وكالات
شنت إسرائيل عملية عسكرية “محدودة” في جنين بالضفة الغربية، في الساعة الواحدة والربع صباح يوم 3 يوليو.
تحمل العملية العسكرية الإسرائيلية في جنين (التي لم يطلق عليها اسم حتى الآن) عدة دوافع تتراوح بين السياسية والأمنية، ومجموعة من المتغيرات الجديدة التي تطرأ على العمل العسكري الإسرائيلي في الضفة الغربية.
أولا: تفاصيل العملية والمتغيرات الجديدة
في 20 يونيو نفذت القوات الإسرائيلية مداهمة أمنية على محافظة جنين لاعتقال عدد من قادة المقاومة المحسوبين على فصائل غزة، انتهت المداهمة بالنجاح في القبض على المطلوبين ولكن بالفشل في الانسحاب أمام المقاومين الفلسطينيين. كانت النتيجة تعطيل عدد من الآليات العسكرية بواسطة عبوات ناسفة، وإصابة أربعة جنود إسرائيليين.
تباينت التقديرات الأمنية الإسرائيلية حينها بشأن الوضع الأمني العام في الضفة الغربية، إذ قدّر جهاز الأمن الداخلي (الشاباك) بضرورة شن عملية عسكرية موسعة تبدأ من شمال الضفة الغربية؛ بهدف تحييد تنظيمات المقاومة. ولكن مال الجيش الإسرائيلي للتقدير بضرورة إطلاق عملية عسكرية محدودة المجال والمدى في شمال الضفة الغربية فقط؛ بهدف الردع فقط ضد المقاومة؛ خشية أن يتسع نطاق احتمالات الفوضى من شمال الضفة إلى وسطها وجنوبها.
في 23 يونيو، أجرى نتانياهو نقاشا موسعا في مقر جهاز الشاباك، شمل قادة الجيش الإسرائيلي وبالتحديد التشكيلات الخاصة بالضفة الغربية، وقادة جهاز الشاباك؛ للتباحث حول التقدير النهائي للوضع الأمني العام في الضفة الغربية. خَلُصَ النقاش إلى تبني تقدير الجيش الإسرائيلي وهو شن عملية عسكرية محدودة فقط في جنين؛ بهدف ردع المقاومة وليس تحييدها.
قبل شن العملية كان هناك تنسيقا مسبقا بين إسرائيل والولايات المتحدة، إذ التقى وزير الدفاع الإسرائيلي “يؤاف جالانت” السفير الأمريكي في إسرائيل؛ لإطلاعه على العملية في جنين. أكدت إسرائيل أمام الولايات المتحدة بأنها مجرد عملية موضعية سيتم تنفيذها على مستوى لواء ولن ترق لمستوى العمليات العسكرية أمام غزة ولن تصل لمرحلة احتلال جنين. وهو ما يفسر عدم إطلاق اسم على العملية العسكرية الإسرائيلية حتى حينه.
في 3 يوليو، الساعة الواحدة والربع صباحا، هجم الجيش الإسرائيلي بمساعدة قوات من الشاباك وقوات من حرس الحدود على مخيم اللاجئين في جنين؛ كونه مقر مجمع الكتائب العسكرية الفلسطينية في الضفة الغربية. كما استُخدم المقر كنقطة مراقبة، ومكاناً لتجمع المسلحين قبل وبعد نشاط المقاومة، ونقطة تخزين الأسلحة والمتفجرات، ومركز اتصال للمقاومين. (حسب الرواية الإسرائيلية)
تم تنفيذ العملية بقوام لواء عسكري واحد، ومشاركة مئات الجنود الإسرائيليين من الوحدات الخاصة والنظامية ووحدة الهندسة القتالية وإسنادها بالطائرات التي تشارك للمرة الثانية بعد عملية المداهمة الأخيرة المذكورة سلفا، منذ عقدين ماضيين، والمسيرات الحربية.
استمرارا للنشاط العسكري الإسرائيلي المشترك في جنين، هاجمت طائرات الجيش الإسرائيلي أهدافا للبنية التحتية الإرهابية أكثر من عشرة مرات، ومسلحين في مخيم جنين للاجئين، كما دمرت القوات مختبرا لإنتاج وتخزين المتفجرات، ومصادرة قاذفة صواريخ بدائية الصنع وأسلحة أخرى، ولا يزال تبادل إطلاق النار مع المسلحين في مكان الحادث. بالإضافة إلى رصد طائرات من نوع اوربيتر انتحارية فوق جنين.
