تشكل الأسرة مقوماً من أهم مقومات المجتمع المغاربي، فهي اللبنة الأولى التي يتشكل من خلالها بناء هذا المجتمع، وهي التي تعمل على بقائه واستمراره، ولا نبالغ إذا قلنا أن الأسرة هي المرآة التي تعكس صورة المجتمع المغاربي، وهي الترمومتر الذي يعبر بصدق عن طبيعة المجتمع وأحواله.

وعلى الرغم من التغيرات التي شهدتها الأسرة في بلداننا المغاربية، فلا زالت تشكل النسيج الأساسي الذي يعمل على تماسك البناء الاجتماعي لمجتمعاتنا، ولا زالت هي الجماعة المرجعية التي تشكل وجدان الفرد وضميره الجمعي، ولا زالت تمثل المستودع الذي يحتوي على المخزون القيمي والأخلاقي للفرد والمجتمع، ومن هذا المنطلق يأتي دورها في تحقيق “الأمن الثقافي”.

ومُصطلح “الأمن الثقافي” ظهر تقريباً مع ظهور مُصطلح آخر هو “العولمة” حتى بدا الأول أقرب لأن يكون مُضاداً للثاني… وليس ترفا أبدا الحديث عن الأمن الثقافي المغاربي بكل مكوناته الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وما في المصطلح من دلالات شاملة، لان الثقافة هي الوعاء والبوتقة العليا التي تنصهر فيها كل قدرات ومعطيات المجتمع أي مجتمع، وما يظهر من قيم ودلالات وبنى فكرية في مسيرة تطوره العلمي والثقافي لابد لها من هوية أو ناظم يحملها ويوجهها، أي أهداف يسعى إليها وإلا كان التطور بغير أهداف لا معنى له، ولا يخدم رسالة أي مجتمع.‏

من هذا الإطار يأتي الحديث عن الأسرة المغاربية وأدوارها الهامة، فهي أولى المؤسسات التي تتلقف الطفل، وتنقله من مرحلة الميلاد البيولوجي إلى الميلاد الاجتماعي، من خلال ما تقوم به من دور أساسي في عملية التنشئة الاجتماعية، التي يكتسب من خلالها الفرد لغة المجتمع، وعاداته وتقاليده، وقيمه الأخلاقية، وهي التي تعزز أواصر التماسك الاجتماعي، والحصن الذي يحفظ للفرد سلامته النفسية والاجتماعية والأخلاقية.

لكن هذه الأدوار تتعرض لتحديات خطيرة كانت ـ ولا تزال ـ وليدة التطورات التي طرأت على المشهد العالمي والمحلي، بفعل العولمة وما صاحبها من انفتاح معرفي وثقافي عابر للحدود. وللأسف فالأسرة المغاربية، لم تعد في هذا السياق هي الإطار المرجعي الوحيد الذي يقوم بعملية التنشئة الاجتماعية والأخلاقية للفرد، بل تعددت هذه الأطر وتنوعت بشكل غير مسبوق، خذ على سبيل المثال الدور الذي أصبحت تقوم به وسائل الإعلام، في تشكيل ثقافة الطفل وقيمه، أو الدور الطاغي الذي أصبحت تقوم به الشبكة العنكبوتية، في إكساب الطفل قيم وعادات وتقاليد عابرة لحدود المجتمع، أو الجماعة الاجتماعية، أو الأسرة، التي ينتمي إليها.

وكان من محصلة ذلك تراجع دور الأسرة المغاربية وتقلص وظائفها، وبات دورها هامشياً في عملية التنشئة الاجتماعية والأخلاقية، فالأسرة المغاربية تتعرض لتحديات مضاعفة نابعة أولاً من طبيعة القواسم المشتركة التي تجمع بين الأسرة المغاربية والأسرة العربية، وما يترتب على ذلك من التشابه فيما تتعرض له كلتاهما من مشكلات، ونابعة ثانياً من طبيعة وخصوصية التطورات التي حدثت داخل المجتمع المغاربي خلال السنوات الماضية، وما واكبها من تغيرات شملت كل أبنية المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

