لابد من العلم… هذا أمر بديهي لا جدال فيه، فالعلم هو الذي يرفع الأمم، ويثبت وجودها، ويؤكد حضورها في هذا العالم المتطور… ولابدّ من المدرسة أيضاً، فالمدارس مازالت تحمل على عاتقها مسؤولية نشر ذلك العلم، واستيعاب طلابه منذ مرحلة الطفولة. ولكن يبقى العلم، على أهميته وضرورته، جافاً، ممضاً! فهو أرقام، وتمارين، ومسائل، ونظريات، ومعلومات سردية تحفظ غيباً، ونصوص لا يمكن الخروج عن حرفيتها! فهل باستطاعتنا ترطيب هذا العلم، وجعله لقمة سائغة، طرية لينة، يمكن لذاكرة الطفل أن تبتلعها بكل يسر وسهولة؟ وهل باستطاعتنا أن نمزج العلم بالأدب، فنجعل له طلاوة (الشعر) وجاذبيته وحلاوته، وسلاسة (القصة وإمتاعها وتشويقها وإدهاشها) هل باستطاعتنا أن نقدم المعلومة، ضمن إطار فنّي أخاذ، يأخذ بألباب الطفل، ويفتح شهيته إلى أقصى حد، فيقبل على الكتاب المدرسي بكل جوارحه ومشاعره وأحاسيسه؟

ربّما سبقنا الأولون في هذه التساؤلات، وربما سعوا نحو إجابات تقف على أرض الواقع، فحاولوا أن يقدموا معلومات فقهية ولغوية عبر أبيات من الشعر، مقفاه وموزونة وذات موسيقى داخلية، ولكن مضمونها ليس أدباً ولا فنّاً ولا مشاعر ولا عواطف، بل هو مضمون علمي بحت، تمت صياغة معلوماته عبر هذا النظم أو الشعر كما يحب بعضنا تسميته… وبالتالي يمكن للتلميذ أن يحفظ دروسه، في إطار هذا الأسلوب الذي كان جديداً في عصره. فالفكرة إذاً ليست طارئة ولا جديدة، ولكن المشكلة في عصرنا، أن المناهج المدرسية ليست في يد الأديب أو الشاعر أو القاص، بل هي في يد مختصين بمواد علمية أو نظرية، يحفظون معلومات عن ظهر قلب، ويريدون أن يلقنوها للتلاميذ بالأسلوب الكلاسيكي الذي اعتادوا عليه، والذي سبق أن تلقوا علومهم (في مراحل تعليمهم الأولى) عبره هو فقط!

إن من المبادئ العلمية والتربوية الربط بين مواد المنهج والمستويات العمرية للتلاميذ. وللتعرف إلى ملاءمتها وصلاحيتها فإن ذلك يتم من نسبة التسرب والرسوب وهبوط الكفاءة التعليمية. إن التعليم ليس هو أن يعرف التلميذ معلومة إنما بالدرجة الأولى أن يسلك به المعلم سلوكاً تربوياً يؤدي إلى نماء الشخصية، وغرس القيم والفضيلة والعادات الحسنة، وهذا ما ينبغي أن تتضمنه المناهج والكتب الدراسية الأمر الذي وجب معالجته من زوايا اجتماعية واقتصادية والتزويد بالمعلومات التي تنمي المهارات وتوجه الميول وتنمي الإبداع. وبناء على ما ذكر كان لابد من خضوع محتوى المناهج للتغيير والتجديد والعصرنة، من أجل أن تكون ملائمة للتطورات الاجتماعية والاقتصادية، وبما يتصل بها من مؤسسات للتربية وبما ينبغي أن يكون عليه التجديد أو التغيير للمنهج، مادة ومستوى، ليكون أكثر قدرة على تلبية حاجات ومتطلبات وميول التلاميذ النامية، وإعدادهم إعداداً تربوياً وعلمياً وثقافياً.

