بقلم: مصطفى قطبي

تحولات ومتغيرات، فرضت نفسها على أرض الواقع في كل الاتجاهات الثقافية منها، والفكرية والاقتصادية والوطنية، إذ تركت بصماتها أينما توجهت، لنرى عولمة تحاول اجتياح الآفاق والثقافات، لتصبح كلها على نسق واحد، يستلب العقل فيها، كي تصبح إبداعاته في اتجاه واحد، عدا عن محاولات التسليع لمجال الفن والثقافة، وما تعنيه هذه الحالة من إقحام أبعاد دخيلة، فهذه التحولات كما التغيرات الطارئة، تحتاج لاشك إلى حالة تقويمية، ولابد للثقافة الحقيقية، هنا من أن تقوم بدورها المسوؤل والريادي.‏ يقول غرامشي حول المثقف “إن الناس جميعاً مثقفون لكنهم لا يتعاطون جميعهم نشاطاً ثقافياً”.

ورغم اختلاف التعاريف بمجملها للثقافة إلا أنها في المحصلة هي الوجه الآخر للأمم وللمجتمعات، عبر تراكمات زمنية وتاريخية وإرثية، تدخل فيها مختلف التأثيرات لتنتج نبضاً إنسانياً يكوّن هوية لكل مجتمع، وبذلك يصير تطوير الحياة المعرفية عن طريق أنشطتها المختلفة، فتطور الحياة الثقافية والعلمية، غالبا ما يكون من ورائه مؤسسات ومراكز بحثية فكرية في مختلف الفصول، ومن كافة الاختصاصات، حيث يسعى كل مجتمع حضاري إلى تأسيس الأطر والقوالب التي تحفظ منجزاته في شتى فنون المعرفة، وإيجاد مؤسسات ومراكز للفكر، تدفع إلى تحسين مستوى البشرية على الصعيد الخاص والعام، فهذه المؤسسات والمراكز هي المرآة الحقيقية التي تعكس اهتمام الأمم والشعوب بالعلم والمعرفة واستشراف المستقبل، حيث تنشط هذه المؤسسات و المراكز عند نمو أي ظاهرة اجتماعية أو سياسية أو ثقافية أو اقتصادية، فينبري لها أهل الاختصاص لدراستها وتحليلها، و محاولة معرفة كل الجوانب المحيطة بها، لتقديم نتائج أبحاثهم والبناء عليها في خدمة الأهداف المرجوة.

من هنا الأهمية التي أوليَتْ لمفهوم المثقف ودوره ووظيفته، والتي لا تنطبق على الأفراد فقط إنما بالقدر نفسه وبالأهمية يأتي دور المؤسسات الثقافية من حيث ممارستها نشاطاً ثقافياً، يجعلها موضع اهتمام أهل السياسة وتطلعاتهم لاستيعابها واختراقها إيديولوجيا، بالقدر نفسه يجري السعي نحو استيعاب المثقفين، لذا تندرج المؤسسات المغاربية، ضمن أنماط عدة منها المؤسسات التقنية مثل المؤسسات التي تُعنى بمجال معين كالأدب والفن والمسرح… أو مؤسسات وظيفية تمارس نشاطاً ثقافياً تقليدياً لا يُسهم في إغناء الثقافة بمعناها العام أو إغناء الناس تحديداً، بل ربما تُسدي بأدائها ثقافة الاحتواء والتغييب التي تمارسها بعض السلطات لتغدو هذه المؤسسات منابر إعلامية لخطابات موجهة. وقد بلغ عدد المؤسسات الثقافية في العالم العربي 1707 مؤسسة وهي موزعة على الشكل التالي:

منطقة المشرق العربي 878 مؤسسة

منطقة المغرب العربي 502 مؤسسة

مجلس التعاون الخليجي 302 مؤسسة

منطقة القرن الأفريقي 25 مؤسسة

أما مراكز الفكر لا توجد له أرقام دقيقة، وبالقول أن 6976 مركز تفكير في العالم، وهذا حسب إحصائيات عام 2010 حيث أنه في أمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية بنسبة 37 في المائة، من مراكز الأفكار في العالم مقابل 34 في المائة، مراكز أفكار في أوروبا الشرقية والغربية أما في الشرق الأوسط وأفريقيا فهي 4 في المائة فقط.. أما الأهم هنا فهي إسرائيل حيث تبلغ فيها نسبة المراكز 25 في المائة من مراكز الأفكار في العالم، والتي تهتم بقضايا الشرق الأوسط الجيوسياسية، والتي يبلغ عددها نحو 200 مركز. وبالتمييز بين المؤسسات الثقافية ومراكز الفكر ومراكز البحوث والدراسات التي يستحق كل منها دراسة خاصة، الملفت للنظر بأن المؤسسات العربية بعامة والمغاربية بخاصة، لا تشمل على مراكز بحوث سواء في الصحف أو الإذاعات أو غيرها من الوسائل الإعلامية إلا بقدر ضئيل ومتواضع، لا يظهر على الخارطة الفكرية بوصفها مؤسسات لا ترمي إلى العلمية أو الأكاديمية والموضوعية أسوة بمراكز البحوث والدراسات العالمية ولا الإسهام في صنع القرارات السياسية أو حتى رديفاً مساعداً لها. ويبقى السؤال: ما دور المؤسسات المغاربية؟ وما دور المثقفين والكتّاب في تجديد ثقافتنا ؟!

