وكالات:
في ربيع 2022 كانت الولايات المتحدة مشغولة بفرض عقوباتها على روسيا بعد غزو أوكرانيا، عندما عاد الحديث عن أثر هذه العقوبات على مكانة الدولار، وإمكانية تراجعه عن عرشه التاريخي فوق كل العملات.
وفي الأسابيع الأولى من 2023 كان الدولار الأمريكي يحصي خسائر غير متوقعة في عامه السابق: فقد سيد العملات 8% من حصته في الاحتياطيات العالمية، لتصبح 58% بعد أن كانت تمثل 73% في عام 2001.
وفي تلك الفترة، نمت حصة اليوان الصيني بنحو 2.5%.
هل هناك من يخشى المزيد من تدهور الأخضر؟
وهل هناك من يحتفل بهذا التراجع؟
لما يقرب من ثلاثة أرباع القرن، سيطر الدولار على التجارة والتمويل والمحافظ الاحتياطية للبنوك المركزية في أنحاء كوكب الأرض.
ومع ذلك، فإن التضخم المرتفع، والجغرافيا السياسية المتشعبة لصراعات واشنطن، والعقوبات التي فرضتها أمريكا وحلفاؤها على دول مثل روسيا، تسببت مؤخراً في زيادة أصوات المتشككين في الدولار مرة أخرى، كما كتبت مجلة The Economist البريطانية.
في أماكن مختلفة من العالم تتصاعد الدعوات للتخلي عن الدولار، كعملة للتبادل التجاري بين الدول، وتتطلع فيه 30 دولة للانضمام إلى تحالف البريكس الذي أسسه خصوم الدولار وضحاياه.
هل تكون عملة البريكس المقترحة بداية نهاية الدولار، خاصة مع نية عدد كبير من الدول الانضمام لتجمع البريكس؟
“القرن الذي شهد سيطرة الولايات المتحدة، بدأ في الانتهاء من منطقة الشرق الأوسط”، هكذا كتبت مجلة Newsweek الأمريكية في تقريرها الذي رصعته بنبوءة للرئيس المشارك في مجموعة الأزمات الدولية، فرانك غوسترا بأن إلغاء اعتماد دول العالم على الدولار الأمريكي قد أصبح حتمية لا مفر منها.
هل هذه السطوة الدولارية على العالم مهددة بالانهيار، وهل بقاؤها رهن بالأداء السياسي والعسكري الأمريكي، وما هي أسباب خصوم الدولار للتخلص من نفوذه، وما أهم الخطط التي بدأتها عشرات الدول للعثور على بديل للأخضر المستبد؟
في هذا التقرير محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة.
اقتصاد ضخم في حماية المارينز وحاملات الطائرات وقانون يحمي الملكيات الخاصة
كان عام 1970 بداية التحول نحو مفهوم البترودولار، إذ اتفقت منظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك” مع الولايات المتحدة على استعمال الدولار كعملة وحيدة في تسعير وبيع نفطها.
في عام 1973، عاد الأمريكيون ليثبتوا تسعير النفط بالدولار عبر اتفاقات مباشرة مع السعودية في عام 1974، قادها وزير الخارجية الأمريكي كيسنجر، وتوصل الطرفان إلى اتفاق من بندين:
- على السعودية ضمان استمرارية تسعير النفط بالدولار، وإعادة تدوير فوائض البترودولار السعودية في السوق المالية الأمريكية.
- وعلى أمريكا تأمين الحماية العسكرية والدعم التقني للسعودية تحديداً ودول أوبك عموماً!
هناك 3 أسباب حاسمة في تفوق الدولار
يوجد نحو 185 عملة حول العالم، يبدو الدولار الأمريكي أقواها، إذ إنه حتى الآن تجرى 80% من عمليات التجارة العالمية عبر الدولار، ويتم تقديم نحو 39% من قروض العالم به، كما يتم استخدام 65% من المعروض بالدولار خارج الولايات المتحدة، ولهذا السبب فإن معظم الدول تقبل الدفع بالدولار فقط، ما يؤدي إلى تعميق مشاركة الدولار في التجارة العالمية.