هذه التطورات والتغيرات حملت معها بعض الآثار السلبية التي برزت آثارها بوضوح داخل الأسرة المغاربية، وكان من أهم هذه الآثار التراجع الواضح لدور الأسرة في عملية التنشئة الاجتماعية، فضلاً عن الدور الهامشي الذي أصبحت تقوم به الأم داخل الأسرة، وترتب على ذلك قيام الخادمات والمربيات بدور محوري داخل الأسرة المغاربية، بخاصة في عملية التنشئة الاجتماعية للأطفال، حتى بات الطفل يرتبط بالخادمة أو المربية أكثر من ارتباطه بأمه، وتراجع دور الأم، في عملية التنشئة الاجتماعية والأخلاقية للطفل. ولم تعد الأسرة ـ إزاء هذا الوضع ـ هي الإطار المرجعي لقيم الطفل وعاداته وتقاليده، كما لم تعد الأسرة هي المنبع الأول الذي يرتوي من خلاله الطفل عاطفياً، ولم تعد كذلك القلب النابض الذي يمد لغة الطفل بالحياة والتدفق.

وإجمالا فقد تراجع دور الأسرة المغاربية تراجعاً حاداً خلال السنوات الماضية، وتخلت عن الكثير من الوظائف التي كانت تقوم بها في الماضي، وترك ذلك فراغاً اجتماعياً وأخلاقياً ولغوياً لدى الأطفال، وترك مهمة ملء هذا الفراغ للخادمة أو للتليفزيون أو للشبكة العنكبوتية، ومن الطبيعي أن يترتب على هذا الأمر وجود أنماط عديدة من التشوه اللغوي والقيمي، الأمر الذي يؤدي إلى صراع لدى الطفل المغاربي بين لغته وقيمه وثقافته الوطنية، وتلك التي يكتسبها من السياق المحيط، والذي غابت عنه الأسرة، أو أصبح دورها هامشياً. من هذا المنطلق، فإننا نؤكد على ضرورة قيام الأسرة بدورها، فعليها تقع المسؤولية الأولى والأساسية في تحقيق متطلبات “الأمن الثقافي”. و”الأمن الثقافي” حيث يبدو تركيب المفردتين مُتناقضاً (الأمن ـ الثقافة) الأمن بما يوحي من إحجام وحتى انغلاق وتكتم، والثقافة بما توحي من تأثر وتأثير، وامتداد وانفتاح…

إن التحديات التي تتعرض لها الأسرة المغاربية في هذه الآونة تقتضي أن تستعيد دورها المفقود في تحقيق “الأمن الثقافي”، فالأعداء يعرفون تماماً ما يلعبه العامل الروحي/ الثقافي في تجذير استراتيجية ضياع الشعوب المغاربية، فسلاح الكلمة والصورة والأيديولوجيا المغلقة، يظل أعظم فتكاً وتدميراً لجوهر الأسرة المغاربية، أي روحها، حيث تقوم الكلمة وبقية الوسائل الأخرى باغتصاب الروح من الداخل ببطء لتضمن اغتصابها باستمرار، وتحقيق حالة استلابها وخيانتها لتاريخها بالذات، وقد أثبتت التجارب التاريخية، أن الذي يضمن السيطرة على الشعوب هو التخريب الروحي والقيمي لهذه الشعوب، أو ما يسمى حرب المعنويات في شقيها الثقافي والاجتماعي، كحرب اللغة والتعليم والفن والأدب والذوق والعادات والتقاليد والأزياء والطقوس ومكانة المرأة والوعي العقلاني النقدي…

وفي تقديري المتواضع، تحقيق “الأمن الثقافي” يكون بحماية ما أنتجته البلدان المغاربية منذ آلاف السنين من حضارة، وغربلتها مما ليس مغاربيّاً لاسيما تنقيتها من “ثقافة” الشعوب الغازية لبلداننا… ولكي تستعيد الأسرة المغاربية دورها المفقود في تحقيق الأمن الثقافي، فلابد أن تصبح الأسرة هي السند الحقيقي والمنبع الأصيل للقيم الأخلاقية والاجتماعية التي ترتقي بوجدان الطفل المغاربي وتشكل ضميره الجمعي وتعزز من مسؤوليته الاجتماعية نحو ذاته ومجتمعه.

 

كاتب صحفي من المغرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Exit mobile version