لم تواجه القوات الإسرائيلية في بداية العملية المحدودة أي مقاومة أو تبادل إطلاق نار مكثف ولكن بعد عدة ساعات من بدء العملية بدأت اشتباكات عنيفة بين جنود من وحدة “إيجوز” ومجموعة من المسلحين الفلسطينيين في جنين.
ثانيا: الدوافع الإسرائيلية لشن العملية
تحرك الحكومة الإسرائيلية مجموعة من الدوافع السياسية، يمكن توضيحها فيما يلي:
(1) تسكين أزمة داخل الحكومة: إذ يواجه نتانياهو ضغطا مستمرا من الأحزاب القومية المتشددة لشن عمليات عسكرية عنيفة ضد الفلسطينيين وبالتحديد المقاومين المسلحين في شمال الضفة. كما لا يرغب نتانياهو في منح فرصة مثالية لوزير الامن العام المتطرف “بن جفير” لتبرير فكرة دعم مشروع الحرس الوطني الذي يعد بديلا عن القوات الإسرائيلية في الضفة.
(2) تمهيد الأرض لتطبيق خطط استيطانية جديدة: شرعت الحكومة الإسرائيلية منذ أشهر إلى الإعلان عن قرار إلغاء قرار فك الارتباط أحادي الجانب في شمال الضفة الغربية فقط، التي تشمل جنين ونابلس؛ تمهيدا لإعادة احتلالها مرة أخرى. كما أعلنت الحكومة الإسرائيلية منذ أسبوع 27 يونيو عن خطة توطين نصف مليون مستوطن في الضفة الغربية والتلميح بصياغة خطط بناء وحدات استيطانية جديدة. قبلها، كان الجيش الإسرائيلي ينفذ خطة إنشاء طرق التفافية استيطانية حول جنين ونابلس شمالي الضفة الغربية؛ بهدف تأمين حركة المستوطنين، وخطط إنشاء وحدات استيطانية جديدة، وتأمين خطط اقتحام جنين ونابلس.
(3) الاستعداد الإسرائيلي لمرحلة ما بعد محمود عباس: أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبل يومين، في لقاء مع لجنة الشؤون الخارجية في الكنيست، أن هذا الکيان يستعد لمرحلة ما بعد رحيل محمود عباس.
(4) تكريس الانقسام بين الضفة وقطاع غزة: تعمدت إسرائيل اختبار التنسيق الأمني للسلطة الفلسطينية مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وهو ما دفع الشاباك لتبني تقدير أكثر تشاؤما حيال الوضع الأمني في شمال الضفة الغربية. كما تشير التقارير الإسرائيلية إلى نجاح استمرار التنسيق الأمني بين الطرفين، وحتى في حال كذب هذه التقارير فإن مجرد الإشارة تعكس حرص إسرائيل على تكريس الانقسام.
ثالثا: لماذا “جنين”؟
تعد شمال الضفة الغربية مركزا مهما لنشاط المقاومة الفلسطينية وبالتحديد الشكل المسلح شبه العسكري (وبالتحديد بلدة جنين)، إذ ظهرت بها كافة التنظيمات المسلحة الجديدة مثل وكر الصقور وعرين الأسود، بجانب كتيبة جنين التابعة لحركة الجهاد الإسلامي، وبعض الكتائب التابعة لحركة حماس، بجانب الكتائب التابعة لحركة فتح “كتائب القدس”.
وهو ما دفع الحكومة الإسرائيلية لصياغة حسابات أمنية في جنين كان أهمها: (1) ردع المقاومة الفلسطينية في شمال الضفة الغربية: أصبحت منطقة مدينة جنين في حسابات الحكومة الإسرائيلية مركزا لتصدير المقاومة الفلسطينية المحسوبة على الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة (مثل حماس والجهاد الإسلامي) في أنحاء الضفة الغربية المتفرقة وبالتحديد في شمال ووسط الضفة الغربية.