إنّ الثقافة بمصادرها وتوهجاتها تتغير حسب المتغيرات العديدة التي تجتاح العالم، ووفق الأحداث المتسارعة، وعليه فإن هذا المعطى الجديد المستمر يتطلب من المؤسسات الثقافية والمثقفين، أن يواكبوا هذا التغير وأن يقرؤوا قراءة صحيحة لما يحدث ويجري، وفي الآن نفسه أن يترافق ذلك بفعل ثقافي مغاربي يسهم في تشكيل الوعي، ليكون هناك تحصين لمجتمعاتنا المغاربية، وبالطبع فإن هذا التحصين لا يعني أن نكون منعزلين عن ثقافة الخارج، وإنما فاعلين وفعلنا إيجابي بالإسهام في ثقافة الآخرين، ومن المهم أن يسعى المثقفون المغاربيّون بكل شرائحهم، ومن خلال الوعي المفترض، أن يراجعوا بين فترة وفترة، وبين مرحلة ومرحلة، مسارهم الثقافي واستخلاص الملامح الإيجابية ثم البناء عليها، إذ لا يمكن أن نستنبط فكراً ثقافياً متجدداً وواعياً دون الارتكاز على المسار الثقافي بشكل عام، وعلى إيقاع التجدد المستمر في منهج الحياة، وما تفرضه الحاجة والأحداث والظروف كي نرتفع في كلّ مرحلة إلى مستوى المجريات، والطموحات أيضاً، وهذا كما أرى هو عين التجدد والتجديد.

وقد تكون الحداثة في ثقافة الكتابة الإبداعية، نثراً أم شعراً، هي شعبة من شعب التجديد في منظومة الأدب، ولكن، وللأسف نجد أن الأكثرية من الأفراد المثقفين المعنيين، لا يلتفتون إلى أهمية هذا الموضوع، بل يزاولون نشاطاتهم الثقافية بصنوفها المختلفة وفق منهج واحد مهما تقدّم الزمن، ومهما جرى من أحداث متمسكين بالنظرة “الكلاسيكية” دون مسعى للتطوير والتجديد، أو مسايرة مجريات العصر، بادعاء أن هذا النهج “الكلاسيكي المبسّط” هو الأكثر قبولاً لدى العامّة، وهم بذلك، يساهمون في هبوط وتدنّي الوعي لدى العامّة، وتغييبهم عن حركة الحياة والثقافة الفطرية واجبة التطوّر، والمشغولة، محلياً وعالمياً.‏ هنا يأتي الدور الهام والمحوري للمؤسسات المعنية بالشأن الثقافي، والمسؤولية التي تحملها كهيئات ارتكازية تقوم عليها الهيكلية الطبيعية لمسألة وعملية التجديد، ولعلّ من أهم الإجراءات المطلوبة هي في إعادة النظر في الضوابط الناظمة لعملية النشر، والتخلّص من البيروقراطية، وكسر الروتين المحنّط، ثم التوسّع في تشجيع المواهب وفتح الأبواب والنوافذ لها، والعمل على ضخّ دماء جديدة في شرايين المناحي الثقافية، والبحث عن طرائق إيجابية لتفعيل دور المراكز الثقافية وإداراتها وأنظمة الإدارة فيها لتصبح بجدارة منابر تحمل قيمة اسمها.‏

إن الاتحاد المغاربي، أحوج ما يمكن في أوضاعه الراهنة، إلى أن يرسم اتجاهاته الصحيحة، وتقديم إجابات واقعية عن الأسئلة والمشكلات المثارة، وبخاصة في ظل تسارع الأحداث التي يتعرض لها، وأيضا في ظل تحديات حضارية عالمية، جعلت الأفكار العالمية تتأطر ضمن ما يسمى بصناعة الفكرة أو الأفكار، ضمن ما يطلق عليه بخزانات التفكير، والتي هي مرجع رئيسي هام جدا لمساعدتها في توصيف الحالات و إيجاد الحلول لرسم سياسات داخلية أو خارجية. من هنا يأتي دور المؤسسات الثقافية المغاربية، التي يجب أن يكون لها جلّ الدور في التعبير عن ثقافة المجتمعات المغاربية، وترمي نظرياً وفعلياً إلى رفع مستوياتهم الثقافية، وزيادة الوعي في المجالات الثقافية كافة.

إن تحديات المستقبل التي تواجه دولنا المغاربية، في كل حقول الحياة، تحتاج إلى مشروع ثقافي جديد، يأخذ على عاتقه تجميع وحشد الطاقات والكفاءات، وتفعيل الإمكانيات الذاتية للفرد وللمجتمع، وإمكانيات الدول المغاربية البشرية والطبيعية، للبدء في صياغة واقع مغاربي جديد يعي اللحظة الراهنة وهو يتطلع للمستقبل وحاجاته، ولعل الحضور الثقافي النوعي في الفضاء المغاربي، هو أحد أهم وأبرز الروافد الهامة التي تسهم في تأسيس القدرة المغاربية التي نعوِّل عليها أن تجعلنا في قلب العصر، بدل أن نبقى خارجه. وهكذا… فإننا إذا أحسنا التعامل مع الثقافة كقوّة اجتماعية وفعالية مجتمعية تمتلك المؤهلات لتحشيد الإمكانيات وتحريكها باتجاه أهداف واضحة، لأن التعامل الحسن هذا، سيقربنا من تطلعاتنا الإنسانية، ويوفر لنا كل أسباب الإمساك بنجاح في أسباب وعوامل التطور والتنمية. فالثقافة بمختلف أنشطتها وأدواتها وآفاقها، قادرة إذا ما توفرت البيئة الاجتماعية الملائمة، على مواجهة كل التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه الفضاء المغاربي، لأن الثقافة الجديدة التي يأتي بها مشروع فكري جديد، هي في حقيقتها مشروع التغيير الثقافي القادر على إنتاج بيئة اجتماعية توازي وتسند وتدعم الاستجابات النوعية لمتطلبات العصر وتحدياته.

كاتب صحافي من المغرب.

 

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Exit mobile version