على مر التاريخ، ارتبط تطور الإنسانية بتطور المهن. بعضها اندثر تمامًا وبعضها تغيرت ملامحه وأدواته لتواكب عصرها. وإذا كان تأريخ قصة حياة البشرية قد بدأ حين عرفت الكتابة، فإن مهنة الكاتب قد ظلت عبر آلاف السنين في تطور مستمر من حيث الشكل والمضمون، دون الاستغناء عنها. أما عن الأدوات، فمن النقش على الحجر مرورًا بالورق ثم الطباعة والآلات الكاتبة حتى جاء زمن الكتابة على أجهزة الحاسب الآلي والهواتف الذكية باختلافها، من خلال لوحة المفاتيح أو حتى الإملاء الصوتي الذي يتحول لكلمات مكتوبة، بالإضافة لأشكال مختلفة من تطبيقات الذكاء الصناعي التي تساعد الكاتب عبر توقع واقتراح كلمات له. في هذا السياق، كان للتكنولوجيا دور هام في التأثير على طبيعة الكتابة، ليس فقط من حيث الأدوات ووسائل النشر والطباعة، بل أيضًا من حيث الانتشار والوصول للمتلقين. ومن ثم، كان ذلك تغييرًا مستمرًا في طبيعة مهنة الكاتب عبر الزمن، بحيث أصبح لزامًا عليه مجاراة التطور وخاصة في ظل الاتجاه حديثًا إلى التحول الرقمي.
كيف أثر التحول الرقمي على صناعة النشر؟
عندما اتجه العالم مدفوعًا بالتطور التكنولوجي، للتوسع في رقمنة عمليات الكتابة، كان لذلك عدة آثار إيجابية وسلبية على تلك الصناعة. من أبرز الآثار الإيجابية، إتاحة الكتابات والمؤلفات إلكترونيًا ونشرها على نطاق أوسع بكثير مما كان عليه الحال قبل ذلك. هذا التواجد الرقمي أدى لحفظ ما هو مكتوب بشكل يصعب تلفه أو فقده مع مرور السنين. النشر الإلكتروني ساهم في خفض تكاليف الطباعة بشكل ملحوظ ومؤثر، مع الأخذ في الاعتبار الأثر البيئي الإيجابي الذي ظهر عند تجنب استخدام الورق.
في المقابل، تمثّلت الآثار السلبية في تعرض الكثير من الكتاب والمؤلفين لأضرار جسيمة نتيجة تكرار اختراق حقوق الملكية الفكرية، إذ أتيحت مؤلفاتهم عبر شبكة الإنترنت دون اتفاق أو تنسيق يحفظ الحقوق. ولمواجهة ذلك، تقوم دور النشر الإلكترونية منذ فترة بحماية مطبوعاتها الرقمية، بصيغ عالية التشفير، وبعضها صمم تطبيقات خاصة به حسب أنواع الهواتف الذكية، تمكن مالكيها من الشراء مباشرة، إما نسخ ورقية وإما إلكترونية محمية.
بخلاف ذلك، وجدت الكثير من المنشورات الإلكترونية غير المدققة والتي تفتقر إلى المصادر الموثقة، وهو ما أثر سلبيًا على ثقافة الجموع التي تجد سهولة في تلقي معلوماتها من الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي دون بحث عن الأصول ودون تحري الدقة.
أثر سلبي آخر هو خسارة وإفلاس العديد من دور النشر والطباعة حول العالم. في الولايات المتحدة الأمريكية -على سبيل المثال- اضطرت مجموعة كبيرة من الصحف ذائعة الصيت إلى تقليص أرقام توزيعها وإلغاء آلاف الوظائف وتسريح عدد كبير من العاملين فيها، بينها صحف واسعة الانتشار مثل “شيـكاغـو تـربيـون”، “بـوسـطن غـلوب” و”لوس أنجلوس تايمز” ، وحتى المجلة الأوسع انتشارًا في العالم وهي مجلة “تايم” الأمريكية الشهيرة. ثمة صحف أخرى، تحولت إلى صحف رقمية، مثل “كريستيان ساينس مونيتور” التي ألغت طبعتها الورقية منذ عام 2008 واكتفت بنسخة رقمية على موقعها على شبكة الإنترنت. وتشير الإحصاءات إلى أن عدد الوظائف في الصحافة الورقية الأمريكية قد تقلص بحوالي 30% في الفترة بين عام 2008 و2013 كنتيجة مباشرة للتحول الرقمي في صناعة الصحافة. وقد أظهرت إحدى الدراسات التى أُجريت عام 2019 في الولايات المتحدة الأمريكية أن 37 ٪ من البالغين يقرأ الكتب الورقية، بينما 28 ٪ يقرأ الكتاب الرقمي والورقي و7 ٪ يقرأ الرقمي فقط، بالإضافة إلى 27 ٪ لا يحب القراءة.
