إن الحديث عن صلاح الدين (532-589هـ/1138-1193م) حديث عن شخصية على مستوى العالم أجمع، ورغم مرور 830 عاما على وفاته فإنه حي أكثر من الأحياء، ومصيب من يصفه بأنه “قائد لكل العصور”، وكتب عنه الغربيون قبل وفاته وقبل كتابة المسلمين عنه، وحاكوا حوله الأساطير، ومع أنه دحرهم وأخرجهم من الأرض لكنهم كانوا منبهرين به إلى حد الادعاء بأن أمه غربية، وهو فارس مسيحي، ورجل عظيم ما زالت الأمة تبحث عن شبيه له.
وإذا كان صلاح الدين قائدا إسلاميا، فلحركته السياسية والعسكرية إذن بعد ديني، وهذه المقالة هي مرور سريع تعريفي على الجانب الديني للقائد الذي كان “سلطانا” أيضا.
- لم يكن صلاح الدين الأيوبي قائدا عسكريا وفارسا مقاتلا فحسب، بل كان سلطانا يحكم دولة أو دولا بكل معاني كلمة الحكم، في جوانبها الإدارية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، كان مجاهدا لم يكن محاربا مجردا، والمجاهد له رؤية للحياة، ليس قصده الاستيلاء على الأرض كما كانت الحروب الصليبية التي حاول الغرب من خلالها الاستيلاء على أرض غيرهم تحت لافتات الحرب من أجل المسيح، وكما كانت الحال في الحروب العالمية الاستعمارية السابقة. إن صلاح الدين كان يحاول تجسيد المبادئ الإسلامية في حركته، وإنقاذ الموروث الديني من التحريف الباطني أو الغزو الإلحادي، وهذا البعد أهميته تظهر لكل من يريد تأسيس دولة أو بناء أمة وحمايتها من الانهيار كما فعل صلاح الدين، وإن الفرق بين المحارب والمجاهد في الفهم الإسلامي غير خاف، فمن المقرر إسلاميا أن القتال لمجرد الاستيلاء على الأرض وحيازة الثروات ممنوع.
- لقد نشأ صلاح الدين نشأة تربوية دينية، كما كانت نشأته العسكرية، لم يكن من بيت السياسة والسلطنة فحسب، بل كان من أسرة متدينة كذلك، فوالده “أيوب” كان متدينا روحانيا بقدر حنكته الدبلوماسية، وبنى “خانقاه” للتصوف في بعلبك حين كان واليا عليها، كما أنه من زمن دعوة عبد القادر الكيلاني وتلاميذ الإمام أبي حامد الغزالي رحمهم الله؛ بمعنى أنه كان واعيا بمركزية الدور الديني في مهمته، ولهذا كان بالتزامن مع تحركاته العسكرية وتوسيع سلطنته يوسع معها الحضور الديني على مستوى العلوم الشرعية، وبما أنه كان شافعي المذهب بخلفيته الكردية، فقد استمر في بناء المدارس الدينية التي بدأ بها نور الدين الزنكي ووالده أيوب وعمه شيركوه في نشر المذهب السني، من دمشق إلى الإسكندرية والفيوم والقاهرة، وكان يستصحب أو يستقدم العلماء المقتدرين على تخريج الأجيال من الفقهاء والقضاة والموظف الملتزم أينما حل، لكن ما يميز هذه الحركة الدينية أنها لم تكن متزمتة تجاه الآراء الأخرى من أصحاب المذاهب السنية، بل حتى مع الإمامية إلى حد ما، أي أنه لم يكن متعصبا، وكيف لرجل مثله أن يتعصب لرأي فقهي وهو يعمل جاهدا على توحيد أمة ممزقة ليضرب بيد واحدة العدو الغاصب؟
فقد حاول إصباغ حركته الدينية بالاعتدال والنهل من جميع المذاهب -من شافعية ومالكية وحنفية أو حنبلية- ونجح في مسعاه نجاحا ملحوظا، وربما ورث هذا من تربيته الأسرية، فمع التمذهب برأي الشافعية فإن الأسرة كانت منفتحة ومعتدلة إزاء الرأي الفقهي المخالف، وكان تأسيس مدرسة في دمشق يدرس فيها المذهبان الحنفي والشافعي، وفي مصر أسس صلاح الدين مدرستين للمذهبين الشافعي والمالكي بجوار بعضهما وخصص لهما من الوقف ما يكفي لإدارتهما ماديا، كما كان يستشير علماء المذهبين في بعض القضايا الفقهية التي كان بحاجة لرأي الشرع فيها، خاصة في التعامل مع أهل الأديان الأخرى.
- بهذه الجهود كان يقضي على الوجود الديني الفاطمي الباطني بهدوء بيّن، كما أغلق مكتبة الحكمة التي تنشر الفكر الباطني الإسماعيلي في القاهرة، وفي السياق ذاته يأتي تحويل مؤسسة الأزهر من متحدث وناشر للفكر الإسماعيلي إلى أكبر مؤسسة دينية لأهل السنة في العالم، ورمز ديني أبرز للعالم الإسلامي السني. ومعلوم أن الأزهر مؤسس من الفاطميين، تحويله إلى أهم قلعة للعلوم الإسلامية السنية كان من عمل صلاح الدين الأيوبي.