هناك ثلاثة أسباب رئيسية صنعت قوة الدولار، وضمنت له القمة عبر السنوات:
القوة الاقتصادية
العملة الأمريكية، الدولار، هي العملة المعتمدة في معظم الحركات التجارية العالمية منذ الحرب العالمية الثانية، وهو يمثل الرمز الأبرز للهيمنة الأمريكية، ويعطي الاقتصاد الأمريكي ميزة هائلة؛ لأنه يطبع الأوراق النقدية المستخدمة في التجارة الدولية، ما يعطي واشنطن ورقة ضغط لا تتوفر لأي دولة أخرى.
ولأن الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك الاقتصاد الأكبر، والدولار هو أكثر العملات تداولاً حول العالم، لا يقتصر تأثير رفع سعر الفائدة الأمريكي على الاقتصاد المحلي والمواطنين الأمريكيين فحسب، بل يمتد تأثيره إلى جميع دول العالم، وبالتالي على حركة الاقتصاد العالمي ككل.
القوة العسكرية
القوة العسكرية التي تقف وراء هذه القوة الاقتصادية من مشارق الشمس إلى مغاربها. عند تعاظم القوة الاقتصادية يجد الفائض المالي طريقه إلى الخارج للاستثمار أول الأمر، ثم تحتاج تلك القوة الاقتصادية إلى قوة عسكرية لحماية وجودها الاقتصادي في الخارج. إذا اقتضى الأمر تتحرك هذه القوات لحفظ النظام في المناطق الجامحة، ولكنها لا تفعل ذلك من أجل منفعة بلدان أخرى، بل من أجل نفسها.
الحماية القانونية للاستثمارات
تعد سيادة القانون في الداخل الأمريكي أهم مرتكز يستمد منه الدولار الأمريكي قوته. سيادة القانون تضمن للمواطن الأمريكي وللمؤسسات كافة الحقوق والحفاظ على الملكيات الخاصة، والأمر ينسحب كذلك على الأجنبي المقيم على الأراضي الأمريكية.
العقوبات ضد روسيا أشعلت التمرد الدولي على الدولار وضحايا “الدولرة” يجهزون البديل
فكرة فقدان الدولار لهيمنته لم تخطر ببال غالبية دول العالم المتقدم، حتى قررت الولايات المتحدة والحلفاء تجميد احتياطيات العملة الرسية، وفصلها عن نظام سويفت الذي ينظم الاتصالات المالية العالمية بين البنوك.
القرار كان رد الغرب على مغامرة بوتين في أوكرانيا، ويرى المحلل فرانك غوسترا الرئيس المشارك في مجموعة الأزمات الدولية أن هذه الخطوة زادت من مقاومة الدولار الأمريكي، مع إبرام العديد من الدول لاتفاقيات تجارية غير دولارية، وعودة خطط مجموعة بريكس لإصدار عملتها الخاصة. وقال: “يعتمد بناء الأنظمة المالية على الثقة. وإذا تم تسليح أو تسييس تلك الأنظمة المالية، فسوف تفقد الثقة اللازمة للحفاظ على هيمنتها”.
بعد العقوبات الأمريكية ضد روسيا “شهد الدولار انهياراً مدهشاً خلال عام 2022 لنصيبه في السوق كعملة احتياط، على الأرجح بسبب استخدامه كسلاح عقوبات، فقد أدت الإجراءات الاستثنائية التي اتخذتها الولايات المتحدة وحلفاؤها ضد روسيا إلى ذعر الدول التي تحتفظ باحتياطيات كبيرة من العملات الأجنبية” كما يضيف غوسترا.
بعدها بدأت البنوك المركزية في تقليل احتياطياتها من الدولار، والاتجاه إلى تكديس المزيد من الذهب، بعد أن رأت في العقوبات الروسية عبرة لمن يعتبر.