وتؤكد دراسة بحثية بعنوان “العوامل المؤثرة على مستقبل الصحافة الإلكترونية في مصر من عام ٢٠١٥ حتى عام ٢٠٣٠” للباحث “عبد الناصر منصور” أن انتشار الصحافة الإلكترونية في السنوات الأخيرة، يرجع إلى ارتفاع معدلات استخدام الإنترنت في مصر، بالإضافة إلى سرعتها في نقل الخبر. و”أنه في كل الأحوال لا بد أن نضع في الجريدة أو المجلة المطبوعة ما يبرر وجودها، فإذا لم تطور الصحف المطبوعة من محتواها وتركز على المحتوى الحصري والتحليلات والقصص الإخبارية والبحث فيما وراء الأخبار فستختفي هذه الصحف”، وستفقد الصحف المطبوعة مبرر وجودها، فحتى كبار السن الذين يمثلون الجمهور الأكبر للصحف المطبوعة أصبح بعضهم يتعامل مع التكنولوجيا الحديثة.
وكان قد صدر قرار بوقف الإصدارات الورقية لعدد من الصحف المسائية المملوكة للدولة وتحويلها إلى منصات إخبارية إلكترونية اعتبارًا من يوليو 2021؛ وهي الأهرام المسائي الصادرة عن مؤسسة الأهرام، والأخبار المسائي الصادرة عن دار أخبار اليوم، والمساء المصرية الصادرة عن دار التحرير. وقد أكدت الهيئة الوطنية للصحافة وقتها أنه لا مساس بحقوق العاملين في تلك الإصدارات الورقية وحفظت لهم وظائفهم ومستحقاتهم المالية وما يتمتعون به من مزايا. بالرغم من هذا، يرى المحرر عبد العزيز المصري أنه من المنطقي أن تلجأ المؤسسات الصحفية إلى خفض تكلفة التشغيل، خاصة بالنسبة للعاملين في الطباعة والخدمات المعاونة حيث إن الجيل الأكبر سنًا الذي يمارس الصحافة التقليدية دون مواكبة التقدم التكنولوجي بشكل يومي، سوف يتحول إلى ضحية لموجة التكنولوجيا التي تجتاح قطاع الصحافة”. ويتوقع الكاتب ياسر عبد العزيز، في حوار له مع BBC، أن تبقي الدولة على بعض الإصدارات الورقية من الصحف بشكل “رمزي ومحدود”، “بينما سيكون الاعتماد بصفة أساسية على الوسائط الرقمية، “لأن هذا هو المستقبل، ولأنه يتسق مع آليات التلقي الحديثة، إذ أصبح الناس في الغالب يتلقون الأخبار والمعلومات عبر الشاشات، لا عبر الورق”.
ومن خلال الأنظمة المختلفة التي تتضمن التقنيات والبرمجيات، التي يمكن إدخالها لتشجيع ودعم صناعة الكتابة وتحسين جودتها، يمكن استغلال تقنيات الذكاء الصناعي في عمليات جمع المادة والترجمة والتحقق من صدق الأخبار أو زيفها، ما يقلل من بعض المهام الروتينية، التي تلقي على عاتق الكاتب أو الصحفي. كذلك الأمر بالنسبة لعملية تحليل اتجاهات القراء، وتفصيل المحتوى بحيث يكون متناسبًا مع ميول القراء وتوزيعهم الاجتماعي أو الجغرافي. يمكن أيضًا العمل على تطوير تصميم البوابات الإلكترونية، وأنظمة الواقع الافتراضي بشكل يتناسب مع الطبيعة المتطورة للمتلقي، الذي يقارن بطبيعة الحال مع ما يقدم له عالميًا.
كيف أثر التحول الرقمي على النص والمحتوى؟
قبل نحو عقدين من الزمن، ظهر في الساحة الأدبية إنتاج أدبي يُقرأ على شاشة الكمبيوتر، ومن أهم خصائصه القيام بدمج الوسائط الإلكترونية المتعددة نصية وصوتية وصورية وحركية في الكتابة على فضاء يسمح للقارئ بالتحكم فيه، وقد سمي بالأدب الإلكتروني، أو الأدب الرقمي.
تقول الشاعرة الأردنية غدير سعيد حدادين: “إن جيل اليوم لا يرى متعة في القراءة الورقية، والأدب الرقمي نوع جديد من الكتابة الأدبية، انتشر بانتشار استعمال أجهزة الكمبيوتر الشخصية والوسائل التكنولوجية الحديثة”. وأوضحت: “لكل أدب ميزاته، ومع أن أدب الجيل الماضي كان مليئًا بالتأمل والإبداع، لكنه محاط بالركون والبطء في الانتشار، فما نراه في يومنا هذا سريع بسرعة البرق في الانتشار، لكن يتضمن نشر معلومات غير موثقة وغير حقيقية”.
