بداية، قد يكون من المفيد التفريق بين (الأدب) و(الثقافة)، على ما بينهما من صميمية وحميمية، ويمكن القول أن في داخل كل أديب قدراً من الثقافة، هي على الأقل ثقافة الجنس الأدبي الذي يكتبه،‏ وقد يكون الأديب أديباً، أو معدوداً مع الأدباء، دون أن يكون مثقفاً، لأن الثقافة تعني قراءة أنواع متعددة من الإنتاج الذهني البشري، كالفلسفة، والأدب، والتاريخ، والفنون عامة… لاشك أن التطورات التكنولوجية أثرت بشكل ما على الكتاب، بل وعلى الكتابة ذاتها، بحكم تلك العلاقة التفاعلية. فقد شهدت عشْر السنوات الأخيرة تقدَّماً واضحاً لوسائل التواصل الاجتماعي، فمن النادر أن تجد أحداً لا يستخدم هذه الوسائط، ولاسيما (الفيس بوك)، الذي غدا منبراً يستطيع كلُّ امرئ أن يعتليه، ليعبر عما يريد قوله، وكان اللافت فيه أنّه صار دار نشرٍ وبوقاً إعلامياً لكلّ من هبّ ودبّ ينشر في ردهاته بكل سهولة ما يشاء من دون قيدٍ أو شرط…

ولست أنكر أن ثمة مواقع لأدباء بارزين، وكتاب مرموقين يمكن الدخول إليها، والاستفادة منها، وتلك واحدة من مزايا التقنيات العالية المتطورة التي أصبحنا نتعامل معها بشكل يومي، بيد أن مساحة ما يتشبه بالأدب، أو ما يفتقر إلى حدوده الدنيا… صارت أوسع، فبحكم تلك التقنيات المشار إليها صار بمقدور أي طامح، بل وأي طامع، أن يفتتح موقعاً، ويجد من يزوره، ولاسيما أن بعض الزائرين ليسوا ممن يمتلكون القدرة على التمييز بين الغث والسمين، هذا إذا لم يكونوا من مروجي تلك الأصناف، وممن ينفرون من الإبداع الرفيع لعجزهم عن مضاهاته، ويكفيهم من كل ذلك أن يشاهدوا أسماءهم وقد ذيلت بصفة شاعر، أو قاص، أو حتى ناقد!

الذي لا أشك فيه أن عدد المواقع والصفحات الرديئة هو أكثر بكثير من تلك التي ترفد الثقافة والمثقفين بما فيها من إبداع رفيع، وقد يكون هذا المظهر ذا صفة عالمية من حيث التردي، ولعله أمر مطلوب لدى الدوائر الاستخبارية التي تستعين بكبار المفكرين، والمختصين، لتعميم أمر ما، وتسويقه، بحيث تبدو صفة أنه (عالمي) كافية لتبرير مالا يبرر أخلاقياً، وإبداعياً! أو لم يعمموا مقولة إن الفساد عالمي؟!

ترويجاً له وهدفهم الأكبر إفشاء الفساد في البلدان المحتاجة للنمو؟ ولو أجرينا مقارنات علمية بين حجم الفساد في بلدانهم والبلدان المعنية الأخرى، لوجدنا بعض ذلك الفساد ربما في الشرائح المالية، والسلطوية العليا، لا على صورة ذلك الانفلات الأخلاقي الذي تشكو منه البلدان الفقيرة والمفقرة.‏‏ أنا لا أستبعد تعميم أنواع الرداءات في البلدان الطامحة للنمو لعرقلة تقدمها، ولإبقائها مشدودة إلى كل ما يعيق تقدمها أو لم يمنحوا المئات إن لم نقل الآلاف من الشباب العرب درجات في الدكتوراه ولا يستحقونها؟!‏‏

إن الخطورة في المساحة الإبداعية الثقافية تشبه خطورة أن يضرب المرض الدماغ أو النخاع الشوكي،‏‏ فمن منا لم يصادف من تلك النماذج من إذا أخطأ في النحو كتابة أو قراءة، ونبهه أحد بلطف إلى ذلك يكون الجواب حالة من التبرم، والترقع، بل والانخلاع، زاعماً أن لا حد يقف عند هذه التوافه!‏‏

إن التساهل في أمر اللغة لا يقل خطورة عن التساهل في أمر التهريب، ونشر المخدرات، والفساد والإفساد، وكل في ميدانه جد خطير، لنتذكر أن ما نسميه نحن، من حيث التحقيب، زمن النهضة، كان بزوغ إشعاعاته الأولى في اللغة والأدب والثقافة بعامة،‏‏ فقد كان معلم الصفوف الابتدائية يشرح الدروس، على تنوعها بلغة عربية فصيحة قريبة من أفهام تلاميذه، والآن تجد بعض الدكاترة في جامعاتنا يشرحون دروسهم بالعامية، وقد وجدوا ما يستظلون به، وهو أن اختصاصهم ليس اللغة العربية وكأن لغة الأمة تبيح لأبنائها إلا يتقنوها! ‏‏ لنتابع المذيعين والمذيعات الذين يظهرون على شاشاتنا، ولنتتبع كمّ الأخطاء في قراءة نشرات الأخبار.‏‏ فكيف بمن يريد أن يرتجل الكلام، وهو من حملة الشهادات الجامعية،‏‏ مثل هذه الأخطاء كان يعاقب عليها في الستينيات، وها قد أصبحت سمة لا تعني أحداً حتى لكأن القانون الفلتان صفات الأواني المستطرقة! ولعل السؤال الصعب في هذا أن نقول: ما الحل؟‏‏

إن صعوبة الحلول المطلوبة لا تسوغ استمرار الخطأ، ولذا لابد من وضع الخطط الناجعة، ومتابعة تنفيذها والمنفذون هم دائماً من البشر، ولا يؤتمن على مثل هذا الإنجاز إلا أناس مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة، لا بمجرد الولاء! لأن صاحب الضمير الحي، لا يخشى منه حتى حين لا نلتقي معه في جميع الأفكار.‏‏

ثمة أزمة أخلاقية حقيقية، وما لم نبدأ من الأخلاق فسنشعر كثيراً، وقد لا يرافقنا إلا الإخفاق،‏‏ وثمة سؤال يطرح بإلحاح: ما الحل… يشمل أيضاً المواقع الالكترونية، ولأنها خارج حدود السيطرة، وهي معدة لتكون كذلك، لتبقى السيطرة بيد من يمسك طرف الخيط فلا مناص من التشدد في نشر الإبداع الأدبي، فلا ينشر إلا المتميز أو الحامل بذرة الوعد القادم، ولا ندري ما إذا كانت موجة الديمقراطية الهابة على المنطقة العربية من مواقع القرار العولمي المتوحش سوف تطلع علينا بأنصاف من الموهوبين وبأرباع من المقلدين العجزة، فيشكلون من الاستقطاب ما يعجز عنه حتى المبدعون…‏‏

 

كاتب صحفي من المغرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Exit mobile version