العقوبات من هذا النوع تساهم في انقسامات النظام الاقتصادي والمالي العالمي، وهي العملية التي وصفتها شركة Enodo Economics قبل بضع سنوات بـ”الانفصال الكبير”، أي سعي كل دولة للعمل من أجل مصالحها دون التزام بالنظام العالمي، إلا في حالات الضرورة.
حتى الحلفاء القدامى لأمريكا، مثل فرنسا، أجروا معاملات بغير الدولار منذ أن شددت الولايات المتحدة عقوباتها. في أبريل/نيسان 2023، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن على أوروبا أن تقلل اعتمادها على الدولار الأمريكي من أجل الحفاظ على “استقلاليتها الاستراتيجية” وتجنب أن تصبح “تابعة” لأمريكا.
ثورة مجموعة بريكس على الدولار تنتهي بعملة بديلة
في قمة البريكس الرابعة عشرة العام الماضي، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن تدابير لإنشاء “معيار عملة دولي” جديد.
في غضون ذلك، تحث الصين منتجي النفط والمصدرين الرئيسيين على قبول مدفوعات اليوان، وقالت المملكة العربية السعودية، أكبر مصدر للنفط في العالم، إنها “منفتحة” على فكرة تداول عملات أخرى.
بريكس عبارة عن مجموعة من الاقتصادات الناشئة، تمتد عبر قارات مختلفة من العالم، تضم الصين وروسيا والبرازيل والهند وجنوب إفريقيا، تأسست في عام 2001، بهدف تعزيز التعاون الاقتصادي والتجارة بين الدول الأعضاء وكذلك التعاون السياسي، والدول الأعضاء بالتجمع تمثل 41% من سكان العالم ولديها إجمالي ناتج محلي إجمالي يزيد عن 24.4 تريليون دولار أمريكي، بنسبة 25% من الناتج المحلي الإجمالي.
“بريكس” هي اختصار للحروف الأولى باللغة الإنجليزية للدول المكونة للمنظمة، وهي: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، ويمثل التجمع نحو 30% من حجم الاقتصاد العالمي، و26% من مساحة العالم، و43% من سكان العالم، وتنتج أكثر من ثلث إنتاج الحبوب في العالم.
تلقى تحالف البريكس رسمياً طلبات من 25 دولة للانضمام إلى الكتلة، من بينها السعودية والإمارات ومصر والجزائر والبحرين وإيران وتركيا.
تعني جهود البريكس لإيجاد بديل للدولار مع احتمال توسع التجمع أن هذا قد يؤدي لمشاركة 30 دولة في عملية إخراج الدولار الأمريكي من وضع العملة الاحتياطية العالمية.
عملة البريكس المقترحة ستكون بمثابة عملة صادرة عن اتحاد جديد من الساخطين الصاعدين الذي يفوق مجموع نواتجهم المحلية، ليس فقط الولايات المتحدة، ولكن مجموعة الدولة السبع الصناعية G-7 بأكملها، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy.
في ربيع 2023 قال نائب رئيس مجلس الدوما الروسي في نيودلهي إن “روسيا تقود الآن تطوير عملة جديدة، سيتم استخدامها للتجارة عبر الحدود من قبل دول البريكس”.
كانت روسيا أول دولة تصدّق على اتفاقية لإنشاء “تجمع احتياطي” من العملات الأجنبية بقيمة 100 مليون دولار، هذا التجمع، المعروف باسم ترتيب الاحتياطيات الطارئة، هو في الأساس مخزن للعملات الأجنبية يمكن لأي دولة من دول البريكس الانغماس فيها إذا احتاجت إلى ذلك.
امتلاك احتياطي من العملات الأجنبية قد يساعد في استقرار اقتصاد دول البريكس، وهذا بدوره يشجع التجارة والسياحة، وغالباً ما يعني بطالة أقل، حيث يأتي الاستقرار عادةً مع أسعار صرف ثابتة.
وتحاول الصين وروسيا إقناع العديد من الدول بتسوية التجارة مع اليوان الصيني وليس الدولار الأمريكي. تواصلت روسيا مؤخراً مع المملكة العربية السعودية وحثت الدولة الغنية بالنفط على قبول عملة البريكس بعد إطلاقها.