ويقول الشاعر والروائي المغربي حسن المددي: “إن ظهور الإنترنت ووسائل التواصل أحدث ثورة عارمة في مجال الكتابة، وأثار الخوف على صمود الكتاب الورقي، وأصبح المفكرون يدركون خطورة الموقف، الذي بات يمهد الطريق لتغيير جذري في مجال الإبداع الأدبي والفكري والفني”.
لكن التهديد الحقيقي للكتابة ربما يتجاوز الأسلوب الأدبي إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث استطاعت محركات الذكاء الصناعي مؤخرًا أن تحاكي كتابات أدبية وعلمية وأن تصنع محتوى خاصًا بها يهدد الكثير من العاملين في مهنة الكتابة كالكتاب والصحفيين ومعدي التقارير الإخبارية ومؤلفي القصص.
منذ أيام قليلة، أصدرت شركة “Open AI” المملوكة لرجل الأعمال “إيلون ماسك” برنامج ChatGPT وهو محرك للدردشة الكتابية ” “Chat Botيعتمد على أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي في محاكاة ردود الأفعال والإجابة على أسئلة المستخدم. يستطيع هذا البرنامج أن يؤلف روايات ويكتب أشعارًا بل ويقص النكات أيضًا. وبرغم أن هذا البرنامج ليس الأول من نوعه ولكنه يعد الأكثر تطورًا حتى الآن ويظهر ذلك في مدى الاتقان الذي يغلب على مخرجاته من المحتوى الكتابي. وقد سبق هذا البرنامج عدة تجارب لصناعة المحتوى من خلال الذكاء الصناعي، لعل أبرزها ما قدمه فريق علماء يابانيين في جامعة FHU الذين شاركوا بـ11 رواية مكتوبة باستخدام الذكاء الصناعي في مسابقة “نيكي شينيتشي هوشي” الأدبية التي أجازت في مرحلة التصفية الأولى 1450 رواية من بينها تلك المكتوبة بواسطة الذكاء الصناعي، دون معرفة مسبقة للمتقدمين.
وبالرغم من القدرات المتقدمة لمحركات الذكاء الصناعي إلا أنه يظل هناك بعض الجوانب التي يمكن للبشر أن يظلوا متفوقين فيها مثل القدرة على فهم وتفسير الأحداث السياسية في سياق إنساني وعلاقتها بالعلاقات الدولية والأيديولوجيات السياسية والعوامل الثقافية.
في حوار بين الإنسان والعقل الإلكتروني نشره المدون الأردني زاهر طلب، أقر برنامج Chat GPT أن البشر لا زالوا أفضل في الفهم العميق للسياقات والتعقيدات السياسية والاجتماعية والثقافية التي يتوقف عليها تفسير الأحداث بتنوعها وتعددها والوصول إلى الدقة في تبني أو رفض الأفكار والنظريات المتناقضة. وكذلك في القدرة على تحليل جوانب علاقة التناقضات والمصالح بين الدول والجماعات المختلفة والأخذ بعين الاعتبار الاختلافات الثقافية والسياسية والدينية. لذلك، يمكن القول أن الاستغناء عن المحللين السياسيين والصحافيين ودورهم الهام في تحليل الأوضاع وتقييمها لا زال فكرة مستبعدة.
فرص وتحديات مستقبل الكتابة في مصر
كل تلك التطورات من حولنا يجب أن تدفعنا إلى العمل على مجاراة التكنولوجيا والسعي نحو التمكن من أدواتها حتى يظل الكاتب المصري رائدًا في المستقبل الرقمي.
لكي تتحقق تلك الريادة، يجب الانتباه للتحديات التي تواجهنا وأبرزها جودة الإنترنت في مصر. إن العمل على تطوير سرعة واستقرار وكفاءة الإنترنت يعد دعمًا مباشرًا لصناعة النشر الإلكتروني ويخلق مناخًا إيجابيًا لأطراف المعادلة من كتاب وقراء وناشرين. التحدي الآخر الذي لا يقل عنه في الأهمية هو المواجهة القانونية الحاسمة لكل عمليات القرصنة الإلكترونية بحيث يتم ضمان كافة الحقوق الأدبية والمادية للكتاب والناشرين.
أما الفرص التي يجب استغلالها فتتمثل في العدد الكبير من القراء الشباب المستمرين في البحث عن شغفهم من خلال قراءة أنواع مختلفة من الكتب المتوفرة بصيغ مطبوعة وإلكترونية. ولعل الإقبال الكبير من الفئات العمرية الصغيرة كان ملحوظًا ومبشرًا في معرض الكتاب مؤخرًا. تلك الفئات العمرية من الشباب المصري تمثل جيلًا واعدًا تربى على محتوى تعليمي مختلف عما حظت به أجيال سبقته. لا بد أن نرى فرصة كبيرة لدعم المحتوى الكتاب الرقمي لمن تم تقديم “التابلت” والكتب التفاعلية لهم في المراحل التعليمية المختلفة، وأصبحوا على استعداد لتلقي المزيد.