ذلك في ضوء محاولات إيران، خلال الفترة الحالية، إلقاء حجر في مياه المفاوضات النووية الراكدة، عبر تجديد الاتصالات مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية والإيحاء بأنه ما زال من الممكن الوصول إلى اتفاق نووي جديد.
دلالات مهمة
تعكس تصريحات الرئيس بايدن حول الاتفاق النووي دلالات رئيسية ثلاث تتصل برؤية الإدارة الأمريكية للهدف من الاتفاق في الأساس، والتداعيات التي يمكن أن تسفر عن إعلان انهياره، والمسارات المحتملة للتفاعلات مع إيران خلال المرحلة القادمة:
الدلالة الأولى، أن الولايات المتحدة الأمريكية- على غرار غيرها من القوى الدولية والإقليمية المعنية بالمسارات المحتملة للمفاوضات النووية- باتت ترى أن أهمية الوصول إلى اتفاق نووي جديد تراجعت بشدة، بفعل عامل الزمن.
فالهدف الأساسي من الاتفاق لا يتعلق بمنع مراكمة القدرات النووية الإيرانية، الخاصة بالوصول إلى كمية محددة من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% أو 20% أو زيادة كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 3.67% أضعاف ما هو منصوص عليه في الاتفاق، بقدر ما يتعلق بعرقلة حصول إيران على “المعرفة النووية”، وهو ما قطعت إيران شوطاً كبيراً فيه، على نحو لم يعد معه للاتفاق قيمة كبيرة في منعها من الوصول إلى هذا المستوى.
من هنا، يمكن فهم مغزى تصريحات رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية محمد إسلامي، في 17 ديسمبر الماضي، والتي قال فيها أن “قدرة إيران على تخصيب اليورانيوم ازدادت أكثر من ضعفين”. وفي إيحاء واضح لنجاح إيران في الحصول على المعرفة النووية، قال المتحدث باسم المنظمة بهروز كمالوندي أن “الجهود العلمية والدراسات مستمرة دون توقف داخل المنظمة بهدف تطوير أجهزة الطرد المركزي الجديدة، وذلك في ظروف مميزة”، مضيفاً أنه “لاشك أن طاقات إيران وقدراتها النووية فرضت حقائق جديدة على هؤلاء”، في إشارة إلى الدول الغربية تحديداً.
والدلالة الثانية، أنه رغم تراجع أهمية المفاوضات النووية وجدوى الوصول إلى اتفاق نووي جديد مع إيران، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تبدو عازفة في الوقت الحالي عن إعلان فشل المفاوضات أو انهيار الاتفاق الحالي.
هنا، فإن ثمة متغيرين ربما دفعا الإدارة الأمريكية إلى تبني هذا التوجه، والقائم على الاحتفاظ بموقف “رمادي” إزاء المفاوضات والاتفاق.
أولهما، أن إعلان انهيار المفاوضات من جانب واحد، لاسيما من الجانب الأمريكي، قد يعني تحمل قسم من المسئولية الدولية عن ذلك، رغم أن هذا الإعلان المفترض سوف تصاحبه حملة سياسية وإعلامية، أمريكية وغربية، مفادها أن إيران هي المسئولة عن توقف المفاوضات، بسبب إصرارها على التمسك بمواقفها إزاء الخلافات المتعددة مع الدول الغربية.
وقد كان لافتاً أن هذه الخلافات لم تعد تتركز حصراً حول الضمانات التي تطلبها إيران والخاصة بعدم تكرار الانسحاب الأمريكي من الاتفاق ومستوى العقوبات التي سوف ترفع في حالة الوصول إلى اتفاق وعدم الإجابة على أسئلة الوكالة الدولية للطاقة الذرية الخاصة بوجود آثار يورانيوم في ثلاثة منشآت لم يعلن عنها، وإنما باتت تمتد إلى ملفات أخرى، على رأسها الدعم العسكري الذي تتهم الدول الغربية إيران بتقديمه إلى روسيا لتعزيز قدرتها على إدارة ومواصلة الحرب في أوكرانيا، إلى جانب الدعم اللوجيستي والمعنوي الذي تتهم إيران الدول الغربية بتقديمه إلى المحتجين، لدرجة كانت سبباً في استمرار الاحتجاجات، وتجاوزها يومها المائة.