الصين تحاصر نفوذ الدولار في العالم.. لكن بحذر
تتزعم الصين مجموعة بريكس المتمردة على هيمنة الدولار، ويبدو أن العقوبات الغربية ضد روسيا تزيد من وتيرة الانفصال الاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين، خاصةً في حال استغلت بكين الفرصة لتعزيز الجاذبية العالمية لعملتها وهيكلتها المالية.
لكن الصين تشارك بحذر في جهود إزاحة الدولار عن عرشه، إذ يجب أن تضمن عدم تعريض مصارفها للعقوبات الغربية في حال زادت خطوط الائتمان التي قد تمنحها لروسيا.
وبالنظر إلى أن نحو 75% من فواتير البضائع الصينية المتداولة تُدفع بالدولار؛ فإن حظر الصين من نظام مقاصة الدولار والسويفت ستكون له تداعياتٌ لا تُحتمل على المصارف الصينية والاقتصاد العالمي معاً.
واستعرض تقرير لموقع Business Insider الأمريكي ما وصفه بعدم رغبة الصين في إلغاء دولرة الاقتصاد العالمي وعدم جعل اليوان بديل الدولار في الوقت الحالي على الأقل لسببين:
بكين لن تخفف القيود على دخول وخروج الأموال
تبدو الصين حريصةً على زعزعة الهيمنة الأمريكية العالمية، لكنها تود فعل ذلك بشروطها. وعلى مدار العقد الماضي واصلت الترويج لاستخدام اليوان بدرجة أكبر دون الإخلال بالأمن المالي، ومن المستبعد أن تحاول الصين تغيير ذلك الإيقاع الآن.
باختصار، بكين لن تتمكن من تحرير حسابها الجاري بالكامل مطلقاً، لكنها ستظل قادرةً على الاستمرار في تدويل اليوان.
ويصعب عليها تحمل تكلفة العجز المالي
تأتي مكانة وهيبة الدولار الأمريكي كعملة احتياطية مقابل ثمن يجب دفعه، ويتمثل في عجز الحساب الجاري الأمريكي بصورة أبدية.
السبب هو أن الطلب العالمي على الدولار الأمريكي أكبر من الطلب الأمريكي على الواردات المدفوعة أيضاً بالدولار.
ولهذا تضطر الولايات المتحدة إلى التعامل مع معدلات عجز متزايدة دائماً من أجل الحفاظ على مكانة عملتها الاحتياطية.
ولا تريد الصين أن يسود اليوان فتضطر إلى دفع مثل تلك الفاتورة.
روسيا كانت تخطط لإسقاط الدولار قبل الحرب
قبل حرب أوكرانيا بعام، أي في ربيع عام 2021، أعلن وزير المالية الروسي أنطون سيلوانوف أمام منتدى بطرسبرغ الاقتصادي أن بلاده ستتخلى نهائياً عن الدولار الأمريكي، وقدم صورة تفصيلية للمشروع الروسي:
لدينا اليوم نحو 35% من استثمارات صندوق الثروة السيادية بالدولار و35% باليورو من حيث الهيكل، وسوف تصبح الهيكلة الجديدة على النحو التالي:
الدولار صفر.
اليورو 40%.
اليوان الصيني 30%.
الذهب 20%.
الجنيه الإسترليني والين 5% لكل منهما.
بعد اندلاع الحرب أصبحت روسيا أقرب لتنفيذ مخططها لإسقاط الدولار، فقد شنت واشنطن حرب العقوبات الاقتصادية على موسكو، فتم حظر بعض البنوك الروسية من جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك (SWIFT)، التي يهيمن عليها الدولار، والتي تتيح للبنوك في جميع أنحاء العالم التواصل بشأن المعاملات عبر الحدود.
وتم تجميد ما لا يقل عن نصف احتياطيات روسيا من العملات الأجنبية البالغة 640 مليار دولار بسبب القيود التجارية.