فلابد والحالة هذه من القيام بتقييم للمناهج من خلال دراسة متعمقة للمضمون أو المحتوى ثم توضع مبادئ لمناهج أكثر تجديداً أو تطويراً متصلة بالعصر وبالحياة وبأحدث أنواع المعرفة ويضاف إلى هذا وذاك الاهتمام بالتعليم التقني والمهني، والتركيز على المواد العملية فيه، وما يتصل به من مهارات وبنشاطات واتجاهات تعليمية، مبنية على المفاهيم والنظريات بحيث يكون المنهج متكاملاً محتوى ومضموناً. وهكذا تكون بدايات وضع المناهج مبنية على المفاهيم والنظريات الحديثة والتعليمية ووفق إستراتيجية تدريسية تجعل العلم محوراً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

فمفهوم المنهج ليس مجموعة من المواد والمقررات الدراسية التي تقعد عقل التلميذ وبالذات ذاكرته، ولكن ما ينبغي أن تكون عليه المناهج بُعدها عن حشو أذهان التلاميذ بالمعلومات والمعارف النظرية الضعيفة وتضعف القدرة على التفكير والنشاط المبدع، فالمناهج العالية التحديث هي التي تزود التلميذ بالمهارات والاتجاهات والقيم للحياة الاجتماعية، والتكيف مع الحاضر ومشكلاته إلى صنع المستقبل وما يعنيه من بناء إنسان جديد، قادر على تطوير الحياة، والسير بنفسه ومجتمعه على طريق التقدم. وهذا يعني خضوع محتوى المناهج للتغيير والتعديل المستمرين لتكون أكثر ملاءمة للتطورات الاجتماعية والاقتصادية وما يتصل بهما من حاجات. ولهذا كان التنويع في محتوى المنهج ضرورة مؤكدة يستوعب مفرداته التلاميذ وأولياؤهم ما ينمي لدى الجميع الثقافة العلمية والتربوية، وفي الوقت نفسه تكون أكثر قدرة على تلبية حاجات وقابليات التلاميذ النامية وإعدادهم.

مشكلتنا أنه لا يوجد أي تعاون جدّي بين أدباء الأطفال من جهة، وواضعي المناهج التعليمية من جهة أخرى، مع العلم أنه يجب أن يتدخل في هذه المناهج، ليس المختص العلمي فقط، بل التربوي واللغوي والفني والأديب والرسام والعالم النفسي والخبير الاجتماعي.

كم من المواضيع التي تطرح في كتب أطفالنا… وهي أبعد ما تكون عن اهتماماتهم، وكم من القضايا التي تناقش على صفحاتها… وهي أعلى بكثير من مستوى تفكيرهم، وكم من الأساليب التي تُتَبع في طرح المعلومات… وهي أساليب مملّة منفّرة لا تجذب قارئها، وكم من المصطلحات والمفردات اللغوية التي نتعامل بها مع الطفل القارىء… وهي غريبة على مسامعه، ولا علاقة لها على الإطلاق بقاموسه اللغوي؟؟! وفي الوقت ذاته، كم من الأمور التي يجب أن تطرح ولا تُطرح، وكم من المفاهيم التي ينبغي أن تنقل ولا تُنقل، وكم من الجمل والعبارات التي يفترض أن يكون لها حضور، وهي غائبة غياب الطعام عن الجائع؟

ما يهمّ القائمون على مناهج أطفالنا… هو الكمّ لا الكيف، والتكثيف لا التخفيف، والتعقيد لا التبسيط، وإشغال أُسرَنا ليل نهار بتعليم أطفالها ومتابعتهم، لأن الأطر التدريسية التي تلم بهذه المعلومات المعقدة، لا تستطيع ـ مع الأسف الشديد ـ شرحها وتبسيطها، وبصراحة أكثر… هي غير موجودة في أحايين كثيرة، فالحِملُ الثقيل يقع على الأهل أولاً وأخيراً، والحمل نفسه ينقل إلى سماء كل بيت سحابة سوداء لا تنقشع من الهم والغم والقلق والتوتر والانفعال، والسادة المؤلفون يصمّون آذانهم، ويغمضون عيونهم، ويرفضون أن تُدلي أفواههم بأي تصريح أو تعليق أو تعقيب، مازالوا يعيشون في برجهم العالي، يهملون كل رأي، ويضربون عرض الحائط بكل وجهة نظر تخالف وجهات نظرهم.