وثانيهما، أن هذه الخطوة المفترضة بقدر ما سوف تفرض تداعيات سلبية على النظام الإيراني، بقدر ما سوف يسعى الأخير إلى استغلالها لخدمة حساباته في الداخل، ولاسيما تجاه الضغوط التي بات يتعرض لها بسبب استمرار الاحتجاجات وعدم قدرته على احتواءها حتى الآن.
ويعني ذلك، أن النظام الإيراني قد يحاول استغلال هذه الخطوة أولاً لتوجيه انتباه الداخل بعيداً عن الأزمة التي فرضتها الاحتجاجات، وثانياً لإضفاء وجاهة خاصة على المقاربة الكلاسيكية التي يتبناها منذ بداية الاحتجاجات، والقائمة على أنها تعكس مخططاً خارجياً يهدف إلى تقويض دعائمه بمساعدة أطراف محلية.
والدلالة الثالثة، أنه رغم تراجع مستوى تعويل واشنطن على الاتفاق النووي كحل- مؤقت- للأزمة النووية الإيرانية، فإنها ما زالت ترى أن وجود اتفاق أفضل من عدم وجوده. فانهيار المفاوضات النووية، وإنهاء العمل بالاتفاق النووي الحالي، سوف يعطي الضوء الأخضر للنظام الإيراني للمضى قدماً في الحصول على المعرفة النووية، وربما الانخراط في مستويات أخرى من مراكمة قدراته، فيما يتعلق بصنع “المُفجِّر” النووي على سبيل المثال.
ويعني ذلك في المقام الأول تفجير أزمة جديدة في المنطقة، كانت الإدارة تتحين الفرصة لتأجيلها، أو ترحيلها لمرحلة قادمة، من خلال الوصول إلى اتفاق يستطيع إبطاء حركة التقدم النووي الإيراني أو بمعنى أدق إطالة الأمد الزمني أمام إيران للوصول إلى مرحلة امتلاك القدرة على إنتاج القنبلة النووية.
اللافت في هذا السياق، هو أن دول المنطقة المعنية بالمفاوضات النووي بين إيران والقوى الدولية، تتماهى مع هذا الموقف الأمريكي، رغم التحفظات العديدة التي تبديها سواء على أسلوب إدارة المفاوضات، أو على البنود التي يمكن أن يتضمنها الاتفاق النووي الذي كانت تطمح واشنطن في الوصول إليه عبرها، والتي تتعلق بالطبع بالقيود المفروضة على الأنشطة النووية الإيرانية ومداها الزمني.
فرغم أن إسرائيل نفسها شنت حملة قوية ضد المفاوضات والاتفاق، إلا أن هناك اتجاهات داخلها تشير إلى أن التعايش مع إيران بوجود اتفاق أفضل من عدمه، على نحو انعكس في تصريحات رئيس الاستخبارات العسكرية أهارون حليفا، الذي قال أمام مجلس الوزراء المصغر، في 2 يناير الماضي، أن “إسرائيل ستكون في وضع أفضل بوجود اتفاق مع إيران”. فيما قال وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، في 11 ديسمبر الجاري، أن “فشل الاتفاق النووي مع إيران سيدخل المنطقة في مرحلة خطيرة جداً”.
هنا، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تريد عبر عدم الإعلان عن “وفاة” الاتفاق النووي، الإبقاء على بصيص أمل ولو محدود في الوصول إلى اتفاق جديد. وربما تطمح في أن يؤدي استمرار الاحتجاجات الداخلية، فضلاً عن تصاعد الضغوط الدولية التي تتعرض لها إيران بفعل تعامل السلطات مع المحتجين فضلاً عن دعم روسيا عسكرياً في أوكرانيا، إلى حدوث تغيير في سياسة طهران إزاء القضايا الخلافية وفي مقدمتها الملف النووي.
ورغم أن إقدام النظام الإيراني على إجراء تغيير في سياسته يبقى احتمالاً غير مرجح، على الأقل في الأمد المنظور، فإن الأفضل، وفقاً لرؤية واشنطن، هو عدم المغامرة بإعلان فشل المسار الدبلوماسي، باعتبار أن ذلك قد يفتح الباب على استحقاقات استراتيجية محتملة في منطقة الشرق الأوسط ربما ترى واشنطن أن الوقت ليس مناسباً للانخراط فيها حالياً.