كل هذا أجبر روسيا على البحث عن عملات بديلة لاستخدامها في المعاملات الدولية.
ورغم تضرر اقتصاد الحرب الروسي من جراء العقوبات، فهو لم يُصَب بالشلل، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن 16% من صادراتها تُدفع الآن باليوان، مقابل لا شيء تقريباً قبل غزو أوكرانيا.
السعودية في معضلة تسعير النفط بالدولار
اقتربت السعودية من مجموعة بريكس عبر طلب رسمي للانضمام، وعقدت الكثير من اتفاقيات التبادل مع الصين وغيرها بعملات غير الدولار، لكن هناك الكثير من الشكوك حول إمكانية أن تمضي قدماً في وقف تسعير النفط بالدولار، لأنها ستكون القاضية.
يرى البعض أن اتخاذ المملكة لبعض الإجراءات نحو فك الارتباط بالدولار لا يتعدى كونه محاولة استفزازية من قبل المملكة تجاه الولايات المتحدة في إطار المناورات السياسية. والمثال على ذلك رفض السعودية لطلب أمريكي متكرر بزيادة الإنتاج النفطي بهدف خفض الأسعار التي أصبحت تنهك سائقي السيارات في شوارع واشنطن.
بينما يرى البعض أن السعودية تمضي صوب بداية لخلق نظام مالي موازٍ للنظام المالي العالمي الذي يقوده الدولار، والسعودية تريد أن تكون في المقدمة.
لكن يبقى تسعير النفط بغير الدولار خطوة قد تضع المملكة السعودية في مأزق كبير، نظراً لأن ذلك يعني تغيراً كبيراً في النظام المالي الذي وضعته أمريكا منذ سبعينيات القرن الماضي لتجعل عملتها هي العملة الوسيطة بين مختلف الدول.
على سبيل المثال تشتري الصين أكثر من 25% من النفط الذي تصدره السعودية، وإذا تم تسعيرها باليوان، فإن هذه المبيعات ستعزز مكانة العملة الصينية، ما يعني أن الدولار سيتأثر سلباً، وبالتالي سيتأثر الريال السعودي بالسلب نظراً لارتباطه بالدولار.
هناك محادثات جارية مع المملكة العربية السعودية بشأن تمويل بنك بريكس، المعروف باسم بنك التنمية الجديد NDB في حال انضمامها للبريكس.
تم إنشاء البنك في عام 2014 ليكون بمثابة ثقل موازن لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وقالت صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية إن انضمام السعودية إلى هذا البنك هو خطوة من شأنها أن تمنح البنك المزيد من القوة المالية.
وآسيا تتوحد ضد الدولار بتأسيس صندوق نقد جديد
معظم الدول الآسيوية تخشى نفوذ الدولار، ومع ارتفاع سعره تعاني هذه الدول من شراء السلع المستوردة بأسعار أكثر كلفة من العملة المحلية، ما يسبب ما يعرف بالتضخم المستورد.
وفي ربيع 2023 في زيارته الأولى إلى الصين اقترح رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم إعادة إحياء فكرة صندوق للنقد الآسيوي على غرار صندوق النقد الدولي، ليفك الارتباط القوي لدول آسيا بالدولار الأمريكي ويعزز من اقتصاد القارة.
الاقتراح ليس جديداً، فقد نادت اليابان للمرة الأولى بإنشائه في أعقاب الأزمة المالية الآسيوية في التسعينيات.
إنشاء صندوق النقد الآسيوي يواجه عدة عقبات، أهمها التنافس بين الصين واليابان على زعامة الإقليم الذي يزداد تعقيداً مع السياسات اليابانية الجديدة.
يُستخدم الدولار الآن في 84.3% من التجارة عبر الحدود، مقارنة بـ4.5% فقط لليوان الصيني، بينما يهيمن الدولار على نحو 100% من تداول النفط.
وشكل الدولار الأمريكي 58.36% من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية في الربع الرابع من 2022.
اليورو في المرتبة الثانية بحوالي 20.5% من الاحتياطيات.