ومن ثم فقد أعطى:
- هوية فكرية روحية للدولة التي جاهد لبنائها، وهذه الهوية توضح رؤية ونظر العامة والخاصة من أجل الانتماء إليها، والدول لا يمكن لها النهوض من دون هوية فكرية، نعم تمارس السياسة اليومية للحصول على المصالح المجردة، لكن الدول خاصة عند رفع الشعارات وتحديد الغايات التي هي ذات طابع ديني، في هذه الحال لا يمكن للحركة أن تتم بلا رؤية فكرية تكون قادرة على الجمع بوصفها بطاقة التعريف والمرور إلى التشكل والانتماء.
- البعد الديني وحّد الجبهة الداخلية، وحولها إلى كتلة متماسكة واحدة، تتحرك بكامل الجسم الشعبي وتقف بكامله، فالدين هو الدافع وهو الغاية في الوقت ذاته، وكان حديث العلماء من النوع الذي يعتمد عليهم صلاح الدين عن التصدي والوقوف في وجه الزندقة والمذاهب المخالفة مؤثرا وجادا، ليس الوقوف أو منع الخلافات الفقهية وإنما الفكرية التي تقترب من دائرة الاعتقاد وتسبب تفشيها خلخلة في بنية المجتمع وتماسكه. عند قراءة الخريطة العلمية السائدة في تلك الفترة من الزمن مع الخط المتصاعد الذي كان صلاح الدين يسير عليه، يمكن للباحث استنتاج أنه كان يريد تثبيت معادلة مرنة في الفهم الديني الإسلامي وهي (الأشعرية في الفكر، الشافعية في الفقه، وفي التربية والسلوك عبد القادر الكيلاني).
هذه الهوية الفكرية الدينية لا تقف تأثيرها ولا تظهر ثمرتها على الجبهة الداخلية وحدها، فهي مؤثرة كذلك -وإلى حد بعيد- في تحديد العلاقات مع العالم الخارجي، سلبا وإيجابا. ومعروف في عالمنا المعاصر التأثير الديني في العلاقات الدبلوماسية؛ لدرجة أن بعض الدول جعلت منه “تجاوزا” أداة من أدوات سياستها الخارجية، ولا يمكن غض الطرف عن تأثير الدين أو الاتجاه الديني لصلاح الدين الأيوبي في رسم العلاقات الخارجية، سواء مع الداخل الإسلامي من أتباع الفرق والمذاهب، أو مع الخارج الإسلامي من المسيحيين واليهود وكذلك مع الصليبيين، والعكس أيضا؛ أي أن الإثارة الدينية كانت عاملا حاسما في تحديد الآخرين (الإسماعيليين) وغير المسلمين، وفي خريطة علاقاتهم معه. وعلى تلك النتائج كانت محاولة الحشاشين من الفرقة الإسماعيلية اغتياله مرتين، في الثانية نجا بقدر من الله سبحانه بعد إصابته بجروح في وجهه بطعنة سكين.
هذه الروح الدينية وحميتها والوحدة الدينية أو المذهبية التي حاكها صلاح الدين؛ تمكن بها من ضرب المملكة الصليبية الجاثمة على القدس ضربة واحدة، وأن يحررها من السيطرة الصليبية ليعيد إليها روح العهدة العمرية، مبديا أن بيت المقدس مكانته أعلى مما يكن لها أهل الأديان الأخرى.
لو نظرنا نظرة فاحصة الآن وحيث نحن نحيا، ووسعنا النظر للخريطة الدينية الاجتماعية لبلاد الشام الكبير ومصر، وعقد مقارنة مع ما قبل ظهور نور الدين الزنكي وصلاح الدين الأيوبي، لنرى واضحا أن الهوية الدينية والسياسية -بل والشعور النفسي- التي هي الآن لتلك البلاد الواسعة شكلها نور الدين والأسرة الأيوبية، وكانت هوية مصر فاطمية باطنية، والأزهر في الاتجاه المعاكس مما هو عليه الآن؛ هويته الفكرية والقومية التي يتمتع بها في الوقت الراهن هي من تشكيل صلاح الدين الأيوبي، وإلا لكانت مصر الآن في ضفة أخرى مختلفة وقد تكون معادية تماما، وكذلك طرابلس الشام وبعلبك وحلب وحتى دمشق، وفي ضوء هذه المقارنة ربما يمكننا فهم المحاولات الجارية لتغيير الهوية والديموغرافيا في حلب وبعلبك على وجه الخصوص.
وكذلك نفهم ونعي أهمية وضرورة الحضور الديني في الصراع الدائر حاليا والأمة تبحث عن خليفة صلاح الدين وهي ترنو ببصرها إلى بيت المقدس، وكيف أن الحماسة الإسلامية تفعل فعلها المعجز في هذا الصراع المصيري.