وجملة القول يجب أن يكون مضمون أو محتوى المنهج الدراسي متكاملاً في اتباع الطرق والوسائل والأساليب التعليمية الحديثة التي تمكن التلاميذ من تثبيت قدراتهم على تعلمه. فالبحث والتجريب في التربية والمناهج من أبرز الاتجاهات أو مجاراة روح العصر، هذا كله يعد وسيلة ضرورية وأساسية يفتتح بها الطريق لتطوير المناهج. إن استقراء الواقع الحالي للتربية استقراء علمياً معناه البحث وترجمة رؤانا الاجتماعية الجديدة إلى شكل مضمون وهدف تعليمي، وهذا يعني الرؤية للتجارب التي تقوم بها البلدان المتقدمة في وضع المناهج، وهذا يدعونا للأخذ بالبحث العلمي حيث أضحى له خصائص وتقنيات تحقق الربط بين التربية والمجتمع اجتماعياً واقتصادياً.

مجتمعنا المغاربي إلى أي حد سلك بالفعل طريق البحث العلمي في وضع مناهج جديدة تتعلق بالمواد ومستواها، في مختلف المراحل التعليمية ما دامت المعارف والخبرات العالمية في تزايد، وما دامت هناك طرق وأساليب ووسائل تعليمية تمكن من ذلك، وهنا نتساءل إلى أي حد استوعبت الخطط التربوية بالفعل هذا المعنى..؟ الصحيح للمناهج ثم بعد وضعها لنتساءل مرة أخرى إلى أي حد نجحت هذه المناهج في توجيه التعليم ورفع مستواه وتطويره بالدقة والشمول..؟

إن مثل هذه التساؤلات ينبغي أن تضع المسؤولين عن التربية أمام مسؤولياتهم عن وضع مناهج تتماشى مع قدرات التلاميذ العقلية ومواهبهم وفي الوقت نفسه يتقبلها المجتمع ويتفهمها وتتماشى مع متطلباته وحاجاته وهذا ما يسمى التخطيط الكيفي للتعليم. وما يلاحظ ويؤخذ على الخطط التربوية جملة أنها لم تول المناهج وما يتصل بها من (كيف) التربية، اهتماماً كافياً، بل إنها تهمل أو أهملت هذا الكيف حيث إنه يقتصر على مجموعة حسابية وثيقة الصلة بالإحصاء كأعداد المدارس والصفوف والتلاميذ والمعلمين ومعالجتها إحصائياً ليتم رصد المال اللازم في الخطط الخمسية، وهذا ما هو متبع.

إن المعرفة العلمية للتخطيط تعد أداة مهمة من أدوات التكنولوجيا التربوية والاجتماعية التي يستند إليها في التجديد التربوي أو التغيير الاجتماعي. ولنتساءل من أين تبدأ نقطة الانطلاق في وضع الخطط التربوية ودراسة واقع التعليم بجوانبه الكمية والكيفية، بدلاً من أن تكون رؤية إحصائية حسابية، ولكن المطلوب رؤية تعليمية جديدة يتجسد فيها ابتداع بنى تعليمية وأساليب تعليمية جديدة، وبرؤية مباشرة للواقع ليتم التطوير أو التجديد يتطلع المجتمع إلى تجسده في حركته نحو المستقبل. فتجديد المناهج التعليمية أو تطويرها يتمّ في أغلبية الاستراتيجيات التدريسية وبخاصة الاستراتيجية التي تجعل المعلم محور العملية التعليمية، ووفقه يصبح في الإمكان وضع مناهج تلائم الظروف الاجتماعية والاقتصادية.

كاتب صحفي من المغرب.

 

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Exit mobile version