اليوان الصيني الذي يعتقد البعض أنه أكبر تهديد للدولار يشكل 2.7% فقط من الاحتياطيات في الفترة نفسها، وما يقرب من ثلث ذلك تحتفظ به روسيا.
هذه العملات تنافس الدولار على مكانته
شرط نجاح المنافسة هو ضعف قيمة الدولار والعثور على بديل “آمن”
هناك نحو 180 عملة وطنية في العالم، قليل منها موجود على نطاق واسع في المعاملات الدولية كسداد فاتورة الواردات، أو إصدار سندات الدين، أو الاستثمار في الخارج، وهذه العملات هي الدولار الأمريكي، واليورو، وبدرجة أقل الين الياباني والجنيه الإسترليني، وعدد قليل من العملات الأخرى.
يجب أن يتوافر شرطان قبل أن ينهار الدولار:
يجب أن يكون هناك ضعف أساسي في قيمة الدولار الأمريكي.
ويجب أن يكون هناك بديل قابل للتطبيق.
بعبارة أخرى، يجب أن يكون هناك سبب لفرار الناس من الدولار، ويجب أن يكون هناك مكان يذهبون إليه.
اليورو ليس مرشحاً على المدى القريب
نهاية 2021 توقع تقرير لمجلس محافظي البنك المركزي الأمريكي أن العملة الأوروبية الموحدة “اليورو” هي التي يمكن أن تمثل تهديداً لسيادة الدولار في العالم.
السبب هو ضخامة حجم اقتصاد أوروبا ككتلة وتشابك علاقاتها التجارية الدولية، لكن ذلك يبقى مرهوناً بمزيد من التكامل بين دول الاتحاد الأوروبي، و”هو ما لا يمثل خطراً عاجلاً على وضع الدولار عالمياً في المدى القريب”، بحسب التقرير.
اليوان في قبضة النظام السياسي والازدهار الصناعي
التحدي الثاني الذي يذكره التقرير هو اليوان الصيني، حيث ينمو الاقتصاد الصيني بسرعة، ويتوقع أن يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي للصين نظيره الأمريكي بحلول 2030.
الصين هي أكبر دولة مصدرة في العالم، لكن التقرير يعدد بعض الأسباب التي قد لا تجعل اليوان يهدد سيطرة الدولار عالمياً، ومنها بالأساس أن العملة الصينية لا تتمتع بحرية سعر الصرف مثل الدولار أو اليورو.
يضاف إلى ذلك أن الصين تحتفظ بميزان تجاري إيجابي، ففي عام 2014 كان ذلك الفائض يساوي 384 مليار دولار، وبحلول عام 2021 وصل لمستوى 676 مليار دولار، وهو الأمر الذي يمثل إحدى العقبات أمام تداول اليوان.
وذلك نظراً لأنه لا يمكن أن تتدفق كمية كبيرة من اليوان إلا بميزان تجاري سلبي مع الخارج، حيث يرى كثير من الاقتصاديين أن ثمن كون الدولار عملة دولية كان تقلص التصنيع بأمريكا.
سلة العملات ليست خياراً جاداً
الحديث عن سلة عملات تحل محل الدولار في التعاملات الدولية أمر يتطلب درجة عالية من التنسيق السياسي غير موجودة قبل المالي.
وعلى الرغم من أن هذا التنسيق قد يظهر في حالة فقدان عدد كافٍ من الحكومات الثقة في الولايات المتحدة، إلا أنه لا يوجد بنك مركزي عالمي مستقل، لذا فإن العملة الدولية ليست خياراً جاداً.
العملات الرقمية تبحث عن الاستقرار أولاً
رغم التقلبات التي تعانيها العملات المشفرة وعلى رأسها البيتكوين، إلا أن كثيرين أصبحوا يعتقدون أن تلك العملات أصبحت المستقبل، وأن تقنية البلوكتشين ستكون بمثابة بداية للتخلي عن الدولار وهيمنة الاقتصاد الأمريكي.