قامت الكتائب الفلسطينية المسلحة “كتيبة جنين” وتنظيمات مسلحة شبه عسكرية مثل عرين الأسود في تعطيل عشرة آليات مدرعة إسرائيلية قبل أسبوعين من بدء العملية الجارية، ونجاحها في إسقاط عدد من المسيرات التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي للحصول على معلومات.
(2) استدراك فشل عملية “كاسر الأمواج”: نفّذ الجيش الإسرائيلي على مدار أكثر من عام بدءً من مارس 2022 عملية كاسر الأمواج لتحييد المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، ورغم تنفيذ العشرات من الاغتيالات واعتقال المئات من المقاومين إلا أن جنين ونابلس استمرتا نقطتان أساسيتين في تصدير المقاومة وتنفيذ الهجمات على القوات والمستوطنين الإسرائيليين.
شهد العامان الماضيان أكثر من 50 هجوماً بالرصاص، وفر 19 مقاوما إلى المكان منذ عام 2022 حتى تصبح جنين مدينة ملجأ لهم.
رابعا: السيناريوهات المحتملة
هل يمكن أن تتطور العملية العسكرية “المحدودة” إلى عملية واسعة النطاق؟، يمكن تصور مجموعة من السيناريوهات كالتالي:
(1) بقاء العملية في شكلها المحدود: ويستلزم ذلك من إسرائيل تنفيذ المهمات الأساسية من العملية والانسحاب الفوري من جنين. مع عدم القيام بأية أعمال استفزازية مثل اقتحام المساجد وتدميرها بداع أنها تضم مخازن السلاح والذخيرة.
يدعم هذا السيناريو أن إسرائيل نسقت مع الولايات المتحدة ووعدتها بأن تبقى العملية العسكرية في حدودها البسيطة دون أن تتسع لتشمل مناطق أخرى أو تهدف إلى احتلال جنين. كما يدعم هذا السيناريو أن الجيش الإسرائيلي يرغب في تطبيق مفهوم “الردع” وليس “التحييد” بحق التنظيمات المسلحة في جنين.
يبدو أن إسرائيل تستهدف كتيبة جنين المحسوبة على الجهاد الإسلامي؛ بهدف تحييد الوكيل الأقرب إلى إيران، وشق الصف بين الجهاد الإسلامي وحماس عبر اختبار حماس مرة أخرى في احتمال الانضمام للتصعيد من عدمه.
لا يعيق تحقيق هذا السيناريو سوى الأزمة السياسية الداخلية في حكومة نتانياهو، ومن المحتمل أن يعالجها الأخير عبر إرضاء الحريديم بعدم الموافقة على مشروع التجنيد الإلزامي، وإرضاء القوميين المتشددين بمزيد من المستوطنات.
(2) تصعيد غير محسوب: ويعني هذا السيناريو أن تنضم حماس إلى التصعيد إما عن طريق تفعيل خلاياها المسلحة في جنين أو مناطق أخرى من الضفة الغربية، أو استنفار فلسطينيين مدنيين ضد قوات الجيش الإسرائيلي، فتندفع إسرائيل لشن هجمات عليهم، أو التصعيد من قطاع غزة نفسها.
يعيد هذا السيناريو ترسيخ مشروع توحيد الساحات والجبهات ضد إسرائيل، في حال انضمام فصائل غزة إلى تصعيد يشمل إطلاق الصواريخ على إسرائيل.
لا ترغب إسرائيل في الوصول إلى هذا السيناريو على غرار عملية الدرع والسهم؛ منعا من: تدهور المكانة عالميا وبالتحديد مع الولايات المتحدة، وإقليميا وبالتحديد مع دول التطبيع الابراهيمي مثل المغرب التي تستضيف النسخة القادمة من اجتماعات منتدى النقب.
ختاما، يمكن الإشارة إلى احتمال مهم وهو أن النشاط العسكري الإسرائيلي في شمال الضفة لن يتوقف على العملية العسكرية المحدودة مؤخرا، وأنها قد تستمر عبر شن عملية عسكرية أخرى لسبب أساسي وهو المفاضلة الإسرائيلية غير المستقرة بين مفهومي “الردع” و”الحسم أو التحييد”.