العملات الرقمية الوطنية التي تعد أسرع وأرخص من النقود التقليدية تنمو الآن على نحو قد يهدد بتقويض وضع الدولار باعتباره العملة المعتمدة في احتياطات البنوك المركزية، بشرط استقرار أسواق العملات المشفرة، الأمر الذي لم يتحقق حتى الآن.
وضع الخبراء عدة سيناريوهات للمستقبل القريب والبعيد لسطوة الدولار على النحو التالي:
1 – يبقى الدولار على عرشه
الدولار يستند إلى اقتصاد قوي، والبنوك المركزية في العالم تعتمد عليه كوحدة التخزين الرئيسية للاحتياطي، والهجوم على الدولار نوع من التدمير الذاتي.
2 – عملة وطنية أخرى تزيح “الأخضر”
اليوان الصيني هو المرشح الأول، ولكن لا يزال الوقت مبكراً لتحديد مدى صلاحية اليوان للمركز الأول.
3 – أكثر من عملة في المركز الأول
هذا الوضع يعني أن يتنافس نظامان ماليان، وأن يتكاملا، كما حدث في العصور الوسطى؛ حين لعب الدينار الإسلامي والصوليدوس البيزنطي Solidus الدور المتبادل كعملتي الاحتياطي.
4 – معيار ذهب جديد
الآن يعود النقاش حول استعادة معيار الذهب لتغطية العملات.
ويذهب هذا الرأي إلى أنه مع عودة الذهب ليقود الأسواق المالية العالمية، سيعم الاستقرار القيمي والتوازن الاقتصادي.
5 – عملات افتراضية مشفرة
شهدت السنوات الأخيرة ظهور عملات افتراضية مثل البيتكوين، لكن لم تعترف بها دولة ولم يعتمدها أي بنك مركزي. وأعلنت الصين عزمها تدشين اليوان الافتراضي المدعوم بمعيار الذهب، وقتها قد يجد الدولار منافساً قوياً قادماً من خارج اللعبة.
6 – تداعي النظام المالي
السيناريو الأكثر تشاؤماً؛ حيث يؤدي الانهيار المالي إلى فوضى ناتجة عن تدمير موسع للثروة.
إذاً.. الأخضر في المقدمة حتى إشعار آخر
وفي تحليل آخر يقول محللو مؤسسة جي بي مورغان الاستراتيجيون إن هيمنة الدولار لن تختفي في أي وقت قريب، بغض النظر عن نمو الصين.
من جانبها، قالت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين إن على الأمريكيين أن يتوقعوا انخفاضاً في مكانة الدولار الأمريكي باعتباره العملة الاحتياطية العالمية، رغم أنه لا توجد عملة حالياً يمكن أن تحل محل الدولار، على حد تعبيرها.
لذا تبدو وزيرة الخزانة الأمريكية مصممة على أن الدولار سيظل مهيمناً، لأن “الدور الذي يلعبه في النظام المالي العالمي لأسباب وجيهة للغاية لا تستطيع أي دولة أخرى تكراره، بما في ذلك الصين. لدينا أسواق مالية مفتوحة ذات سيولة عميقة، وسيادة قوية للقانون، وغياب ضوابط رأس المال التي لا يمكن لأي بلد تكرارها”.
لكنه سوف يتراجع ذات يوم.. ربما بعد 15 عاماً
الاقتصادي الأمريكي اللامع، أستاذ علوم الاقتصاد بكلية “شتيرن” في نيويورك، نورييل روبيني، يؤكد على أن الأسباب التي أدت إلى ضعف الدولار قصيرة الأمد، لكن على المدى البعيد يبدو الوضع أشد تعقيداً.
“الدولار لا يزال في وضع الأمن وربما السيطرة، لكن ضمن دائرة التغيرات الدولية التي يتسم بها الاقتصاد والسياسة للمنظومة الإمبراطورية، سيأتي عليه وقت ليتراجع، بخاصة مع مواجهته تحديات كبيرة في السنوات والعقود المقبلة، فمع نمو الاقتصادات الأخرى وانفتاحها أكثر قد تكون مستعدة وقادرة على القيام بدور العملة الاحتياطية”.
وفي مطلع 2022 حذر الملياردير الأمريكي ستانلي دراكينميلر من أن الدولار قد لا يصبح عملة الاحتياط العالمية الرئيسة في غضون 15 عاماً. وأضاف: “لا أرى أي فترة في التاريخ كانت فيها السياسات المالية والنقدية منفصلة تماماً عن الظروف الاقتصادية مثل هذه”.
التضخم المرتفع، وألاعيب الجغرافيا السياسية المتشعبة، والعقوبات التي فرضتها أمريكا وحلفاؤها على دول مثل روسيا، تسببت مؤخراً في زيادة أصوات المتشككين في الدولار مرة أخرى، وطرحت المزيد من الأسئلة عن المستقبل:
هل يمكن للدولار أن يبقى قوياً؟
تعرض الدولار لأكثر من حملة دولية تطالب بإسقاطه عن عرشه، لكن هذه المرة تبدو الحملة مرشحة لتغيير الموقف الدولي تجاه الدولار. ورغم اعتراف واشنطن أن استخدام العقوبات “يمكن أن يقوض هيمنة العملة”، فإن العملة الأمريكية ما زالت تمارس قوة جذب قوية على الاقتصاد العالمي.
ما الذي يعطي الدولار كل هذه القوة والنفوذ؟
الدولار هو عملة أكثر من ثلث التجارة العالمية بالدولار، وما يقرب من 90% من معاملات الصرف الأجنبي، ونحو 60% من احتياطيات النقد في البنوك المركزية.
لا توجد عملة أخرى قريبة من حجم هذا النظام الدولاري الكبير.
منطقة اليورو هشة وسوقها للديون السيادية مجزأة في الغالب بين الدول الأعضاء فيها.
والصين لا يمكن أن تلبي الطلب العالمي على الأصول الآمنة بسبب تحكم الدولة في تدفقات رأس المال.
هل يمكن إضعاف الدولار الأمريكي؟
التحول إلى نظام متعدد الأقطاب للعملات ليس وشيكاً، لكنه قد يحدث في وقت لاحق من هذا القرن، مع تقلص حصة أمريكا في الاقتصاد العالمي.
المصدر: مجلة The Economist البريطانية
هي عملية إزاحة تدريجية للدولار لأن الخصوم لا يتعجلون
قد تؤدي جهود إيجاد بدائل للدولار وآخرها عملة البريكس المقترحة، لإضعاف هيمنة الدولار تدريجياً وليس القضاء عليها تماماً.
وبعض الدول التي تكافح للعثور على بديل لا تتعجل حدوث ذلك. الصين على سبيل المثال جزء كبير من احتياطياتها واستثماراتها بالدولار، وهي مستفيدة من قوة الدولار التي تؤدي لتعزيز تنافسية صادراتها للسوق الأمريكية الضخمة.
السعودية ودول الخليج تعتمد الدولار عملة لجزء كبير من استثماراتها، كما أنها ما زالت ترتبط مع الولايات المتحدة والغرب بتحالف أمني وثيق.
أما بالنسبة لروسيا، فإيجاد بديل للدولار يبدو الخيار الحتمي في ظل الحصار الغربي لها.
نحن في الأغلب أمام عملية إزالة للدولرة.
لكنها إزالة تدريجية، وليست سريعة كما حدث للجنيه الإسترليني بعد الحرب العالمية الثانية لصالح العملة الأمريكية، وتعد عملة البريكس المقترحة إحدى الخيارات في هذا المسار التدريجي الطويل.
ليس من المستحيل العثور على بدائل للدولار، ولكن الأمر يحتاج إلى وقت.
حتى إذا “لم تكن دول الجنوب قادرة الآن على التخلي تماماً عن التعامل بالدولار، فإن أغلب تلك الدول أصبح بالفعل غير راغب في التعامل به”، حسب وصف تقرير أمريكي صدر في بداية العام.